الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 696/النهضة العلمية

مجلة الرسالة/العدد 696/النهضة العلمية

بتاريخ: 04 - 11 - 1946


للأستاذ علي عبود العلوي

(ظلت الحياة الأدبية في حضرموت برهة من الزمن وهي

تحت السير اقتفاء السمة التي كانت متغلبة على الآداب في

القرون الماضية، وما زالت كذلك إلى أن أتاح الله لها من

يوجهها الوجهة الصادقة فنهضت من كبوتها نهوضاً تجلى

آثره في أدب الكهول اليوم كما اتشح به أدب الشباب. والفضل

في ذلك يعود إلى زعيم النهضة الأدبية السيد أبو بكر ابن عبد

الرحمان شهاب العلوي الموجود سنة 1262هـ والمتوفى

سنة1341 هـ.

وهذا ما حدا بنا لدراسة أدبه دراسة مفصلة وهذه الكلمة من إحدى لبنات هذه الدراسة أخص بها (الرسالة) الغراء).

ما اهتزت ربوع الوطن الحضرمي كاهتزازها للثورة الفكرية التي امتد سناها على وادي ابن راشد أن لم نقل تجاوزته إلى الأماكن الأخرى.

اجل هكذا انبعثت في حضرموت روح النهضة العلمية في القرن الثالث عشر الهجري فسطع تاريخها بإعلام لهم فوق مكانتهم العلمية المرموقة مكانة الزعامة السياسية والاجتماعية والإصلاحية والاقتصادية، وكل هذه قيم عظيمة تستدعي من المؤرخ المنصف الوقوف أمامها وقفه الخاشع ليتهيأ له إصدار الحكم عنها بعد نفاذ الفكر والتحليق به فوق مراميها، وبذلك ينير السبيل للتاريخ، وهو في أمان من أن يطغي الحكم في ناحية فيمس النواحي الأخرى.

ومن شأننا في هذه الكلمة أن نلم بالموضوع إلمامه وجيزة ندرك بها تاريخ العصر الذي نشأ فيه شاعرنا الشهاب العلوي ومعرفة مقدار الأثر الذي تركه في أدبه وميوله.

امتدت الثورة الفكرية في حضرموت امتدادا لم يسبق له مثيل فيما قرأناه من تاريخ حضرموت وسير اعلامها؛ إذ انبعثت منها روح فياضة ترمي إلى محو الأمية، وتنوير الأفكار والقيام بنشر العلم قياماً يرتكز على أن تتخطى الدعوة إليه المدن والقرى التي تزدان معاهدها ومساجدها بالدروس العلمية الخاصة والعامة إلى نشره بين جميع الطبقات حتى التي تسكن الجبال من البادية بإرسال المرشدين إليهم تلو المرشدين.

ومرد هذا فيما نعتقد انه من قبيل رد فعل. فقد أنفت حضرموت من الظلم الذي طال عهدها به والعبودية والتسخير التي فرضها كل من له أي قدرة إلى حد العامة الذين تناط بهم الدارة الحياة الاجتماعية فقد كونوا لهم رابطة تساعدهم على الإضراب عن العمل وأداء الواجبات أن لم تمنح لهم الإتاوة المفروضة بحسب رائيهم.

ومما شجع هؤلاء الفوضويين على العبث بالأمن ضعف الحكومية الحضرمية - استغفر الله - بل فقدها بالكلية وتلاشي أمرها ولم تبق لها سمة معروفة ولم يذكر التاريخ إلا تعدد الحكام ما بين كل ريعة وأخرى بل في البلد الواحدة.

لا نستثني من هذه الفوضى إلا ما كانت تنعم به بعض القرى التي يناط الحكم فيها لبعض السادة العلويين - المناصب أو القرى التي يحكمها بعض أبناء بيوتاتها ممن كانت لأجدادهم مكانة علمية وصلاح وفضل ويسمون أيضاً (بالمناصب).

من اجل هذا فكر أكابر علماء القطر الحضرمي وقادة الرأي فيه في الوسيلة التي يمكن القضاء بها على هذه الفوضى.

وأي وسيلة بيدهم اعظم من نشر الدعوة الإسلامية بصورة أوسع نطاقا مما كانت قبلها.

وأني تلاقي دعوتهم أذاناً صاغية أن لم تتجاوز المحيط الذي طالما تاق إلى وجود قيام الوالي العدل من كثرة ما أصيب به من الظلم؟

فلا بد إذاً من توسيع نطاق الدعوة بصورة أكبر مما عرفتها حضرموت في الماضي ليضمنوا بها بعض الفائدة أن لم تحققها كلها.

وما دام مصدر الفوضى آتيا من قبل البادية التي تروع القطر بما تصبه على البلاد من ويلات تلو الويلات. فلا بد إذاً من غزوها في عقر دارها بالدعوة الإسلامية وتعريفها بعض الواجبات وإرشادها إلى ما فيه الخير والصلاح.

وهذه دعوة عظيمة لابد من تدعيمها بقوة الروح والأيمان الصادق، وصدق العزيمة وبذل الأموال ولا شك إنها أصابت في قائدها المحنك وزعيمها الممتاز من اسبغ الله عليه الفضل الواسع وأهله بجميع المؤهلات التي تخول له قيادة مثل هذه الحركة العظيمة بما أوتيه من نباهة الذكر والسعة العلمية، والفطنة، وقوة الأيمان، والعزيمة الصادقة ما هيأ لدعوته أن تجوب القطر الحضرمي ويتردد صداها بين الخافقين.

فمن هذا الزعيم الذي أسندت إليه حضرموت قيادة هذه الحركة الإصلاحية؟

هو العارف بالله السيد أحمد بن عمر بن سميط العلوي المتوفى سنة 1257هـ.

نشأ هذا السيد الأمام في محيط يشع بالسؤدد والمكارم، وزحابة الأخلاق؛ تحيط به حالة من النور والفضل والنبل والعلم وسراوة التقوى فكان من هذه المكونات فذاً في التاريخ.

وعلى نبعة العلم والده السيد عمر بن زين تثقفت ثقافته

الأولى؛ وكان السيد عمر مشغولاً بالثقافة ليلاً ونهاراً، وحينما

استطاع السيد أحمد الاندماج بالصف الذي يصله بركب والده

العلمي اصبح هو الذي يروي ظمأ والده بالقراءة عليه ليلاً

ونهاراً. وبالطبع تهيأ له من الاتصال بوالده ما لم يتهيأ لغيره،

وهذا له اثر عظيم في تكوينه العلمي، وكان هذا شأنه إلى أن

لحق والده بربه في 2431207هـ فاتصل بابن عمه السيد

عبد الرحمن بن محمد زين، وامتد اتصاله بعد هذا بأكابر

رجال عصره وهم من الكثرة بحيث لا يمكن الإلمام بهم في

مقام يقتضي أن نسير فيه بالإيجاز.

وما أن ترعرع في الطلب حتى تم له من التفوق ما لا يدركه إلا الصفوة المختارة من أمثاله.

وما كانت نشأته إلا في عصر مضطرب اشد الاضطراب تعصف به الناحية السياسية القلقة من جانب، والحياة الاجتماعية المريضة من الجانب الآخر كما تتجاوب فيه الموجة العلمية الفياضة.

وليس بمستغرب أن يدوي صيته في القطر الحضرمي تجاه التموجات التي كان يذيعها من على منبر الإصلاح نحو التوجيه العام، ومن كان في مثل مكانته العلمية خليق أن ينهل من نبع علمه الفياض الراغبون في المعارف والثقافة العالية.

وحسبك أن تعلم أن حضرموت لم تتوان عن الاتصال بهذا السيد الإمام. بل اندمجت فيه وكرعت من حياض علمه الزاخر وانتشت بدعوته الإصلاحية وتبارت في القيام بتنفيذها.

كيف كانت حضرموت في عصره؟

وعلى ماذا تنطوي في دعوته؟

أما حضرموت من الناحية السياسية فقد تمزقت أوصالها وأصبح النفوذ لمن عز كما في المثل. ولبحث هذه الناحية موضوع آخر.

أما ما يتصل بوشائج البحث إلى هذه الناحية فلا بأس من أن ننير السبيل فيها ولو قليلا لكي نتصور اثر النهضة العلمية تصوراً تاماً

1 - كان من اثر قسوة الظلم والفوضى التي سادت في هذا العصر أن تمزقت أوصال الحياة الاجتماعية فنتج عن هذا ازدياد الهجرة ازدياداً خيف من عواقبه الوخيمة بان تصبح البلاد ولم يبق بها من السكان أحد.

وكادت الحال تصل إلى هذه النتيجة؛ فقد جرفت الهجرة عدداً وافراً من أبناء الوطن بل بلغ بها الحال أن سافرت بعض الفخائذ العلوية بأكملها، وإلى اليوم لم يبق بحضرموت منهم أحد. والهجرة وأن تكن قديمة وقد برم بها الأمام الحداد اذو يقول:

مشتتون بأطراف البلاد على ... رغم الأنوف كما تهواه حساد

إلا أنها في هذا القرن بلغت أقصى ما يتصوره العقل.

2 - كان من جراء الفوضى أن خربت البلاد وقلت حاصلاتها، ولم تبق لدى الزراع رغبة في الزراعة على ضعفها لأنهم يتعرضون للضرائب الفادحة من ناحية الحكام المتعددة أسماؤهم، ولعبث البادية من الناحية الأخرى.

وكذلك ضعفت التجارة فكسدت الأسواق وكادت تتعطل الحياة الاجتماعية والاقتصادية من كل ناحية.

ضاق بهذه الحالة أعيان القطر الحضرمي وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن عمر بن سميط، ونظر إلى الوسيلة التي يمكن بها القضاء على ما آل إليه الأمر: فرأى إنها تنحصر في الأمور الآتية:

1 - نشر العلم بين جميع الطبقات.

2 - تنظيم الحياة الاقتصادية بما يكفل للبلاد الخير والصلاح.

3 - الدعوة إلى إيجاد والٍ عدلٍ، وبذلك تنتعش الآمال ويسود ما بين الناس الهناء والطمأنينة.

دأب مجاهداً في سبيل إعلاء هذه الفكرة السامية أربعين سنة وهو لا تفتر له عزيمة ولم تقعد به همة.

ومن اجل هذا (كان يشدد على كل عالم ومتعلم ويلومه اشد اللوم في ترك الدعوة ولا يتركه حتى يأخذ عليه العهد بالدعوة فإذا جاء ثانياً سأله عما فعل).

(اخذ يرسل الدعاة إلى القرى قرية فقرية وطلب لهم المعاونة المالية من أربابها كما كان يفيض عليهم من ماله الخاص. فكان الدعاة يجوبون بها طرقها وينادون من على رؤوس المنابر وبعد الصلوات، وقد يطلع منهم جماعة على منارة جامع القرية فيدعون الناس إلى الله ويتداولون ذلك فيجتمع الناس قياماً وقعوداً في سطوح بيوتهم يستمعون إليهم ويتعلمون منهم، ومنهم من يشرف من طاقته منصتاً لذلك).

ثم ألقى نظرة نحو الناشئة فأخذ في تعميم الكتاتيب ووضع لها نظاماً خاصاً، ولم يقصر الأمر على تعليم البنين بل أمر بتعليم البنات.

وكان يقول: (إن البنت التي لم نعلمها أمر دينها ولم نمكن الأيمان من قلبها لا تأتينا بنجباء، ولا تربي أولادها على محبة الخير. فاجتهد في تعليم طائفة منهن ثم نشرهن للتعليم فلم تمض مدة وجيزة حتى كانت البيوت تحن بالتعليم والقراءة كأنها بيوت النحل.

وكان الرجال من قبل لا يسمعون لفظة تعيير منهن على التقصير أو الخطأ بل ربما يحبذنهم عليه.

فلما تعلمن كن مهمازاً لهم إلى الخير، وطالما عيرنهم على ظلمهم وقبحنهم على ما يرتكبون منه فلم يعلم إلا الله كم كففن من يد ظالمة وأنهضن من همة نائمة).

ثم التفت نحو البوادي، وخصهم بمزيد عنايته وقال: (لا ينبغي لنا أن نلومهم على ما يفعلون إذا لم نعلمهم فإن تعديهم الحدود نتيجة جهلهم. فعلينا أن نزيل السبب الذي هو الجهل فيزول المسبب وهو الظلم).

وألقى نظرة نحو البوادي المتنقلة وهم الذين لا قرى لهم أو لهم قرى بعيدة لا تبلغها أقدام الدعاة فجعل لهم ليالي تعليم ودعوة إذا جاءوا إلى بلدة (شبام) بقوافلهم وجلبهم فكان الدعاة يأتونهم ليلا فيسمرون عندهم وهم في محطاتهم خارج البلد على الرمل. فكان الأعرابي يأتي وأنفه في خزامة الشيطان وينقلب مبصراً بنور الإيمان.

وفي مسئولية أهل العلم يقول:

معاشر أهلِ العلم قوموا جميعكم ... قيام امرئ في دعوة الخلق تؤجروا

ونوبوا عن المختار في نشر ما أتى ... إليكم به عن ربه لا تقصروا

ولا تخذلوا شرع الرسول فإنه ... عزيز عليه ما عنتم بل انصروا

فمن نصر الشرع الشريف فنصره ... تكفل مولاه به فتدبروا

وما دام مناط الدعوة ونجاحها يرتكز على سمو أخلاق الدعاة والمرشدين وابتعادهم عما يتنافى ومكانتهم الأدبية ودعوتهم لذلك وجه إليهم إرشاداته فقال:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً ... إذ عبت فيهم أموراً أنت تأتيها

أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهداً ... والموبقات لعمري أنت حاويها

ودعوة مثل هذه تستدعي نفقة عظيمة ومن اجدر بالتسابق والإنفاق عليها من ذوي السعة والمال، ولذلك عرض بالحث على الإنفاق والمباراة فيه فقال:

لا ينفع المرء إلا ما يقدمه ... لنفسه عند مولى الخلق باريها

ما للحريص على الدنيا سوى كفن ... ولو أتاه من الأموال غاليها

لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة ... فليس إنفاقها في الخير يفنيها

ولا تضن بها في حال جفوتها ... فليس إمساكها بخلا بمبقيها

(يتبع) علي عبود العلوي