مجلة الرسالة/العدد 701/علوم البلاغة في الجامعة
→ لمحات قضائية في قتل عثمان | مجلة الرسالة - العدد 701 علوم البلاغة في الجامعة [[مؤلف:|]] |
الأدب في سير أعلامه: ← |
بتاريخ: 09 - 12 - 1946 |
للأستاذ علي العماري
- 5 -
يعيب علينا بعض الكاتبين أننا نستأنس بما كتبه المتقدمون في مقالاتنا هذه التي ننقد بها بعض آراء الجامعة في البلاغة، ويزعمون أن المتقدمين كانوا أصحاب أذواق مريضة، ومن العجب أن حجة الكاتب على ما يكتب هو ما ينقله عن بعض كتابنا المحدثين، أفيحرم علينا أن نستضيء بإمام البلاغة الشيخ عبد القاهر الجرجاني، ويحل لي أن يتكئ على ما يقوله بعض المحدثين؟ ليفتنا هؤلاء العلماء الأعلام الذين وجودوا في أدب عبد القاهر وبلاغته غذاءهم وريهم، وإذا أنكر منكر على هذا الأمام شيا فلن يكون هذا الشيء ذوقه. يعرف ذلك العالمون المنصفون، ثم أني كنت اعتزمت أن أرد على هذا الذي يجادلني على صفحات (الرسالة)، ولم يجد سبيلا أهدي إلى الحق من أن احتكم إلى عقول قراء (الرسالة) وكثيرون منهم يفهمون هذه المسائل على وجوهها الصحيحة، وهي بين أيديهم.
وعجيب أن نعيب على المتقدمين جهودهم في خدمة علوم البلاغة ونحن لم نفعل شيئا، لقد ظل علماء البلاغة منذ القرن الثاني للهجرة إلى أوائل القرن السابع وهم ينشئون هذه العلوم وينمونها، حتى اكتملت قواعدها على يد أبي يعقوب يوسف السكاكي، فلما جاء من بعدهم من العلماء وقف بهم الاجتهاد، ولكنهم جاهدوا وجهدوا، وخدموا هذه العلوم بما لا نرى موضعا لتفصيله الآن، فماذا صنعنا نحن؟ ملأنا أذهان التلاميذ، وغرف الدراسة بالعيب على المتقدمين والنيل منهم، والطعن في كفاياتهم، ولكن من غير أن نبني قاعدة، أو نهدم بصيرة ونصفة قاعدة، وأني لا أرى خير ما يتمثل به في هذا الموضع المثل العربي: (اسمع جعجعة ولا أرى طحنا).
وقد سمعت أن فضيلة الأستاذ الشيخ أمين الخولي يريد أن يرد على مقالاتنا هذه التي يسميها (حركة رسالة) بكتاب في البلاغة يخرجه للناس؛ وإنا منتظرون بفارغ الصبر هذا الكتاب انتظار المتعطش إلى التجديد في هذه العلوم، وقد نكون أول من يرفع الصوت في امتناحه إذا وجدنا فيه ما يعدون به، ولعله لا يكون صورة لهذه الرسائل الصغيرة التي أخرجها الشيخ ونقدنا بعضها، ثم نعود إلى مناقشته في بعض مسائل القصر إتماماً لما كن بدأنا به.
2 - لا يرتضي تعريف العلماء للقصر الإضافي فيطالعنا هو بتعريف آخر دعاه إليه - فيما نظن - رغبته في أن يربط علوم البلاغة بعلم النفس وهو نوع من التجديد، ووجد انسب ما يلصقه بالقصر الإضافي هذا الذي يسميه علماء النفس (تداعي المعاني) فما يمنع أن يكون القصر الإضافي نظر فيه إلى هذه الفكرة النفيسة؟ والذي حفظناه من مشايخنا وقرأناه في كتب العلماء أن القصر الإضافي يكون حين تتمثل صفتان في ذهن، فد يعتقد اجتماعهما في موصوف وأنت تريد أن تبين له خطأ هذا الاعقتاد فيكون قصر الأفراد، وقد يعتقد ثبوت إحداهما دون الأخرى وأنت تريد أن تعكس عليه اعتقاده فيكون قصر القلب؛ وقد يحاور في أمر الصفتين فإذا اثبت له إحداهما ونفيت الأخرى كان قصر التعيين؛ فمدار القصر الإضافي إذن على صفتين أو أكثر في ذهن المخاطب وأمام بصيرته، وله فيهما اعتقاد، لكن الشيخ يقول: (وأساس القصر الإضافي ما يقرره النفيسون، ويسمونه تداعي المعاني، أي أن المعاني يرتبط بعضها ببعض بطريقة الضدية أو المناقضة أو المنافاة أو التلازم أو التكامل. والقصر الإضافي في الكلام قائم على إفراد معنى من المعاني لا على أنه لا يوجد سواه في الموصوف، ولكن على أساس أن تبعد سواه هذا عن تفكير المخاطب، أي أن هذا النوع حاجز بين الصفة التي تريد إثباتها للمتحدث عنه وبين ما يمكن أن يقفز إلى ذهنه من الصافات عند ذكر هذه الصفة، فمثلا تقول ما نريد إلا رياضي، فعند ذكر كلمة رياضي يحدث تداع في المعاني فتجول في الذهن صفات أخرى نحو مهندس. فلكي. موسيقي. مخترع. أديب. ولكن إذا قصرت وأتيت بالأسلوب على هذا النحو فقد أبعدت كل هذه الوجوه) وهذا كلام واضح وصريح في أن المقصود من القصر هو أبعاد ما عسى أن يجول بذهن المخاطب من الصفات التي تتصل بهذه الصفة المثبتة، وكأنه ليس عند المخاطب صفة ينكرها وأخرى يثبتها، وينبني على هذا - ولا شك - فساد في التقسيم الذي ذكره العلماء للقصر الإضافي. وقبل أن نرد على الشيخ نحب أن نذكر له ولمن يعيب علينا استدلالنا بكلام المتقدمين، أن الشيخ عبد القاهر رحمه الله، تنبه لهذه الفكرة، ولكنه لم يكن يعرف تداعي المعاني أو تناديها فلم يملأ الجو صياحا عجيج، يل مر يذكر المسألة في بساطة وسهولة فقال في كتابه دلائل الأعجاز (واعلم أن قولنا في الخبر إذا أخر نحو ما زيد إلا قائم) انك اختصصت القيام من بين الأوصاف التي يتوهم كون زيد عليها ونفيت ما عدا القيام عنه، فإنما نعني انك نفيت عنه الأوصاف التي تنافي القيام نحو أن يكون جالسا أو مضطجعا أو متكئا أو ما شاكل ذلك، ولم نرد أنك نفيت ما ليس من القيام بسبيل إذ لسنا ننفي عنه بقولنا: ما هو إلا قائم أن يكون اسود أو ابيض أو طويلا أو قصيرا أو عالما أو جاهلا، كما أنا إذا قلنا: ما قائم إلا زيد لم نرد أنه ليس في الدنيا قائم واه، وإنما نعني ما قائم حيث نحن وبحضرتنا وما أشبه ذلك) ونلاحظ أن الشيخ عبد القاهر كان دقيقا كل الدقة فلم يقل إن هذا في القصر الإضافي، وإنما ساقه على أنه فكرة عامة في القصر، وأمثلته صالحة لأن تكون قصرا حقيقيا تحقيقيا أو إدعائيا، وأن تكون للقصر الإضافي ولكن بشرط أن يعين المخاطب في ذهنه المثبت والمنفي. ثم نرد على الأستاذ فنقول له: ارجع إلى شواهد القصر الإضافي فسترشدك إلى أن النزاع يكون في شيئين ماثلين في ذهن المخاطب، ولنسق نحن جملة من الشواهد الفصيحة يقول الله تعالى: إنما أنت مذكر ليست عليهم بمسيطر. وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير. ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم. أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا. لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون. ويقول ﷺ: ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب. إنما أنا قاسم والله يعطي. وهكذا إذا تتبعنا الأمثلة التي صرح فيها بالمثبت والمنفي وجدنا أن كليهما معلوم للمخاطب وله فيه نظرة، فإذا كان المنفي عاما لم يكن هذا من القصر الإضافي، ولذلك يقول بعض العلماء إن قول الغطمش الضبي:
إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني ... أرى الأرض تبقى والأخلاء تذهب
من القصر الحقيقي، ولست - والله - ادري من أين جاء للشيخ أن الغرض من القصر الإضافي أن نحول بين ذهن السامع وبين صفات أخر تتوارد عليه لها بهذه الصفة المثبتة صلة ورباط؟!
3 - وقد انتهى العلماء منذ زمن بعيد من تقسيم القصر الإضافي، ووقفوا عند قصر الأفراد والقلب والتعيين باعتبار حال المخاطب في اعتقاد الشركة أو العكس أو التردد، ولكن الأستاذ يتنبه إلى أن القسمة العقلية كانت تقتضي قسما رابعا وذلك في حال ما إذا كان المخاطب خالي الذهن، وينعى على العلماء إهمالهم هذا القسم الرابع يقول (وعلى ذلك يتضح لنا أن إغفال الحالة الرابعة وهي حالة خلو الذهن في باب القصر غير مبني على نظر صحيح). (فمثلا يجوز لك أن تقول لخالي الذهن تماما: لا اله إلا الله اعتمادا على ما يقدرونه في علم النفس من أن الخطأ الأول يصعب إصلاحه، والصورة الأولى يعسر محوها).
(أما نحن فنقول لهم إن أسلوبكم يقتضي أن ترددوا مواقف المخاطب بين هذه الأحوال الأربعة فلم اغتنم الحالة الرابعة؟) والذي نؤكده أن تقسم العلماء مبني على نظر صحيح، وأنه لا حالة رابعة هناك حتى نتهمهم بأنهم أغفلوها، وأدنى نظر في طبيعة القصر الإضافي يرشدنا إلى ذلك فلا يدفعه أن يكون المخاطب عارفا بالمثبت والمنفي فأنت تقول له: شوقي شاعر لا كاتب إذا كان يعلم هاتين الصفتين في شوقي فيثبتهما معا أو ينفي أحدهما أو يتردد فيهما، أما إذا قلت هذا القول وهو يجهل كل الجهل شاعرية شوقي وكتابته كان كلامك خلفا من القول، وبعيدا عن اعتبار البلغاء، فإذا أردت أن تلاحظ هذه العلة النفسية، وأن تؤكد له من بادئ الأمر رجعنا إلى جهة أخرى وهي الكلام على مقتضى الظاهر، ويقال حينئذ إن المتكلم نزل المخاطب الخالي الذهن منزلة المنكر أو المتردد أو العاكس ويرجع الأمر إلى قسم من هذه الأقسام الثلاثة، والعلماء انما يدركون المقاسم الأصلية، أما الأمور المنزلة فيرجعونها إلى مشابهاتها، ومعروف ذلك عند من درس فهم يجعلون اضرب الخبر ثلاثة، ثم ينزلون المنكر منزلة غير المنكر، وينزلون غير المنكر منزلة المنكر، وهكذا. ولا يحق لنا أن نقول إن هذه اضرب أخرى للخير، على أن المثال الذي ذكره الأستاذ (لا اله إلا الله) لخالي الذهن لا يصح مطلقا أن نجعله من القصر الإضافي، وإنما القصر فيه حقيقي تحقيقي، وهذه الأقسام الثلاثة كما هو معروف لا تتأتى في القصر الحقيقي.
4 - وهذا بحث جديد يريد أن يطالعنا به أستاذ الجامعة. العلماء قصروا في أغراض القصر، وحصروها في النفي والإثبات وهو أمر يجب أن نؤاخذهم به (والذي نأخذه على صاحب الإيضاح ومن لف لفه من البلاغيين أن شعورهم كان يجب أن يتسع حتى يمل ما وراء القصر بأنما من أنواع القصر، فكان يجب أن يوسعوا حسهم أكثر من ذلك فليس القصر للإثبات والنفي بل هو للتضييق والتحديد). (فلعله ثبت مما قلناه إن للقصر مرامي أخرى وراء المعنى النحوي أهملها البلاغيون) وهذه الأغراض التي ذكرها ومثل لها هي غرضان: التوهين ومثل له بقوله تعالى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) والتأنيب ومثل بقوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم) قال:
إذا نظرنا إلى قوله تعالى: ومن ينقلب على عاقبيه فلن يضر الله شيئا. وجدنا أن التعبير بكلمة رسول عنصر أساسي في المعنى قصد به التوهين من شأن الرسول في هذا المقام. محمد دِهْ يطلع إيه؟ مرسال زي بقية المراسيل ييجي ويروح. القصر هنا واضح في أن المقصود به التوهين من اثر الرسول في الدين ولذلك جاءت تسميته هنا برسول ولو قال نذير. هاد. سراج. لقطع الطريق على هذا الغرض) وقال: (ما قلت لهم. . الآية. هذا التأنيب المؤلم مستفاد من وراء الألفاظ، وهو هنا المرمى البلاغي للقصر ويدل عليه) وقبل أن نرد على هذا الكلام المتداعي نذكر ما قاله العلماء في أغراض القصر حتى ننفي عنهم تهمة انهم ضيقوا حسهم أو قصروا. قالوا من دواعي القصر (1) داعي القصر الحقيقي التحقيقي بيان الواقع (2) داعي القصر الادعائي المبالغة وعدم الاكتراث بما عدا المقصور عليه (3) الرد على المخاطب في قصر القلب وقصر الأفراد (4) تعيين المبهم عند المخاطب في قصر التعيين (5) قد يقصد من القصر مجاراة الخصم (6) التنبيه على أمر هو مقتضى الكلام والغرض منه وجعل القصر وسيلة إليه وذلك كثير في انما (7) تنزيل غير المنكر منزلة المنكر لاعتبار مناسب فيخاطب بأسلوب القصر.
أما ردنا على ما ذكره من أغراض فواضح أنه ليس الاقصد في الآيات الأولى الحط من مقام الرسالة في الدين، وهل يريد الله سبحانه وتعالى أن يقول إن محمدا ليس شيئا؟! لا. يا شيخ! المسألة أن الله تعالى يقول لهم: لا معنى لتعلق الدين بمحمد فإن الرسل قبله ماتوا وسيموت هو مثلهم ولا ينتهي الدين الذي يدعون إليه بانتهائهم لان مهمتهم الرسالة والتبليغ، والرسالة ولو أنها أمر له قيمته وخطره لكن لا يجب أن يتعلق إيمان الناس بمدة حياة صاحبها فهو انما يدعو إلى الله. ولعل مما يدل على ذلك أن العرب لم يفهموا أن القصد التوهين من شأن الرسالة، وهذا أبو بكر يستشهد بها يوم وفاة الرسول، فهل كان يريد أني يقول لهم: إن محمدا ليس شيئا في الدين؟ ما نظن ذلك ولا نرضى لمسلم أن يظنه. وأما التأنيب في الآية الثانية فليس مستفادا من القصر وأنما مستفاد من السياق. استفهام تعجبي، واتخاذ آلهة من دون الله، وهو صادر عن النبي، وهو المدعي عليه أنه دعاهم إلى عبادته وأمه (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله؟) هذا كثير، ومدعاة إلى تأنيبهم، أما القصر فلا يفيد التأنيب، وهب عيسى عليه السلام لم يقل إلا جملة القصر أكان يستفاد منها التأنيب؟ وبذلك تسقط دعواه أن التوهين والتأنيب غرضان من أغراض القصر، ووقفنا عند الأغراض التي ذكرها المتقدمون، ولا تزال في انتظار الجديد.
علي العماري
المدرس بمعهد القاهرة الثانوي