الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 696/على الطريق في سورية ولبنان

مجلة الرسالة/العدد 696/على الطريق في سورية ولبنان

مجلة الرسالة - العدد 696
على الطريق في سورية ولبنان
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 04 - 11 - 1946


للدكتور عبد الوهاب عزام بك

عميد كلية الآداب

- 2 -

وعدنا من حلب بالطريق الحديدي في مركبة كالمركبة الديزلية تسمى (أوتومتريس) وقد سميتها المستارة. وتذاكر الدرجة الأولى في هذه المركبة تخول لحاملها القعود في المقاعد الأولى من السيارة الحافلة التي تنقل مسافري السكك الحديدية بين حمص ودمشق. وهذه الحافلة تقبل غير ركاب السكة الحديدية، ولكن هؤلاء أولى بها إن لم تتسع لغيرهم، ولما تركنا محطة حمص إلى هذه السيارة ألفينا ركاباً قد شغلوا المقاعد الأمامية، وكان الجو حاراً فبدا لي أن اتركها وأستأجر سيارة خاصة ورجعت إلى المحطة آوياً إلى الظل من وهج الشمس،، وثار جدال بين بعض من رافقونا في المستارة ومن شغلوا المقاعد الأمامية. فسمعت أحد هؤلاء الرفقاء يجادل عن نفسه وعنى أنا بعيد عنه، وما حسبته رآني؛ ولكنه تطوع بالدفاع عن حقي كما دافع عن حقه، ودعيت أنا ورفيقي المصري إلى الركوب وخلى لنا المكان. وجاء أحد من حجزوا المقاعد الأمامية في ضجة يقول: (قد حجزت مكاني ومعي رقمه، والأرقام تتكلم) فأشار إليه أحد الراكبين، وهو مشتد في جدله متحمس في الدفاع عن حقه؛ وما زال الرجل يشير إليه ليقترب منه، فلما دنا قال له: انهم مصريون. فسكت غضبه، وهدأت ثورته بغتة وقال: مصريون؟ على رأسي أذن. ولم نكن نحن المصريين أخذنا مكانه بل أخذه أحد من شاركنا في المطالبة بالمقاعد الأمامية، ولكن الذي أراد أن يسكن غضب الرجل لم يجد أجدى عليه من أن يقول انهم مصريون؛ وقد تمادى الرجل في مروءته بعد أن آثر المصريين بمكانه فعم الراكبين جميعاً وقال نحن حمصيون وهذا بلدنا. نؤثر كل راكب على أنفسنا.

كانت كلمة مصريين قاطعة لكل جدل، ذاهبة بكل غضب، نضر الله وجوه إخواننا في حمص وغيرها، وجزاهم عن مودتهم ومروءتهم خيراً.

ونزلنا في النَبْك نستريح قليلاً، فأوينا إلى حديقة هناك يجري فيها جدول تدور به ناعورة، وكنا جلسنا في هذه الحديقة أيام مهرجان أبى العلاء في طريقنا إلى حلب وفي رجوعنا إلى دمشق وفي سفرتنا الأخيرة من دمشق إلى حلب، فجلسنا فشربنا القهوة، فإذا أحد رفقاء السفر ممن يعرفنا ولا نعرفه تطوع بأداء ما علينا إذ وجدها فرصة للإعراب عن مودته وإكرام إخوانه وضيوفه على الطريق بأية وسيلة، وما زال يرتقب الفرص ليسرنا بكلمة أو فعلة حتى افترقنا.

وخرجنا من دمشق يوم الجمعة 24 من شوال (19 أيلول) نؤم حيفا لنركب منها قطار مصر. وكان بجانب السائق رفيق لم يصلنا به تعارف ولا تحادث. فلما بلغ بنا المسير الحدود الموهومة التي تفصل سورية وفلسطين - تلك الحدود لم يخلقها الله ولم يقرها الحق، ولا عرفها تاريخ البلاد، ولا اعترف بها سكانها - نزلنا ننتظر الإذن بدخول فلسطين بعد رؤية جوازات السفر والأعمال المعتادة على الحدود، ورأينا دكاناً أمامه كراسي فأخذنا سجاير وجلسنا لنشرب القهوة أنا والأستاذ محمد خلاف بك، ووجد ذلك الرفيق الذي لم يحادثنا ولا تعرف إلينا فرصة للتودد إلينا والأعراب عما يضمره من مودة فأصر على أن يؤدي ثمن القهوة وأبى أن يستمع لقولنا، وان يلين لإلحاحنا.

ثم اجتزنا الحدود وواصلنا السير حتى مررنا بعين عذبة باردة يجري عنها الماء في جدول وفي أنابيب من الحديد. فنزلنا هناك لنشرب من العين ووجدنا دكاناً فتقدمنا لنشتري فاكهة وقلنا حبذا فاكهة مبردة في ماء هذا النبع. فلما اشترينا ما أردنا غافلنا هذا الرفيق وأصر إصراره الأول على أن يؤدي ثمن الفاكهة.

ليس شيئاً ثمن القهوة ولا ثمن الفاكهة ولكن مقصد هذا الشاب كان عظيماً، ومعنى هذا العمل جليل. فهذا شاب من نابلس عرفنا مصريين فأراد أن يحيينا بما تهيأ له على الطريق، أو عرف شخصينا فبالغ في الإيناس والإكرام.

ولما دخلنا حيفا، وعلمنا أن المحطة التي نسافر عنها نسفت قبل دخولنا المدينة بقليل، وحسبنا أن السفر لا يتيسر يومنا، جاء رفيقنا هذا معه سيارته يدعونا إلى المضي معه إلى نابلس إلى أن يمكن السفر على السكة الحديدية، فشكرنا له وانتظرنا حتى تسنى لنا السفر.

وجاءنا في القطار بعض الموظفين يسألوننا عن جواز السفر ثم سلما وتحدثا إلينا وقال إنما تعللنا بطلب الجواز لنتحدث إليكما فقد رأينا في أحدكما شبهاً من أمين الجامعة العربية فأردنا أن نعرف جلية الأمر وسألا عن الأمين ودعوا له واثنيا عليه.

هذه الأحداث يراها المسافر في سورية ولبنان وفلسطين في بلاد إخواننا وجيراننا الأدنين، وهي على صغر ظاهرها كبيرة المعنى عظيمة الدلالة. تنطق بان المصري حيثما توجه في بلاد العرب فهو بلده بين إخوانه، إلا انه يحظى بكرامة الضيف، وان العربي لا يغترب أيان سار في بلاد العرب، يشعره بهذا الخاصة والعامة، ومن يعرفه ومن لا يعرفه.

وأما الخاصة من الأدباء والعلماء، وأما الحكومات ومعاهد العلم والهيئات المختلفة التي تعمل للجامعة العربية، وتشد الأواصر بين بلاد العرب، وما يقال في هذا، وما يكتب، وما يعمل، وما يدبر، فله حديث آخر طويل.

عبد الوهاب عزام