مجلة الرسالة/العدد 699/فلسفة التعمير في الحياة
→ تعقيبات. . . | مجلة الرسالة - العدد 699 فلسفة التعمير في الحياة [[مؤلف:|]] |
الأدب في سير أعلامه: ← |
بتاريخ: 25 - 11 - 1946 |
للدكتور فضل أبو بكر
وخوف الردى آوى إلى كهف أهله ... وعلم نوحاً وابنه صنعة السفن
وما استعذبته روح موسى وآدم ... وقد وعدا من بعده جنتي عدن
(أبو العلاء المعري)
التشبث بأهداب الحياة أمنية كل إنسان، بل هو هدف جميع المخلوقات من الأحياء، وهي ليست أمنية أو محض رجاء، بل هي سعي وكفاح أزلي دائم بين تلك الأحياء تتنازع فيه من أجل البقاء ولأجل البقاء، فينتصر في هذا العراك الأقوى ويحرز النصر الأصلح على حساب الضعيف الذي لا تعد له الطبيعة حسابا، كما سمعت صيحة أزلية داويه يتجاوز صداها في خلال القرن (الويل للضعيف)! وتنازع البقاء هذا هو علة العلل - هو سبب الويلات الحروب التي يشنها الأفراد كما تشنها الأمم بعضها على بعض من حين إلى حين كلما اشتدت وطأة هذا التنازع، كما تشتد وطأة البراكين فتثور ثائرتها وتقذف حممها وهذا التنازع يغري بالأثرة ويوعز بالأنانية التي تعد من أقوى الغرائز المستأصلة في الإنسان، وقد يخفف من وطأتها ويهذب بعض الشيء من شراستها القوانين الأخلاقية وما انزل من السماء من كتب مقدسة تحث على الإيثار وتندد بالأثرة، ولكن هيهات! إذ الطبع يغلب على التطبع، والغرائز لا يمكن استئصالها وان كان من المحتمل تهذيبها
ألم يأتك نبأ ألام وقد خرجت من دارها مذعورة تحمل وحيدها على ذراعيها لما طغى الماء وهدد بالطوفان؟! كانت ترفع فلذة كبدها إلى أعلى رويداً رويداً كلما زاد طغيان الماء وعلا منسوبه ولما قارب الماء وجهها رفعت الابن إلى هامت رأسها، وما أن أدرك الماء الوجه منها وهددت بالأختناق والغرق، حتى ألقت طفلها في القاع لكي تعلو عليه فيقيها شر الخطر المحدق ولو إلى حين! ضحت بابنها لكي تنجي نفسها ولم تضعه في تابوت مريح وتسمي عليه كما فعلت ام موسى، وكما يقول المرحوم شوقي بك في إحدى قصائده:
كأم موسى على اسم الله تكفلنا ... وباسمه ذهبت في اليم تلقينا
وقد يبدو من تصرف تلك ألام كثير من الأنانية، غير أن غريزة حب النفس طغت على عاطفة الأمومة، وهل عاطفة الأمومة نفسها إلا جزء من غريزة حب النفس؟! فالأم تحب ابنها لأنه جزء منها ولأنه عزاء لها بعد مماتها إذا قدر لها أن تموت قبله، فهو موصل ومكمل لتلك الحياة.
كل ذلك كما أسلفنا سببه تنازع البقاء وطلب الخلود حتى الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر وقد أفعم الأيمان قلوبهم وزهدوا عن حطام الدنيا تراهم يعزون أنفسهم - وقد علموا ألا خلود في الحياة - بأن الحياة ما هي إلا طيف خيال، وان وراءها الدار الآخرة الباقية، فالبقاء هو الغاية في كلتا الحالتين.
فالإنسان يطمع إذن في خلود نسبي، إذ لا سبيل إلى المطلق في هذه الدنيا (وما لا يدرك كله لا يترك جزؤه). فهو يرجو بعبارة أخرى أن يطول عمره إلى أقصى حد ممكن. لهذا أريد أن أوضح باختصار بعض الطرق المؤدية إلى التعمير، وهي طرق نفسانية غير الطرق الطبية والصحية المألوفة مع اعتقادنا بأنه (لكل اجل كتاب). وهذه الطرق هي كالآتي:
1 - الاعتقاد في طول العمر والاختلاط الدائم بالشباب.
2 - نبذ عواطف البغض والحسد والغضب.
3 - الأيمان بالله والاعتقاد في البعث والخلود.
1 - الاعتقاد في طول العمر:
أن نؤمن بحقيقة أن بعض الناس منذ بدء الخليقة وفي كل زمان ومكان قد بلغوا من العمر عتيا وتتناقل أخبارهم الناس في شيء من الاستغراب والغبطة، غير أن عملية الإحصائيات لم تنظم إلا متأخرا نسبيا. ولنذكر بعضا من أولئكم المعمرين على سبيل المثال:
روى المؤرخ الروماني (بلين) (23 - 79م) أن عمل في ذلك الوقت إحصاء في شمال إيطاليا، وكان محصورا في ثلاثة ملايين نسمة وجدوا بينهم أكثر من 170ممن عاشوا بعد الماية عام. كما روى المؤرخ (استراين) إن بعضا من سكان البنجاب زادت أعمارهم على المائة. كما ذكر الشاعر الإغريقي (أنا كريون) أن ملك قبرص في ذلك الوقت واسمه (سنجراس) بلغ من العمر 160سنة. كذلك يقول العالم الفسيولوجي (هالر) في كتابه (مبادئ الفسيولوجي) أن المتوسط لعمر الإنسان يمكن أن يبلغ 200عام - وعمل إحصاء في مدينة بوينس ايرس بأمريكا الجنوبية سنة 1896 فوجدوا أن أحد السكان واسمه (برونو) بلغ عمره 150سنة. وعملت أيضاً إحصائيات بالولايات المتحدة سنة 1890 أسفرت عن وجود 3891 من المعمرين الذين عاشوا بعد الماية عام إلى غير ذلك من الإحصائيات.
هذا، وقد ذكر العلماء مثل: هاملر وبلاندن وجريفز أن بعضاً من المعمرين تنبت أسنانهم للمرة الثالثة، وأن امرأة هرمة ربا عمرها عن 110 عام عادت إليها أسنانها للمرة الثالثة كما تبدل بياض شعرها سواداً. والبعض منهم يحتفظ بقواه العقلية والجسمية بدرجة تمكنه من إدارة شؤونه. فوليم جلادستون مثلا الذي كان لزعيم الأحرار البريطاني، والذي كان زميلا ومعارضا لدزرائيلي زعيم المحافظين في ذلك الوقت بلغ جلادستون من عمره التسعين، ومع ذلك كان محتفظا بقوة عقله وجسمه، وكان يمارس قطع الأخشاب كغية في وقت فراغه، وهو عمل شاق حتى على الشبان.
كان يلذ للناس منذ قديم الزمان ويسترعي فضولهم أن يسألوا المعمرين عن سر تعميرهم، وهل عثروا على حجر الفلاسفة وأكسير الحياة؟! وكانت الأجوبة في كثير من الأحيان لا تروي ظمأ ولا تشفي غليلاً، بل كان فيها أحياناً شيء من التناقض، مثال ذلك ما يرويه الفرنسيون على سبيل التندر عن بعض المعمرين من سكان بريتانيا في شمال فرنسا. سألوه ذات مرة عن السر في طول عمره؟ فأجابهم بشيء من التحدي: (إن السر في ذلك بسيط جداً. كنت إذا ما أكثرت من شرب الخمر رجعت فأكثرت من التدخين، وإذا ما أكثرت من التدخين عدت لأدمن الخمر وهكذا دواليك). والمفروض في هاتين المادتين، أي الخمر والتبق، هو ضررهما بالجيم لا سيما في حالة الإدمان. غير أن الذي يشاهد في معظم الأوقات أن اغلب المعمرين كانت حياتهم هادئة نسبيا قليلة الهموم والعواطف المؤذية مثل الغيرة والحسد والبغض. وقد قال بعض علماء الصحة - في شيء من المبالغة - إن الإنسان لا يموت موتا طبيعياً، ولكنه ينتحر لإسرافه وعدم مراعاته الاعتدال الذي هو أهم العوامل لصيانة الجسم. فالإفراط ماديا كان أو نفسياً يعود على الجسم بإضرار بليغة؛ كما أن الكثير من الناس يتعاطى من الطعام ثلاث أضعاف ما يلزمه، ومن هنا نشاهد نسبة التعمير بين الفقراء ومتوسطي الحال تفوق نسبتهم بين الأغنياء المترفين. وليس خطأنا فيما يتعلق بالأطعمة محصورا في (الكم) ولكنه يشمل (الكيف) من حيث تحضير الأطعمة. نتفنن في طرق طبخها ونبالغ فيه، وفاتنا أن كثرة الطهي تفقد الأغذية كثيرا من قيمتها الغذائية، كما أن المواد الحية من حيوان أو نبات هي أفيد لصحتنا وأجدى لإحياء أجسامنا. خذ مثلا بعض سكان النرويج وسيبيريا الذين يعيشون في اغلب الأوقات على المواد النيئة من حيوانية مثل السمك والقواقع وغير ذلك مما يلفظ البحر، ونباتية مثل الفواكه والخضراوات والبقول نجد نسبة المعمرين مرتفعة عند تلك القبائل. وقد استرعت هذه الخاصية أنظار العلماء والفلاسفة منذ عهد بعيد. ويذكر الفيلسوف العالم أرسططاليس أن بعض التماسيح تبلغ من العمر عتياً، وقد يمتد بها الأجل إلى أكثر من 500 عام، ومن أهم الأسباب المؤدية لطول أعمارها - كما يزعم - هو كوننها تتغذى على الأحياء المائية من نبات وحيوان.
أما الاختلاط الدائم بالشباب الأقوياء، وكونه مؤدياً إلى الاحتفاظ بالشباب، فقد أقر هذه الحقيقة القدماء ونوه بها بعض الفلاسفة والعلماء مثل جالينوس؛ وكذلك الفيلسوف الإنجليزي (روجر بيكن). وقد قال في ذلك: (إن هنالك أرواحا وإشعاعا ينبعثان من الإنسان الشاب القوي، ويكون فيهما شفاء للمريض، وتجديد لشباب من ولى عنه الشباب وعلا مفرقه المشيب). والواقع أن هذه الظاهرة النفسية الحيوية قد أثبتها العلم الحديث ووجد لها تعليلاً بيولوجيا بواسطة الاهتزاز والذبذبة الخلوية 114 واثبت عمليا وجود مثل هذه الذبذبة بواسطة أجهزة بلغت منتهى الإتقان والحساسية، وكلما كان الجسم قويا شابا كانت الذبذبة أكثر نشاطا، ومجموعة الاهتزازات والذبذبة المنبعثة من الخلايا الحية تكون ما يسمونه (بالإشعاع الحيوي) وهذا الإشعاع إذا ما صادف - بالقرب منه - جسماً هرما وهزيلا احدث فيه اهتزازا قويا لخلاياه بواسطة الجذب الكهربائي المغنطيسي.
وقد استخدم بعض العلماء ظاهرة الإشعاع الحيوي وما ينتج عنه من جذب مغنطيسي كهربائي لإعادة الشباب منها طريقة (جاورسكي) بواسطة حقن دم شاب قوي الآخر معتل الصحة أو متقدم في السن على شرط أن تكون الدماء من نفس النوع والفصيلة لكيلا تحدث تفاعلات مؤذية للجسم. وهناك طريقة أخرى هي طريقة (فورونوف). وهي تطعيم الجسم بخلايا وأنسجة من جسم آخر وهي نوع من الترقيع الجسمي وليس من النادر أن نشاهد فتاة زوجت من شيخ، وهذا كثير الحصول عندنا في الشرق، إذ عامل الجاه والغنى يلعب دوراً كبيراً في مثل هذه المناسبات. فنلاحظ أن الزوجة الشابة تذبل قبل اوانها، بينما تبطأ خطوات الشيخ نحو الهرم والمشيب، والسبب في ذلك هو ما أسلفنا من شرح. وحتى من المتداول بين عامة الناس أن الشيخ إذا تزوج من شابة (شرب أنفاسها).
2 - نبذ عواطف البغض والحسد والغيرة:
الحسد داء عضلي يفسد الأود وينهك الجسد. هو أخبث مكروب يؤدي بحياة صاحبه، وقد قام بعض علماء النفس بإحصائيات دقيقة، فوجدوا أن كثيرين ممن أصيبوا بهذا الداء لم يعمروا كثيرا إذا استثنينا بعض الشواذ (يعجل الله بالأحياء) أو كما يقال بالفرنسية , ولكن في الغالب الوضع كما أسلفنا. والحسد يسبب البغض والغضب عن الغير لما أصابوا من نعمة أو ما حصلوا عليه من جاه، وهذه العواطف الذميمة تؤثر تأثيراً سيئا على سائر أعضاء الجسم ولا سيما الجهاز العصبي فتتوتر الأعصاب ويعتريها التعب من فرط التهيج والانفعالات، كما تتأثر بقية الأجهزة لخضوعها المباشر للجهاز العصبي فيحدث بالجسم ضرراً بليغا. وقد أجاد بعض شعراء العرب في وصف مفعول الحسد فقال:
أصبر على كيد الحسود ... فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله
وكثيراً ما يكون الحسد سببا في إفساد العلاقة الودية بين أفراد العائلة، كما يفسد صحة أولئكم الأفراد. وقد قص علي صديق فرنسي مأساة مؤداها أنه تعرف بعائلة كريمة كانت في رغد من العيش، وتتكون من أبوين وأربعة بنات يربط أفرادها حب عائلي وثيق. تزوجت الكبرى بمهندس دمث الأخلاق موفق في جميع مشاريعه واعماله، فمهرها أبوها مهرا عالياً - كما هو الحال عند الغربيين - وجهزها بكل ما تحتاج اليه، كما قام بنفس الواجب نحو باقي البنات. نجح المهندس زوج الكبرى وازدهرت أعماله وتضخمت ثروته بعكس ما وصلت إليه حال بقية الأزواج، فقد ساءت لحد بعيد، وذلك بسبب سوء تصرفهم أو سوء حظهم أو كليهما معا. دب الحسد في قلوب الأخوات الثلاث نحو الأخت الكبرى وصرن يتقولن عليها ويرمينها وزوجها بالبخل والتقتير حينا وبالكبرياء أحياناً، وأن زوجها من عائلة وضيعة، وأنه جمع ثروته سحتا عن طريق التزوير؛ وأصبحن لا شاغل لهن غير التعرض لأختهن وزوجها، وتسبب في نفوسهن ما يشابه (العقدة النفسية) من جراء هذا الحسد، فماتت إحداهن في سن مبكرة لم تزد على السادسة والعشرين كما قضت الأخرى نحبها في سن الثامنة والعشرين بأمراض عادية أخف وطأة - فيما اعتقد - عن مرض الحسد الذي قصر عمريهما. أما الصغرى فقد انتحرت نتيجة مشاجرة مع زوجها. هذا مثل بسيط سقته على سبيل الاستشهاد، وان كانت الحياة اليومية ملأى بمثل هذه المآسي المحزنة.
3 - الأيمان بالله والاعتقاد بالبعث والخلود:
لا جدال أن الأيمان بالله وباليوم الآخر فيه طمأنينة للنفس على عكس الشك والحيرة في أمر الإله، فهو مدعاة للقلق والخوف والخوف مضر بالجسم وقد يسبب الموت إذا اشتدت وطأته فيسبب للجهاز العصبي ما يسمى (بال) أي يوقف حركته، ومن المتعارف بين الناس أن الخوف مميت بخلاف من يؤمن بالله وبالبعث فيقل خوفه من الموت ومن التفكير في شانه ويهون عليه بعض الشيء فراق الحياة، إذ يعزي نفسه بالأخرى وهي خير وأبقى. ويقول بعض علماء النفس أن قوة أيمان الصالحين والقديسين وعدم مبالاتهم كثيرا بالموت كل ذلك له بعض الدخل في تعميرهم.
أما مسالة الخلود - أي خلود الأرواح - فقد نوهت عنه الأديان كما حاول إثباته نفسيا علماء الروح وعلميا أساتذة الطبيعة، فالذي يموت في الإنسان إنما هي مادته وليست روحه التي تفارق تلك المادة، وحتى الموت نفسه لا يستطيع فناء تلك المادة لان المادة خالدة لا تفنى، ولكنها تتحول إلى عناصرها الأولية التي تحفظ في الطبيعة، فالحياة بعبارة أخرى ما هي إلا مجموعة الذبذبة والاهتزاز الخلوي كما سبق ذكره، وهذه المجموعة هي إحدى القوى الطبيعية مثلها مثل قوة الجاذبية والدوران، والقوة الكهربائية من حيث إنها قوة كلها من أصل واحد هي أي من اصل كوني. والقوى كالمادة لا تفنى، ولكنها تتحول من نوع إلى نوع آخر على حسب العوامل التي تسيطر عليها. كذلك الروح , كما يسميها النفسيون والقوة الحيوية كما يسميها الطبيعيون ليست فانية، وإنما هي موجودة ومحفوظة في الكون.
ذكرنا كذلك إن الجسم لما تفارقه الروح أو القوة الحيوية أو بتعبير آخر يموت صاحبه تنهدم مادة الجسم وتنحل إلى عناصرها الأولية، وهذه العناصر موجودة ومحفوظة في الكون أيضا، ومن المعقول جداً أن يعود الجسم مرة ثانية ويبعث من جديد بائتلاف عناصره الأولية مرة أخرى، إذ الحياة ما هي إلا حلقة من بناء يعقبه هدم ثم يعقبه بناء وهكذا. وإذا ما عاد بناء الجسم من جديد جذب إليه روحه التي فارقته بواسطة نوع من الجذب المغنطيسي الكهربائي إذ كل روح تنجذب إلى جسمها الذي فارقته، وشبيه الشيء منجذب إليه.
فضل أبو بكر