مجلة الرسالة/العدد 703/من نكبات الحزبية في تاريخنا
→ فرنسا تَبّرُّ العرب! | مجلة الرسالة - العدد 703 من نكبات الحزبية في تاريخنا [[مؤلف:|]] |
إلى وزارة المعارف: ← |
بتاريخ: 23 - 12 - 1946 |
للأستاذ سعيد الأفغاني
ليس هذا خوضاً في السياسية، فأنا امرؤ ساء ظنه في محترفيها جميعاً؛ وعلى أنى منذ خمسة وعشرين عاماً مولع بتتبع أحداثها في الأقطار العربية وخاصة في الشام ومصر، شغف بعشرة الخبيرين بخفاياها. . لم أخضها يوماً من الأيام كفاحاً وجهاً لوجه لا أنفة منها، ولكن أنفة من حال الخائضين فيها. وإذا سألتني عن السر في تضييع الفرص على الشعوب العربية وحرمانها من خير لم تقصر في السهر علية والجهاد له، أجبتك: (إنه في داء واحد في الأقطار جميعاً هو: أخلاق القادة!)
ارجع بصرك في أحداث الثلاثين سنة الأخيرة، فستجد أن قطراً من الأقطار لم ين عن جهاد صادق سنة من هذه السنين، ولم يبخل على قضيته بنفس ولا نفس. لقد بذل في سبيل ربه ووطنه دماء وأمواله بسخاء كان مضرب الأمثال، ولكن المتصدين للقيادة بهم داء الكلب والتناحر وصغار النفس والتعلق بالسفاسف، لايخافون الله في أمة طوحوا بها في المهالك من أجل تمتع بمنصب أو مال، أو تلذذ بقهر منافس أو معارض. . . غير خجلين من أن يمدوا أيديهم ضارعين إلى أجنبي وصلوا إلى زعاماتهم بمجاهرة أمتهم بعدائه، وهو يتربص بهم يوماً كهذا اليوم تقودهم فيه ضعة نفوسهم إليه صاغرين، فيضرب بهم مستقبل أمتهم ويضيع عليها ثمرات نضالها الطويل، ثم ينبذهم من بعد ذلك إليها نبذ النواة، فإما أن يكون الله كشف عن بصيرة الأمة فجعلتهم نكالا، وإما أن يستغلوا (طيبتها) ثانية فيستأنفوا زعامة من جديد.
ولست أطمع في صلاح نفوس الساسة اليوم، فالله وحده هو الذي يحيي الأرض بعد موتها، ولكني قوي الأمل في الأجيال الناشئة التي لم تشهد أيام الإذعان لسيطرة الاحتلال، ولا عاينت لعب صبيانه بلحى كبارنا وساستنا، وإنما شهدت كفاح هذه القوى الشريرة فنشأت على الإباء والنضال.
إني لأغتنم فرصة احتفال (الرسالة) بالعام الهجري الجديد، فأضع تحت أبصارهم عبرة مائلة لا تنسى أبداً عسى أن يذكروها كلما حاول من سبقوهم أن يجعلوا منهم وقوداً لفتنة تضرمها الأهواء والنزوات، أو كلما نزغ بهم في المستقبل نزغ يحيد بهم عن خير أمته إلى إرضاء أهوائهم، فيذكروا هول الخلاف الذي صلينا جحيمه في صدر دولتنا وما تزال مرارته الأليمة في كل نفس خيرة تدبرت عبر التاريخ.
إني لا أخوض سياسة، وإنما أطلع هذه النفوس المعصومة على عواقب أول خلاف سياسي في الإسلام وما جر من ويلات متتابعات، ناقلا إياه من كتاب انتهيت قريبا من عمله. وأنا أحب أن يجعل الناس بالهم أبداً - كلما قرءوا التاريخ - إلى عبره وتجاربه فيأخذوا من كل شئ أحسنه، ويربئوا بأنفسهم وأمتهم أن يغامروا في تجربة ثبت ضررها وفسادها وخاصة إذا كان الثمن الذي قدمناه فيها دماء عشرات الألوف من أبطالنا:
لقد كان أمر المسلمين الأولين عجباً من العجب: امتلأت نفوسهم بكل ما حباهم ربهم من خير في الإسلام، فأحسنوا فهمه وأحسنوا الاستجابة لرسوله نساء ورجالا. فوطدوا أركانه في الجزيرة، ثم انتقل رسول الله إلى جوار ربه واندفع هؤلاء المسلمون الأخيار في أقطار الأرض يريدون إعلاء كلمة الحق وإنقاذ عباد الله من كل الأجناس والأديان: من شرور الظلم والجهل وامتهان الإنسان؛ فحرر الله على أيديهم بلداناً وشعوباً كثيرة، فأشركوا الناس كافة في سعادتهم وعدلهم وأمنهم. ومن عرف أنهم كانوا قبل عشرين عاماً فقط يأكل بعضهم بعضاً ويعدو قويهم على ضعيفهم، قبائل متعادية، وطوائف يغزو بعضها بعضاً. . . عرف نعمة الله عليهم وعلى الإنسانية بهذا التوحيد الذي ألف بين قلوب ما كانت لتتألف؛ وأدرك المعجزة التي أتى بها الإسلام في توحيدهم وخلقهم خلقاً جديداً جعل من سفكة الدماء أنبياء رحمة ورسل هداية وإسعاد للبشر.
لقد أتوا - وكلمتهم واحدة - بالعجائب في حروب التحرير والفتح ثم البناء والتنظيم، وكان منهم كل الخبر لأنفسهم ولغيرهم فلما صبت الدنيا خيراتها وكنوزها بين أيديهم، وتقادم ما كان جديداً من روعة الدين وعهد الرسول وصاحبيه، وكان أمر الشورى المعلوم، وكثرت في هذه الإمبراطورية الواسعة المناصب والولايات. . . بدأت نوازع الطموح تتحرك في نفوس هؤلاء الأبرار فيكبتونها رهبة من الله. لكن عناصر الشر والغش والفساد من أهل النحل البائدة والأمم المغلوبة كانت أيقظ من أن تغفل عنهم وهي الخبيرة بمداخل الشر ومخارجه، فما زالوا يفتلون لأولئك الطيبين في الذروة والغارب حتى استجاب بعضهم لأهواء نفوسهم من حيث لا يشعرون، ودب دبيب الخلاف بينهم واشتغل بعض ببعض، ووقفت الفتوح أيام على رضى الله عنه حتى خيف على المسلمين من فلول الروم.
أرأيت ما يفعل الخلاف في الدولة القوية الفتية المتماسكة المتينة الأساس؟.
إنه يطمع فيها حتى المغلوب المشرف على الدمار، دع ما أريق في سبيله من دماء غالية بدأت بالخليفة الصابر الشهيد عثمان بن عفان رحمة الله، ثم رفدت بدماء عشرات الألوف. هذا (يوم الجمل) وهو يوم واحد أسفر عن خمسة عشر ألف قتيل على أقل تقدير في بضع ساعات، فلا تسل عما بعده من (يوم النهروان) و (يوم صفيرة) وغيرها من تلك الأيام التي أعملنا فيها سلاحنا في أنفسنا فأوقعنا الوهي في دولتنا والتفرقة في صفوفنا والعداوة في قلوبنا. . . وكان الله قد غسل هذه القلوب وجمع تلك الصفوف.
ولو أن هذه القوى المتطاحنه يوم الجمل ويوم صفين. . . اجتمعت على الخير فسارت إلى قوى الشر شرقاً وغرباً لأكلت الدنيا بقوتها، ولأحالت العالم حينئذ جنة يتحدث بنعيمها وسعادة أهلها الركبان. لكن الله الذي أيد هذه الأمة أول أمرها قضى أن يكون بأسها بينها، فامتلأ تاريخنا بالحروب الداخلية وتحول عن مجراه السعيد الذي كان جرى فيه لخير الإنسانية عامة؛ قضاء من قضاء الله لا حيلة فيه. ولست أدري ما يكون حال دنيانا الآن لو أن العرب لم يفسدها الخلاف والتطاحن ولم تنزل بأسها بينها؟
ولو ذهب باحث يحصى هذه الدماء المراقة في سبيل الخلاف منذ قتل عثمان حتى اليوم، في المشرق والمغرب والأندلس. . . إذا لأفزعته هذه الملايين منها، ملايين لو بذلت في سبيل الحق لكان تاريخ العالم كله على غير ما نعرف، ولكنا أهل الحضارة حتى الآن وإلى الأبد لا يلم بشمسنا أفول.
وقد خاف رسول الله صلى عليه وسلم على أمته آثار الخلاف، فسأل ربه - فما سأل - أن يجنبهم إضراره، إذ علم أن هذه القوى الهائلة المتراصة التي عمرها إيمان لم تعرف الأرض له مثيلا كفيلة بفتح الأرض كلها لدعوة الخير والحق، لا تقف لها قوة إلا أن تنشق هي على نفسها فرووا عنه أنه قال: سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة:
سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة (القحط) فأعطانيها.
وسألت ربي ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها.
وسألت ربي ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها.) ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
انقضت الخلافة والخلاف بخيرهما وشرهما، ولم يبق منها إلا هذا التاريخ بين أيدينا مملوءاً بالعبر: فلنتعظ به، ولنحذر أي تفرقة بيننا بكل ما نستطيع، ولتكن تلك الدماء الذاهبة ضياعاً حافزة لنا على الواحدة وجمع الكلمة، فلا نعيدن فاجعتها جذعة، ولنهرب من كل خلاف وتفرقة هرب السليم من الأجرب فإنهما يبدأن صغيرين لا يؤبه لهما ثم يعظمان حتى يلتهمان الأخضر واليابس.
وإن أعجب لشيء فلأولئك الذين مازالوا يجتمعون ويتفرقون متجادلين في هؤلاء الصحابة الأخيار: أيهم المؤمن وأيهم الكافر؟ أيهم على الحق فيحمد وأيهم على الباطل فيذم؟ ويتقربون إلى الله في لعن رجال: ما منهم أحد إلا وله السوابق الحسان في نصرة الإسلام وإملاء كلمة الله والدفاع عن رسوله، وما فيهم إلا من بذل ماله ودمه ودم أهله للخير العام، فخلفوا لنا بفضل إخلاصهم هذه البلاد الواحدة على ترامي أطرافها. إنها وحدة جامعة عجزت ضربات الدهر وسطوات الدول ثلاثة عشر قرناً عن أن تنال منها ما يقضي عليها ويمحوها؛ فما زال العراقي إذا هبط أقصى المغرب في مراكش لا يحس بغربة عن أهل ولا وطن. أستغفر الله، بل مازال المسلم الصيني من أقصى الشرق إذا هبط ساحل بحر الظلمات تلقته القلوب بالبشر والترحاب لقد جمعهم الله بمحمد وصحبه على كلمة حق واحدة فلن يفرق أحد ما جمع الله بمحمد وصحبه.
لست بسبيل تعداد المآثر المشهورة لأولئك الأخبار الذين هم موضوع الخلاف كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة. . .، فأصغر أعمالهم عند الله يمحون كل ما يذكر خصومهم من أخطاء، وقد ذهبوا إلى خالقهم الذي أرضوه بأعمالهم ورضي عنهم، وسجل رضاه هذا في قرأنه الكريم يتلى ما بقي على الأرض إنسان.
فلنمحضهم جميعاً محبة واحدة، ولنستغفر لهم ولأنفسنا، ولنذكرهم بكل خير جزاء ما خلفوا لنا من وحدة قوية، ودولة مثالية بنوها بجهادهم في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، جهاداً أرخصوا فيه مهجهم وضحوا بأعز ما يملكون؛ ولنطرح عن عواتقنا مخلفات عصور الانحطاط والشعوبيات، ولنقتد بهؤلاء الأخبار أنفسهم حين يعرض بعض لذكر بعض، فقد نزع الله ما في صدورهم من غل وعادوا إخوانا متحابين كما أمرهم الله أن يكونوا.
وإن الله عز وجل لم يتعبد أحداً بشّم صحابي ولا لعنه، بل عظم من شأنهم وغفر لهم ما أخطئوا قبل أن يخطئوا، ولولاهم لكان العرب اليوم في وثنية أو جاهلية؛ فما هذا جزاء من أنقذنا به من الضلال والفرقة وخلف لنا ملكا وماضياً مجيداً وتاريخاً حافلاً بكل ما يرفع الرأس ويخلد أحسن الذكر وأطيب الثناء. . . .
فرقت السياسات قديماً أمر المسلمين وشتت شملهم، ثم عززها أهل الكيد والدس بغشهم حتى جعلوها تتغلغل في الأديان والعقائد، وصار الدين الواحد أدياناً والأمة الواحدة طوائف شتى وما الأمر كله بالذي يستدعى بعض ذلك، فلنأخذه بالتوسعة والتسامح، ولكل رأيه في السياسة وفهمه للتاريخ فلا يضيقن أحد بفهم أخيه، ولا نجعلن خلاف الرأي في السياسات الماضية (والحاضرة) والحزبيات البائدة (والحاضرة) مفرقا وحدتنا وصادعاً شملنا ومخمداً نارنا، ولا نجعلن هذه الأحقاد والعداوات تتوارث إلى يوم الدين.
إن الأمم من حولنا كالجياع على القطاع، فلن يجدينا في موقفنا اليوم ذلك الجدل ولا تلك الفرقة، بخويصة أنفسنا ما يشغلنا عن هذا الباطل، وفي مطالب الحياة الجادة ما يلفتنا عن التفرق. . . فلنقابلها صفا واحداً وأمة واحدة كما بدأنا الله، ولننبذ عصور الظلام وآثار الجهل وضيق الأفق بمخلفاتها جميعاً.
إن ربنا واحد وكتابنا واحد ورسولنا واحد، فلنعد أمة كما أراد الله لنا ولنبرأ من كل فتنة وخلاف وفرقة. فالظروف عصيبة ونحن على مفترق الطريق، وإننا لمحاطون بالأعداء داخلاً وخارجاً، وهم دائبون على توسع الشقة بيننا؛ فلا نعينهم على أنفسنا، ولا نضعن في أيديهم السلاح الذي يقتلنا ويجعلنا لهم طعمة سائغة.
ليت الله إذ جمع على هدى أمرنا لم يجعل للفرقة إلينا سبيلاً، ولا جعل بأسنا بيننا، وليت هذه السابقة التي هونت على الأمة الواحدة أن يقاتل بعضها بعضاً لم تكن قط.
فليت الظعينة في بيتها ... وليتك (عسكر) لم ترحل
ثم ليتنا بعد هذا كله نعتبر بما في الخلاف من ضرر بالغ في كبير أمرنا وصغيره!
سعيد الأفغاني