مجلة الرسالة/العدد 697/من يد ذات سوار
→ فيضان النيل. . . | مجلة الرسالة - العدد 697 من يد ذات سوار [[مؤلف:|]] |
الأدب في سير أعلامه: ← |
بتاريخ: 11 - 11 - 1946 |
إلى حضرة الأستاذ علي الطنطاوي
موضوعاتك يا سيدي صفقات رابحة في عالم الأدب، ونفحات عاطرة من أريج القلم. ومن أنا حتى أستطيع أن أقول ما يعن لي تلقاءها؟ وا أسفاه! لست ربة قلم، ولا صاحبة بيان، وليس لي من الحول والطول ما يعينني على نشر ما يجول بفكري وخاطري.
بعثت بمقال مرة رداً على أحد الكتاب إلى إحدى المجلات، فكان نصيبه الإهمال. وكم فرحت كثيراً لأنه لم ينشر، ذلك أني بعد أن بعثت به تذكرت: (أن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفسافها). فإما أن أكتب في (الرسالة) بين كتاب الأدب الرفيع وإلا فلا.
ولو أن الله وهبني من العقل كفاء ما وهبني من الحس لكان لي في ميدان الكتابة شأن. ولقد شاء الله أن أتذوق فنون الكلام وحلاوة البيان، و (للرسالة) فضل كبير في هذا التذوق، فقد عكفت على قراءتها بانتظام منذ أكثر من عام، وعشت بنفسي وحسي مع كتابها العظام، أحمل لهم من التقدير والاحترام ما لا ينضوي تحت صفة ولا معرفة، وأنت يا سيدي الطنطاوي من هؤلاء، فلو رأيتني حين أقرأ مقالاتك، لوجدتني صوالة بها جوالة في عالمي الصغير باحثة عن زميلة تشاركني السرور في تلاوتها، خصوصاً، وأنك من قطر شقيق لي فيه صديقات تتجلى في سجاياهن أرفع آيات المودة والإخلاص والنبل.
وأني أخشى أن أثيرك بهذه العجالة فيصيبني من يراعك ما لا أنساه ما عشت.
إن استهلالك في موضوعك (مناظرة هادئة) بقولك: (نحن معشر الرجعيين لا نرى قتال المرأة ولا نزالها) هو الذي شجعني على أن أقف أمام مقامك الكريم موقف التلميذ من معلمه - ويحي!! وهل لمثلي أن تطمع في هذا الشرف؟.
لو كنت من قريباتك. . . مالي أقول هذا والمسلم أخ للمسلمة وهي أخت له. إذن لي - بهذه الأخوة - عليك دالّة خفية مشفوعة بالأدب والطواعية، وعلى ذلك أتقدم إليك قائلة: أن موضوعاتك كلها تأخذ بمجامع قلبي، وتغذي روحي ولبي، وكلها من صميم الواقع الملموس، غير أن بعضها موشي بقليل من المغالاة والحدة، وأن الموضوع الذي عنونته (مناظرة هادئة) كان أقمن أن تسميه (مناظرة ثائرة). ألست معي في أن لفظ مناظرة فيه معنى النظير، وهذا لا يتفق مع ما بدأت به مقالك. يعلم الله أني تلوت هذه المناظرة بشغف، ولم ألمس في غضونها ذلك الهدوء الذي نعتها به، وإنما لمست فيها صرخة مجلجلة وتهداراً.
إنه لا يزال يتوارد على نفسي، ويرن في سمعي كل يوم حديث تلك القصة التي طلعت بها علينا في صفحات (الرسالة) عن تلك الفتاة التي صوِّرت عارية، فسجلت بذلك على هذا العربي الذي فعل هذا الفعل خزياً لم نسمع به من قبل. يا للعار والقسوة أيحدث مثل هذا في بلد عربي؟
إن القلم الذي تحمله رهيف الحس يحز في نفسي، ويترك أثره في حسي، فهلا رأفت وخففت من إرهافه؟ رأفت! كيف أقولها وأنت الذي في ثنايا فؤادك (رفقاً بالقوارير).
إني لتعجبني تلك النزعة التي تنزع إليها في مناهضة السفور واختلاط الجنسين ومشاركة المرأة الرجل في أعماله، ومن المعروف أن النهضة النسائية قام الرجل فيها بقسط كبير، وكانت له اليد الطولي في توجيه دفتها، وما دام الرجل قواماً على المرأة فهو الذي يحمل وحده وزر هذه التبعة، وهو الذي فتح عليها سدود النهر فجرفها التيار، ثم بعد ذلك قطعت شوطاً بعيداً في عالم الأزياء، وقلدت الأجنبيات، وحملت الشهادات من بكالوريات ودبلومات
إن هذه الحملة التي تقوم بها تكون أجدى وسيلة لو أرسلتها صواعق متوالية في غارات مدوية على الذين بيدهم مقاليد الأمور والحكم، فأن هؤلاء في مقدورهم أن يحملوا الناس على السير بتعاليم الإسلام، وفي مكنتهم إغلاق أبواب الفجور، ومنع إصدار الصحف التي تخدش كرامة الفضيلة.
يا للإساءة التي تصبها على المتعلمات بقولك: (ويجمعهن مجلس بعد هذا كله بالعاميات الجاهلات، فلا تجدهن أصح منهن فكراً، ولا أبعد نظراً، ولا ترى لهذا الحشد من المعلومات الذي جمع في رءوسهن من أثر في المحاكمة ولا في النظر إلى الأشياء، فكان هذه المعلومات التي تصب في اسطوانات الحاكي (الفونوغراف) أن أدرتها سمعت لهجة فصيحة وكلاماً بينا، ونغما حلواً فتقول أنها تنطق، فإذا سألتها وكلمتها رأيتها جماداً أخرس ليس فيها إلا ما استودعته من الكلام الملحن.
هذا يا أستاذ كلام لا تقبله فتاة ولو كانت نصف متعلمة مثلي. هذا تجريح لإنسانيتها التي يكنفها العقل والشعور. (جماداً أخرس؟) يا لبشاعة الوصف والتشبيه! (جماداً أخرس؟) كيف؟ وقد برأها البارئ أنسأناً ضاحكاً ناطقاً فيه حركة ولب وإحساس. هذا لا يستغرب لأنك لا تؤمن بالإنسان.
إن لي صديقات، وأعرف جمّاً غفيراً من السيدات والفتيات كلهن متعلمات وحاملات للشهادات، ولسن كما تقول، فإذا جمعك بهن مجلس وسمعت حوارهن ونقاشهن لا يسعك إلا أن تغير رأيك في بنات هذا الجيل، وإذا كنت تصف المثقفة بالجماد الأخرس فبماذا تصف الجاهلة؟
قل مل شئت من ناحية الدين في فتاة العصر، فأني أشايعك على كل ما تقول، ولو أن هنا في مصر نهضة نسائية دينية مباركة، يملك زمامها جمعية الأخوات المسلمات، بارك الله فيهن، وحقق على أيديهن ما يرضاه الدين للمرأة المسلمة. أما من ناحية العلم والمنطق فالبون شاسع والشقة بعيدة بين الجاهلة والمتعلمة.
لست بهذا أدافع عن نفسي، وإنما الدفاع واجب عليّ لمن عرفت فيهن سداد الرأي واستقلال الفكر وبعد النظر ووزن الأمور بميزانها.
وقلت أيضاً: (ثم أن تزوجن لم يمتزن إلا بإهمال الولد الخ). وأقول أنا إزاء هذا: أني أعرف سيدات فضليات متعلمات، لا جاهلات عاميات، ينشئن أطفالهن أحسن تنشئة، ويحرصن على تربيتهم بأنفسهن، ليكون منهم في المستقبل رجال نابهون، وأجناد مجاهدون، وقادة محنكون.
إن تلك التي تهمل طفلها وتتركه بأيدي الخدم خرقاء ولا تعد في سواد النساء.
(إنه لا يعجب إحداهن إلا أن تلقى في زوجها حماراً) هكذا قلت. ولكن أكل هؤلاء الرجال الذين تزوجوا متعلمات تعدهم في شرعتك حميراً؟ (معاذ الله) من فيهم يرضى بهذا؟ أن السيدة المتعلمة الراقية المستنيرة لا ترضى على الإطلاق أن تلقى في زوجها (حماراً) تركبه - كما تقول - إلى غايتها. أنها ترفض في شمم وإباء أن تفقد احترامها للرجل الذي تشاطرها الحياة، ولا بد لها من الإحساس بأنه السيد المطاع القوام الذي تخافه رغبة لا رهبة. وقياساً على هذا أنقول أن أزواج المتعلمات كلهم أشقياء؟ أن كان الإيجاب، فيالعثار جدهم، وسواد عيشهم! إني استحييت مرة من قراءة بعض العبارات التي وصفت بها محاسن المرأة وصفاً سافراً، ولولا حرصي على قراءة أفكارك كلها لأبيت قراءتها.
وما يعجبني إلا كتابتك في الحب والغزل، وحسن وصفك للغواني. قدير قدير - بلا شك - في ألوان الكتابة. أو ليس في هذا الكفاية لما تحمله من احترام المرأة وإكرامها؟
كثيراً ما تدفعني مقالاتك إلى الكتابة. لعل فيها سراً يحبب إلى الأخذ بناصية القلم، ولكني لا ألبث أن أدعه هيبة وإجلالاً.
لا أدري كيف كتبت هذا المقال الجريء، مع أني أعلم أني أمام جهبذ من جهابذة الأدب، فاعذرني يا سيدي لأن الحق أنطقني.
لا يغضبنك هذا القول، فما قصدت به إلا الترفيه عنك، ليزول من صدرك تبرمك بالمرأة المتعلمة. وعسى أن تجد فيما كتبته صاحبة اليد ذات سوار - كما وصفتها - رَوحاً وترويحاً. . . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يد ذات سوار