مجلة الرسالة/العدد 70/نُذُرُ الحرب الجديدة
→ كيف كنت حلاقا | مجلة الرسالة - العدد 70 نُذُرُ الحرب الجديدة [[مؤلف:|]] |
عودة. . . ← |
بتاريخ: 05 - 11 - 1934 |
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تشهد معظم العواصم الأوربية منذ اشهر فترة غير عادية من النشاط السياسي؛ وقد تحول هذا النشاط منذ مأساة مرسيليا التي ذهب ضحيتها الملك اسكندر ملك يوجوسلافيا ومسيو بارتو وزير الخارجية الفرنسية، إلى نوع من الحمى الدبلوماسية وتلوح اليوم في أفق السياسة الأوربية سحب كثيفة تثير الجزع في كثير من العواصم والأمم. ما الذي سيعقب مأساة مرسيليا من الحوادث والتطورات سواء في يوجوسلافيا ذاتها أم في أوربا بصفة عامة؟ وهل يكون السلم في خطر حقيقي؟ وهل نشهد اليوم مقدمات أزمة دولية مستعصية قد تفضي إلى نشوب الحرب؟ هذه الأسئلة الخطيرة تتردد اليوم في جميع دوائر السياسة العليا لا على إنها هواجس واحتمالات بعيدة الوقوع ولكن على إنها فوض حقيقية خطيرة يجب التحوط لها
وقد لوحظ بحق أن للجريمة السياسية شأناً كبيراً في إثارة هذه السحب التي تحلق اليوم في أفق السياسة الأوربية فمنذ اشهر قتل مسيو دوكا رئيس الوزارة الرومانية فترتبت على مقتله صعاب وأزمات ما زالت رومانيا تعاني من أثرها. وفي أواخر يوليه الماضي قتل الهير دولفوس رئيس الحكومة النمساوية في ظروف وحشية فأثار مقتله أزمة سياسية خطيرة لا في النمسا وحدها ولكن في أوربا الوسطى كلها وذهبت إيطاليا في إجراءاتها وتحوطاتها لصون استقلال النمسا من اعتداء ألمانيا وعمالها المأجورين إلى حشد الجنود على حدود النمسا الجنوبية، ولاح شبح الحرب واضحاً مدى حين. ثم كان مقتل الملك اسكندر ومسيو بارتو أخيرا في مرسيليا فبدت الأزمة الأوربية في أروع مظاهرها، وتجددت نذر الخطر وأحاديث الحرب ويخشى المتشائمون أن يكون التاريخ إنما يعيد نفسه وان تكون مأساة مرسيليا قرينة مأساة سيراجيفو ونظيرتها في الظروف والنتائج. والحقيقة أن مؤرخ الحرب الكبرى لا يسعه إلا أن يعتبر مأساة سيراجيفو من أهم العوامل - الظاهرة على الأقل - في إثارة الحرب فقد اتخذت إمبراطورية النمسا والمجر مقتل الأرشيدوق فرنزفردينند وقرينته في سيراجيفو في 28 يونيه سنة 1914 بيد طالب سربي سبباً لاعتبار حكومة سربيا مسئولة عن الجريمة مباشرة ومطالبتها في بلاغ نهائي بمط عدتها سربيا افتئاتاً على سيادتها وشدت ألمانيا أزر النمسا في موقفها ولكن روسيا تدخلت لتعضيد سربيا ضد النمسا باعتبارها حامية الشعوب السلافية. وكانت الأزمة الخطيرة التي أدت إلى وقوع الحرب بعد ذلك بأسابيع قلائل
وإذا لم يكن لجريمة مرسيليا مثل هذه النتائج السريعة الحاسمة فلا ريب إنها زادت الأزمة الأوربية تعقيداً وخطورة، وكانت عاملاً جديداً عميق الأثر في زعزعة السلام الأوربي. وإذا وقعت حرب جديدة في القريب العاجل، فان جريمة مرسيليا تكون بلا ريب بين عواملها الأولى. ومن المعروف أن السياسة الأوربية كلها تقوم اليوم على تهيئة أسباب الهجوم والدفاع في الحرب القادمة، وأنها تأخذ الطابع القديم الذي يوصف في لغة السياسة بالسلم المسلح أو السعي إلى صون السلام بالاستعداد للحرب دائماً. ومثل هذه السياسة تخضع دائماً لأزمات الساعة، لأنها تقوم على الأثرة والقومية المغرقة وليست تحدوها أية مُثل إنسانية أو دولية عامة. وقد وقعت جريمة مرسيليا في وقت تجتمع فيه أوربا في معسكراتها القديمة التي حالت آثار الحرب الكبرى مدى حين دون بعثها وتكونها. والدول التي تسيطر على مصاير السياسة الأوربية اليوم هي فرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا؛ وهي التي تتجاذبها في تكوين المعسكرات الهجومية والدفاعية وفرنسا اشدها سيطرة على الموقف ونفوذاً في تطوراته؛ ومقصد السياسة الفرنسية معروف هو العمل بكل الوسائل لعزل ألمانيا عن باقي الدول الأوربية حتى لا تقوى بالتحالف على مهاجمة فرنسا، وأحاطتها بسياج من الدول الخصيمة المتأثرة بالسياسة الفرنسية حتى تبقى دائماً في موقف الأحجام والضعف؛ وإذا وقعت حرب فان فرنسا تستطيع بمعاونة حلفائها أن تتغلب على ألمانيا. وقد سارت فرنسا في هذه السياسة إلى ما قبل جريمة مرسيليا شوطاً بعيداً، واستطاعت أن تجذب روسيا السوفيتية إلى معسكرها وان توثق سياسة التحالف الروسي الفرنسي القديم بعد أن لبثت روسيا مدى حين بعيدة عن حظيرة الدول الغربية وان تتوج هذا التحالف بالعمل على ضم روسيا إلى عصبة الأمم بعد أن لبثت تخاصمها منذ قيامها. وقد كانت السياسة الألمانية ما قبل الحرب تغالب التحالف الروسي الفرنسي بالتحالف الألماني النمساوي ولكن إمبراطورية النمسا والمجر القديمة قد ذهبت وقامت على أنقاضها دول تخاصم ألمانيا أو تتأثر بالسياسة الفرنسية. والسياسة الفرنسية هي التي خلقت كتلة التحالف الصغير في أوربا الوسطى من يوجوسلافيا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا، وهي التي توجهها في سياستها الأوربية. ولما قامت الحركة الهتلرية في ألمانيا وظهرت ألمانيا في صورة المهدد لفرنسا والمهدد للسلام الأوربي ضاعفت فرنسا جهودها في توثيق التحالف بينها وبين روسيا ودول التحالف الصغير خصوصاً بعد أن شعرت أن بولونيا قد أخذت تتحرر من نفوذها وتتجه نحو ألمانيا. وكان من أهم أغراضها أن تجذب يوجوسلافيا بصورة نهائية إلى جانب السياسة الفرنسية لأنها شعرت أن السياسة الألمانية قد أخذت تتجه نحو يوجوسلافيا وتحاول كسبها بوسائل شتى. ولكن فرنسا رأت من جهة أخرى أن هذا التحالف لا يحقق الغاية المنشودة إلا إذا آزرته إيطاليا. وبين إيطاليا ويوجوسلافيا خصومة قديمة فيجب أن تذلل قبل كل شيء
لهذا كانت رحلة مسيو بارتو إلى يوجوسلافيا وكانت رحلة الملك اسكندر إلى فرنسا وكان المقرر أن تكون مفاوضات الملك اسكندر مع الحكومة الفرنسية تمهيداً لمفاوضات فرنسية إيطالية تجرى في روما وتسوى فيها جميع المسائل والخصومات القائمة بين إيطاليا ويوجوسلافيا من جهة وبين فرنسا وإيطاليا من جهة أخرى وكان الأفق مناسباً لتحقيق هذا البرنامج، لأن إيطاليا كانت قد بدأت في الآونة الأخيرة تتباعد عن ألمانيا على آثر حوادث النمسا التي انتهت بمقتل الهير دلفوس وافتضاح نيات ألمانيا ومشاريعها نحو الاعتداء على النمسا؛ وتم الشطر الأول من هذا البرنامج بالمفاوضات التي وقعت في بلغراد بين فرنسا ويوجوسلافيا ولكن الشطر الآخر لم يتحقق لأن الملك اسكندر ما كاد يطأ ارض فرنسا حتى سقط قتيلاً برصاص الوطنيين الكرواتيين وسقط إلى جانبه مسيو بارتو؛ وأخرت هذه المأساة مشاريع السياسة الفرنسية؛ إلى حين؛ وأودت بمشاريع حكومة بلغراد وبعثت إلى أفق السياسة الأوربية ولا سيما أوربا الوسطى، ريباً وهواجس جديدة وأثارت صيحة الحرب مرة أخرى والواقع أن مقتل الملك اسكندر كان ضربة شديدة ليوجوسلافيا؛ وقد بينا في مقال سابق كيف أن تكوين يوجوسلافيا الجديدة من عناصر متنافرة خصيمة يعرض وحدتها للتمزق دائماً وكيف أن هذه الوحدة تقوم على أسس مصطنعة في ظل طغيان حديدي كان الملك اسكندر عماده وقائده، فالآن يحدق الخطر بهذه الوحدة المغصوبة وتقف حكومة بلغراد حائرة متوجسة من المستقبل القريب؛ وتقف إيطاليا أيضا مترددة تسبر غور الاحتمالات الجديدة. هل تستمر في الإصغاء إلى عرض السياسة الفرنسية فتهادن يوجوسلافيا وتحالفها وتدخل في حظيرة هذا التحالف الذي يجمع دول الاتفاق الصغير وروسيا إلى جانب فرنسا؟ ومما يزيد في تردد إيطاليا ما تحاوله ألمانيا لديها الآن من تحويلها عن ذلك الطريق، وإعلان استعدادها لضمان استقلال النمسا وتسوية المسائل الأخرى التي تهم إيطاليا بيد أن السنيور موسوليني يقف الآن وقفة المنتظر ليرى أولاً ما يمكن أن تحدثه آثار جريمة مرسيليا في شئون يوجوسلافيا الداخلية وهل يوجد ثمة ما يحمل على الاعتقاد بقرب تفكك هذه الكتلة السلافية الخطرة التي خلفتها معاهدة الصلح، والتي تنازع إيطاليا سيادتها في بحر الأدرياتيك وتهدد نفوذها في البلقان وأواسط أوربا وهل تقوم في يوجوسلافيا حركة انفصالية يقوم بها العنصر الكرواتي خصيم العنصر السربي الذي يستأثر بالسلطة في يوجوسلافيا ويضطهد العناصر الأخرى؟ فإذا آنس موسوليني شيئاً من هذه البوادر فقد يفضل أن يستبقي حريته في العمل؛ مدى حين وعندئذ تعمل إيطاليا من جانبها على تشجيع العناصر الانفصالية في يوجوسلافيا حتى يتم تفكك هذه الكتلة السلافية وتستطيع إيطاليا أن تتجه ببصرها نحو دلماتيا التي تطمح إلى امتلاكها، وعندئذ ينهار التحالف الصغير وأيضاً وينفتح أمامها مجال العمل في أوربا الوسطى على أن فرنسا تعمل من جهة أخرى بكل ما وسعت لتحقيق التفاهم والتحالف مع إيطاليا. وهي على أهبة لأن تضحي في هذا السبيل ببذل بعض المطالب التي تطمح إيطاليا إلى تحقيقها. وما تعرضه فرنسا على إيطاليا ينحصر فيما يأتي: (1) تعديل الحدود الطرابلسية من جهة تونس والتجاوز لإيطاليا عن بعض المناطق المتاخمة لبرقة (2) عدم مقاومة التوسع الإيطالي في طرابلس من جهة الجنوب في اتجاه بحيرة تشاد (3) عدم مقاومة مشاريع إيطاليا وأطماعها في الحبشة (4) تسوية مسألة الرعايا الإيطاليين في تونس ومنحهم بعض الحقوق والمزايا الخاصة؛ فهذه عروض ومزايا لا تستطيع إيطاليا أن تأبى قبولها خصوصاً إذا علمنا أن التوسع الاستعماري قد غدا من اعظم أهداف السياسة الفاشستية. وعلى أي حال فان برنامج السياسة الفرنسية لم يتغير بمقتل مسيو بارتو وقد أعلن مسيو لافال وزير الخارجية الجديد انه سيعمل لإتمام ما بدأ به سلفه؛ وسوف يقوم بزيارة روما كما كان مقرراً من قبل للمفاوضة في تحقيق البرنامج المرسوم هذه هي خلاصة العوامل التي تسيطر الآن على مجرى السياسة الأوربية. والظاهرة الجوهرية التي تبدو خلال ذلك كله هي اشتداد التنافس في أحياء المعسكرات الأوربية القديمة وإنشاء الكتل الهجومية الدفاعية التقليدية. لماذا؟ استعداداً لحرب تلوح في الأفق. وما زالت فرنسا هي المتفوقة في هذا الميدان ولكن ألمانيا تعمل أيضا، رغم عزلتها السياسية على إنشاء معسكرها وحشد حلفائها. وقد ظفرت أخيراً بكسب بولونيا وسلخها عن كتلة الدول المتأثرة بالسياسة الفرنسية وأحداث أول ثغرة بذلك في المعسكر الفرنسي ولم تعبأ ألمانيا بفداحة الثمن الذي دفعته لتحقيق هذه الغاية وهو التسليم بالممر البولوني الذي يشق أراضيها إلى البحر. ومازالت ألمانيا تتمتع بشئ من العطف في المجر ويوجوسلافيا لأنها تشتري محاصيل البلدين. ولكن ذلك لا يمكن أن يعوض عليها خسارتها الفادحة بفقد معاونة روسيا ومحالفتها؛ وقد كان إغضاب روسيا وفقدها من اعظم أخطاء ألمانيا الهتلرية خصوصاً وان روسيا لم تتحول عن ألمانيا إلا لكي تتفاهم وتتحالف مع فرنسا ألد واخطر خصومها وروسيا السوفيتية قوة لا يستهان بها
وقد يكون من المبالغة أن يقال أننا الآن على أبواب حرب قريبة ولكن ليس من المبالغة أن نقول أننا نشهد الآن نذر الحرب القادمة ومقدماتها. ومتى هذه الحرب؟ قد تقع بعد اشهر وربما بعد أسابيع إذا تطورت الحوادث في يوجوسلافيا فجأة وافلت زمام الموقف من يد حكومة بلغراد؛ وقد لا تقع إلا بعد عامين أو أعوام قلائل إذا بذلت جهود صادقة لاتقائها أو لتأخيرها. وعلى أي حال فليس مبالغة أن نقول أننا نشهد الآن من تطورات السياسة الأوربية أقربها أشبهها بتلك المرحلة التي تقدمت الحرب الكبرى وبلغت ذروة خطورتها في صيف سنة 1914. والواقع أن أسباب الأزمة الأوربية الكبرى تجتمع وتتفاقم منذ عامين؛ وأهمها بلا ريب لخفاق مشروع نزع السلاح، والفشل الذريع الذي لقيته عصبة الأمم في حل مختلف المشاكل الدولية؛ وانهيار سياسة التفاهم الدولي والتحكيم التي بلغت ذروتها بعقد ميثاق تحريم الحرب، ولم يلبث أن ظهر عقمها من الوجهة العملية ثم قيام الحركة الهتلرية في ألمانيا وما جنحت إليه من سبل العنف والوعيد، وما أثارته في فرنسا من هواجس ومخاوف جديدة. بيد أن هذه الأسباب كلها ترجع إلى اصل واحد، هو معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) التي لم يراع في وضعها سوى تحقيق شهوات الظافرين واطماعهم، ولم يقصد بها إلى وضع أي سلام شريف دائم، ولكن أريد بها تحطيم قوى الأمم المغلوبة وتمزيق وحداتها القومية دون مراعاة الحدود الجغرافية ووحدة العناصر وتراث التاريخ، فجاءت كالبركان الصامت يضطرم في خفاء ولكن تسري ناره تحت الهشيم وغدت اعظم عامل في إثارة الأحقاد والأطماع القومية، وخلقت مشاكل الحدود والأقليات الشائكة في طول أوربا وعرضها ومهدت إلى هذه الأزمة الشاملة التي تهب ريحها اليوم على أوربا منذرة بشر العواقب وكما أن الأزمة الدولية الكبرى التي اجتمعت أسبابها قبيل الحرب قد لقيت نذير انفجارها في مأساة سيراجيفو، فكذلك تلقى الأزمة الدولية الحاضرة نذيراً خطراً في مأساة مرسيليا، وإذا كانت الحكومة النمسا الإمبراطورية قد رأت يومئذ أن تحمل الحكومة السربية تبعات هذه الجريمة الرائعة، وان ترتب عليها من المطالب الفادحة ما ثارت له روسيا وعجل بوقوع الكارثة، فكذلك ترى حكومة بلغراد أن تحمل الحكومة المجرية تبعة جريمة مرسيليا، إنها تأوي في أرضها عدداً كبيراً من اللاجئين الكرواتيين، وتتقدم إليها بمطالب ترى فيها افتئاتاً على سيادتها؛ وقد يكون ثمة فارق بين وقع الجريمتين في سير الأزمة الأوربية، ولكن الذي لا ريب فيه هو أن جريمة مرسيليا من اخطر العوامل في تفاقمها. فسلام أوربا وربما سلام العالم في خطر لا ريب فيه، وذا تركت الأمور في مجراها الحاضر ولبثت الأحقاد والأطماع القومية على حالها مطلقة العنان، وإذا لم تتضافر القوى النزيهة المخلصة لقضية السلام وتقف سداً منيعاً في وجه هذا التيار الخطر فسوف نشهد في القريب العاجل انفجار البركان المروع مرة أخرى.
محمد عبد الله عنان المحامي