مجلة الرسالة/العدد 703/علوم البلاغة في الجامعة
→ إلى وزارة المعارف: | مجلة الرسالة - العدد 703 علوم البلاغة في الجامعة [[مؤلف:|]] |
العلاقة بين بغداد والقاهرة في عهد الفواطم ← |
بتاريخ: 23 - 12 - 1946 |
للأستاذ علي العماري
- 6 -
قلت فيما سبق إن رجال الجامعة لم يصنعوا شيئا في تجديد البلاغة العربية، غير
أن ملئوا غرف الدراسة، وأذهان الطلاب بالطعن على المتقدمين، والتنويه بقصورهم، فلننظر فيها بين أيدينا من كتب لنرى مصداق ذلك. في سنة1931 ألقى فضيلة الأستاذ الشيخ أمين الخولي محاضرة في الجمعية الجغرافية الملكية وسماها (بحثا تاريخيا تجديديا) تحدث فيها عن صلة الفلسفة بالبلاغة العربية، وتكلم طويلا عن نشأة البلاغة وتطورها والمدارس التي احتضنتها، ثم تحدث عن الدراسة في كلية الآداب ودعا إلى تجديد البلاغة تجديداً شاملاً وكان مما قاله (وهي - يعني الكلية - في إخلاص المجدد المستنير بالتاريخ تستطيع أن تختط طريق الدرس الفني وتجعله واضح المعالم مغايراً لطريق البلاغة التي سميناها البلاغة العلمية، كما عزمت على أن تتلاقى ما كان من أثر الفلسفة في تجدد البلاغة وقصور بحثها، لأن إلزامها حدود دراسة الجملة قد حرمها من أبحاث ضرورية للفن الأدبي، أبحاث نراها في بلاغات اللغات الحية ويحب أن نتناولها بالدرس، ومن تلك الأبحاث البحث في الأسلوب واختلافه وأوجه تفاوته، ومزايا أنواعه المختلفة، ومن ذلك البحث فيما وراء المغنى الجزائي - تشبيه، استعارة - كناية - من معنى كلي وعرض يقصد إليه الأديب. . . الخ)
أبحاث كثيرة يدعو الأستاذ إلى تناولها بالدرس، وبذلك يجدد البلاغة العربية.
ظفر في فم الأماني حلو ... ليت منه لنا قلامة ظفر
وتمضي خمسة عشر عاما كان يمكن أن ترى فيها أثرا لهذه الدعوة، ولكنا نفاجأ في سنة 1946بكتاب للشيخ أمين يسميه (فن القول) ويقول في الصفحة الرابعة منه (إني أحس إحساسا قويا عنيفا بحاجة حياتنا الأدبية واللغوية إلى دراسات كثيرة واسعة لم نقم بها، ولا هيأنا السبيل لإتمامها؛ ولو استطعنا أن، نعرف بها ونقنع بضرورتها، وندفع بمحاولات أولية فيها لنخلق الجيل الذي يقوم بها ويتمها فذلك خير ما نسدي لعصرنا، وجل ما نؤدي به واجبنا. ولن أظن لحظة أننا قد أوفينا في ذلك على الأمل المرجو، والمثل المنشود أبدا، لأن الميدان خال بل مقفر. وسترى في البلاغة التي تزاول درسها هنا مثلا لذلك بينا) وإذن فالشيخ أمين لم يصنع شيئا في هذه المدة الطويلة، ولم يصنع غيره كذلك لأن الميدان (خال بل مقفر) فهل يكون هذا الكتاب الذي يخرجه هو العمل المرجو في تجديد البلاغة؟ هذه محاضرات ألقاها في معهد الدراسات العليا، وقد وصلني منها 120 صفحة، وباقيها في المطبعة كما أظن، وكان من حق الشيخ علينا أن ننتظر حتى يتم طبع المحاضرات، ولكنا نقول هنا كلمة ولا يزال الباب مفتوحاً، مائة وعشرون صفحة هي مقدمة لعمل تجديدي في البلاغة، فماذا تناول فيها؟ تحدث في أربع عشرة صفحة عن التفسير الحيوي والاجتماعي لفكرة إنشاء المعهد، ثم التفت إلى ما كان نشره من محاضرات ومقالات فأعاد نشرها بشيء من البسط والإسهاب، فتكلم عن نشأة البلاغة عن منهج دراستها عندنا وعند غيرنا، وتحدث عن اللغة العامية واللغة الفصحى ومشكلات اللغة الفصحى كل ذلك في هذا العدد الضخم من الصفحات اعتبره مقدمة لكتابه. أليس ذلك حسنا؟ لقد ذكروا أن أحد الرجاز أتى نصر بن سيار والى خراسان ومدحه بأرجوزة تشبيها مائة بيت ومديحها عشرة أبيات، فقال نصر: والله ما تركت كلمة عذبة ولا معنى لطيفا إلا وقد شغلته عن مديحي بتشبيبك. وأنا أرجو ألا كون كتاب (فن القول) كهذه الأجوزة.
لكن جزءا من دعوة الشيخ أمين قد تحقق، فقد أخرج الأستاذ أحمد الشايب كتاب (الأسلوب) وتكلم فيه عن كل المباحث التي دعا الشيخ إلى تناولها، فهل هذا الكتاب عمل تجديدي؟ لننظر. والذي نراه أن الأستاذ الشايب عمد إلى جهات ثلاث فاختطف منها كتابه.
(1) ترسم خطى أرسطو في خطابته، فقد تحدث هذا عن الأسلوب وقيمته ووضوحه وصفاته الخاصة، والشروط العامة للأسلوب، وفتور الأسلوب وسلامته وشروط ذلك، وشرح ثراء الأسلوب وبسطته ووسائط ذلك، كما بين الأسلوب الكتابي والأسلوب الخطابي والأسلوب الشعري والأسلوب النثري وتحدث عن اختلاف الأسلوب باختلافات الموضوعات وغير ذلك.
(2) سطا على أبحاث المتقدمين من أمثال عبد القاهر والجاحظ وقدامة وابن رشيق والآمدى وصاحب المثل الثائر والقلقشندي فاختطفها اختطافا، وحسبك أن ترجع إلى ما كتبه العمدة عن فنون الشعر، وما كتبه قدامة في نعت الوصف ونعت الهجاء ونعت الرثاء ونعت المديح ونعت التشبيه، ثم تقرأ كلام الأستاذ الشايب فسوف تعتقد معي أن المسألة كما يقولون (حذو القذة بالقذة).
وأما عبد القاهر فأمره معروف فقد كتب كتابا خاصا في النظم الذي يسميه الأستاذ (الأسلوب) قال (للخفة والشيوع) والجاحظ كتب عن صحة المعاني وفسادها ومناسبتها للألفاظ، وحسبنا هنا الإشارة.
(3) الغربيون - كما يقول الشيخ أمين - يعنون في البلاغة بدراسة الأسلوب، ويقول غير مرة إن هذه الأبحاث التي يدعو أليها - وهي قوام كتاب الأستاذ الشايب - مما عنى بع الغربيون عناية تامة، ويخص بالذكر كتاب الأسلوب الإيطالي للباريني.
ولا نستبعد - بل إننا لنوقن - أن الأستاذ الشايب نظر طويلا في البلاغة الغربية وأخذ عنها، وإذن فهل لنا أن نقول كما قال بعض النقاد الظرفاء: (لو قيل لكل معنى في شعر حميد بن ثور ارجع إلى صاحبك لما بقى في يده شئ).
وأعتقد أنا لو حذفنا منه هذه الأبحاث القديمة العربية لبقى الكتاب أبيض مغسولا. على أنه فوق ذلك كتاب وصفي وعمل البلاغة إنما هو وضع القوانين التي إذا ترسمها الأديب استطاع أن ينشئ، وهذا الكتاب في أكثر مباحثه أشد صلة بأدب اللغة منه بالبلاغة، وإن ذكر مؤلفه أنه وضعه في البلاغة، وقدم له بأبحاث فيها.
ومهما يكن من شئ فلازلنا من أن الجامعيين تركوا البلاغة العربية كما كانت على عهد السكاكي، وإذا كانوا صنعوا فإنهم لم يزيدوا على أن رجعوا إلى كتب البلاغة قبل السكاكي، وكتب النقد الأدبي فاغترفوا منها، وهذا عمل يشاركهم فيه كثير من أبناء دار العلوم ومن أبناء كلية اللغة العربية بالأزهر، فأين هو التجديد يا رئيس الأمناء؟!
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة الثانوي