الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 700/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 700/الكتب

بتاريخ: 02 - 12 - 1946


دعوة في وقتها:

الرسالة الخالدة. . .

بقلم الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا

الأمين العام لجامعة الدول العربية

عرض وتعليق

للأستاذ عبد المنعم خلاف

(تتمة)

أما ثالوث الفساد فهو الغدر والكذب والنفاق، وقد أصبح اصطناع هذه القباحات فلسفة سياسية خطرة. والغدر غير الخدعة في الحرب، فإن الخدعة قدرة أمرها متعارف عليه مباح في قوانين الحرب بخلاف الغدر فهو خسة وعجز عن المواجهة بالقوة. وهو قبيح حتى بين الأشقياء واللصوص، والكذب في السياسة والرياء فيها صار طابعاً عصرياً يفخر به ساسة هذه العصور المتأخرة منذ أن سن لهم (مكيافللي) طريقته التي ينكرها الإسلام الذي لا يعرف إلا سياسة الوضوح والصدق، ويرى الكذب والنفاق صفتين أدنأ من الكفر (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار)

في البحث عن سند روحي للحضارة

في فصول هذا الباب الستة يتجلى عزام باشا كرائد إنساني عظيم من الباحثين عن سلام العالم ونظام جديد له، وهو يقف في الشرق الأدنى بين العقلية الشرقية والعقلية الغربية حين يحاكم آراء (ويلز) و (سانكي) في الغرب و (غاندي) و (نهرو) في الشرق

وهو يبدأ بالسؤال الآتي: هل الوصاية على الحضارة للأقوى أم للأتقى؟ ويستقرئ مراحل تاريخ المدنية للإجابة على هذا السؤال فيراها شعلة متنقلة بين الأجناس لم تثبت في مكان واحد ولا دامت لقوم وحدهم، مما يدل على أن التاريخ يأبى أن يشهد لقوم دون قوم بالصلاح الذاتي والاختصاص بالقدرة على حمل رسالة الحضارة

وقصور علم الإنسان (أنثروبولوجي) عن إدراك الفروق الروحية بين الأنواع لا يسمح لنا بالاعتماد عليه في تفضيل قوم على قوم والفروق البدنية لا تكيف الحضارة، لأن أغلب الأنواع خليط من دماء وأجناس مختلفة قبل الحدود الأخيرة

وإنما الحضارة بجميع نتاجها المادي والأدبي أثر للحالات النفسية وغير لازمة للصفات البدنية التي تميز قوماً على قوم. وهذا مصداق للقانون القرآني: (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)

وتداول العلم والجهل دليل على استعداد مشترك ومتساو للخير والشر، وهو يشير إلى وحدة الروح وتساويها، وبعبارة أخرى وحدة القوى الذهنية أو تشابهها. وهذا يكفي لنفي امتياز عنصر على عنصر بصفات ذهنية تجعل لأحدهما رجحاناً دائماً.

ومتى وضح ذلك انهارت الدعاوى العنصرية وانهار معها مبدأ القوة كسند للحضارة. فالقول بالحق للأقوى هو قول يرجح بعض الأقوام على بعض دون سبب طبيعي، ويبيح استبداد القادرين بالمستضعفين، وهو أمر تأباه الحقيقة الدينية والشريعة المحمدية خصوصاً كل الإباء، فهي قد جعلت الناس سواسية، وجعلت الوصاية للأتقى والأبر

وقيام المدنية ودوامها رهين بالقانون القرآني (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فما من قوم خرجوا على الدنيا برسالة العمران والعرفان إلا كانوا مهيئين لذلك بإيمان قوي وأدب قوي ودعوة قوية. وذلك الإيمان والأدب والعرف الصالح هو بارود القذيفة تدفع الأمم بقدر ما فيها من قوة واستقامة. وساعة الفصل بين التقدم والتأخر رهينة بحلول السيطرة المادية محل السيطرة الروحية، حين تغلب شهوات الأبدان شهوات الأرواح ويتغلب الترف الذي يورث أهله الضعف عن حمل أمانات الحضارة

ولا منقذ لهذه الحضارة الحالية من وعيد الله، إلا أن يرزق الله العالم بقوم خماص البطون يحبون الكفاح للحق كما يحب المترفون المال والمتاع، ويرثون هذه الحضارة ويردون للدنيا ذلك العقل الضائع والإيمان القوي

ولابد من وضع نظام جديد للعالم يجعل الوصاية على الحضارة دائماً للأتقى، ولأجل ذلك يجب أن نتحرر من النظريات القديمة التي كانت موضوعة للعالم قبل أن يضيق نطاقه وتتقارب مسافاته بسرعة النقل. والمدنية في رأي (كبلنج) هي النقل. وعلى ذلك يكون الفرق بين عالمنا والعالم القديم هو ما بين سرعة النقل في العالمين

ويجب أن نراعي في وضع النظام الجديد فروق السرعة بين ما في عالمنا وعالم الغد، فلا نضع نظاماً جامداً بل مرناً يسمح بالتصرف في الأزمان الآتية، وهذا يكون بوضع نظام سلبي نمتنع فيه بتاتاً عن تسليط ما بأيدينا من قوى التدمير والتخريب وعن مضاعفة العوامل التي اضطرب لها وجودنا، ولا أمل في شيوخ الساسة والعامة، بل الأمل في القدرة العليا التي جعلت الحياة الإنسانية مرنة تتكيف بحسب الظروف. ولنؤجل النظم المثالية المجردة ولنبدأ بعمل الواجب قبل المطالبة بالحق، ولندرب الناشئين على فهم ذلك، لأنه هو الطريق المجرب في الإصلاح دائماً، ولنجعل أعمال الواجب والتضحية هي أعمال الفخر والتقدير، ولنحول الغرائز ونتسام بها، ولنصلح الرأسمالية بعد أن تضاعف خطرها باستخدام الآلة التي ضاعفت من مشكلة التعطل، ولنضح بالاستعمار لنجاة الحضارة، ولنفهم أن عالمنا واحد لا يتجزأ السلم فيه، فيجب أن تكون له قيادة عالمية مشتركة تتدرج إلى حكومة عالمية. وسبيل ذلك أن نوجه النشء إلى أن تكون الحكومة العالمية هي أملهم وذلك باتخاذ تربية عالمية بجوار التربية القومية وبتعويدهم الغضب للمصلحة العالمية العامة.

ويجب أن نتعهد النواة الصالحة في (هيئة الأمم المتحدة) ونحذر اليأس ونصبر ونصابر حتى تصير هذه الهيئة محكمة حقيقية للأمم تضحي في سبيل استمرارها وقدرتها كثيراً من حقوق السيادة عن طيب خاطر.

في انتشار الدعوة

فصول هذا الباب الأربعة تعتبر ملحقاً بالكتاب يبين تاريخ انتشار الإسلام منذ ظهوره، والمقصود بهذا الباب هو دفع التهم والأوهام التاريخية في زعم أن الإسلام انتشر بالسيف والإكراه. ولابد من إدراك ما في هذه الفصول كخطوة أولى في سبيل فهم القوة الذاتية للإسلام، تلك القوة التي تدفعه إلى الانتشار بما فيه من الحق والصلاح والاقتناع، لا بالإكراه ولا بقوة السلاح.

وقد بين المؤلف تاريخ انتشار الإسلام في الوثنيين وانتشاره في الأمم المسيحية المحيطة بمهده الأول، وانتشاره في (الصليبيين) الذين جاءوا لمحوه ومحو أهله فسحر كثيراً منهم وجندهم له.

ثم بين تاريخ انتشاره في الأمم الأوروبية. وفي كل هذا البيان اعتمد على المراجع الأوروبية المنصفة وعلى الأسانيد والتحليل للعوامل والظروف، بما جلى تاريخ انتشار الإسلام بالحجة والإقناع

ختام

وقد ختم الكتاب بهذه العبارة التي تناشد الروح الجديدة في الشرق أن ينهض برسالة الإنقاذ. قال:

(وبعد) فهل يكتب لسكان الشرق من المسلمين والمسيحيين الذين تتعلق نفوسهم دائماً برحمة الله وتترقب هداه إذا اشتدت الكروب والظلمات، أن ينهضوا مرة أخرى بميراثهم السامي الذي يقوم من عوج النزاع الفكري والاقتصادي والعنصري، ويلطف من حدة المزاج الغربي، حتى يؤمن بالأخوة الإنسانية ويعمل لخدمة السلام العام بإخلاص نية وحسن توجيه، بما مكن الله له في الأرض!

ذلك ما نسأل الله رب العالمين أن يعجل بتهيئة أسبابه (إن الله بالناس لرءوف رحيم).

هذا ختام الكتاب، ولكنه بدء دعوة ستجد من يحملها بقوة وإيمان، لأنها نداء الحياة والزمان وروح الحضارة العالمية التي اشترك في حمل شعلتها جميع الأمم، والحياة الحالية نبوة! نبوة الطبيعة وقوانينها وحقائق الأشياء وبراهينها فلا تحتمل شكاً أو جدلاً في قيمتها، وإنما تحتاج إلى الفهم والإيمان والإخلاص والعمل لإنقاذ الإنسانية وإنقاذ الحضارة من فلسفات الشك والهدم والمادية الصماء.

عبد المنعم خلاف