مجلة الرسالة/العدد 695/على الطريق في سوريا ولبنان
→ هذه هي الأغلال | مجلة الرسالة - العدد 695 على الطريق في سوريا ولبنان [[مؤلف:|]] |
فتح عكا ← |
بتاريخ: 28 - 10 - 1946 |
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
أثبت في هذا المقال طرفاً مما شهدت في طريقي أثناء تجوالي في سوريا ولبنان في سفرتي الآخرة
لا أعرض لما شهدت وسمعت في المجامع والمجالس من آيات الحب والود بين البلاد العربية وإكبار إخواننا في سوريا ولبنان لمصر أهل مصر، ولكن أسجل حوادث طارئة، وإمارات عابرة شهدتها على الطريق لم تصدر عن إعداد أو احتفال أو تكلف بل ترجمت به الأنفس عما فيها ترجمة صادقة خالصة:
سارت بنا باخرة صغيرة اسمها القاهرة من الإسكندرية تؤم بيروت. وكان ركبان الباخرة قليلين أشتاتاً ألف بينهم سفر قصير، ولم أحاول أن أختلط بهم أو أتعرف إليهم، وتركت نفسي على سجيتها، والأمور على إذلالها
رأيت شاباً أسمر عربي السحنة يتكلم لهجة عذبة بين العامية والفصيحة.
قال: أنا من زحلة، وأقيم مع أسرتي في نيكارجوى من أمريكا الوسطى، وهناك بيتان من العرب فقط؛ ولكنا نحفظ لغتنا ونحرص على تعلمها والتكلم بها.
قلت: ولكن لغتك عربية خالصة تعلو على العامية.
قال: هذا أثر الدرس والقراءة
قلت: لقد نطق وجهك قبل لسانك بأنك عربي. فسرّ معتزاً
ورأيت كهلاً يقيم في دكار من بلاد السنغال وقد غاب عن بلده سنين كثيرة زهاء ثماني عشرة فيما أذكر.
حدثني الرجل عن مهاجري العرب في دكار وعن تجارتهم ومكانتهم وعن العرب من أهل البلاد والمستعربين، وأفادني كثيراً من أخبار تلك البلاد وحالاتها. ومن طريف ما أخبرني أن أهل السنغال شجر بينهم وبين الفرنسيين خلاف، وامتد بينهم نزاع على بعض الأمور؛ فقال السنغاليون يهددون فرنسا: نحن عرب، وسنعمل للانضمام إلى الجامعة العربية
وسمعت عجوزاً من زحلة أو ما يصاقبها من القرى تقول وقد سمعتنا نتحدث عن اللغة العربية وحرص العرب عليها حينما ساروا وأينما ساروا. قالت: أيترك الإنسان أمه إلى جارتها!
شرحت صدري، وأضاءت نفسي هذه الأحاديث وأشباهها وكم أصخت إلى صاحبي القادم من دكار يحدثني في ضوء القمر، ونحن نساير الساحل الشرقي من البحر الأبيض، ونرى جباله ومناراته وأضواء بلاده بعيدة خافتة.
ونزلت من الباخرة صباح السبت لعشرة من شهر أب، وفي سحنتي ولهجتي ما ييسر لي الأمور في الميناء
وأخذت سيارة إلى دمشق، فلما بلغنا أول مخفر في سورية وقف عليه السائق وتقدم شرطي ينظر في السيارة. قلت: أتريد جوائز السفر؟ فضحك وقال: عرفناك بلغتك. أهلاً وسهلاً، مع السلامة مع السلامة. يعني أنه عرفني مصرياً.
ودخلنا مدينة حماة بعد ظهر الاثنين سادس شوال أنا ورفيقي الأستاذ عبد المحسن الحسيني فطعمنا واسترحنا في فندق أبي الفداء ثم خرجنا نتفرج ونرى النواعير الهائلة على نهر العاصي، ونستمع لحنينها الدائم. وكنا على نية زيارة ملك حماة أبي الفداء صاحب التاريخ. فقلت لصاحبي: نرجع إلى الفندق فلن نعدم من يتعرف بنا ويدلنا على أبي الفداء. فلما بلغنا الفندق رأينا عربة تقف على الفندق، فقلنا نركب هذه العربة إلى مزار أبي الفداء، ورأينا رجلاً ينزل من العربة وطفلاً يبقى فيها، فانصرفنا عنها، وإذا الراكب الذي نزل يتقدم إلينا ضاحكاً قائلاً: أأعجبكما صورة العلم المصري على ظهر الحصان. وأن هذا الهلال والأنجم تصور العلم المصري. قلنا: بارك الله فيك. وسألناه عن الطريق إلى أبي الفداء فعرفنا نفسه وعرفنا، فإذا هو من وجوه المدينة ولا أريد ذكر أسماء في هذا المقال. قال: شرفوا ودعانا إلى الركوب. قلنا: معك طفل، وقد خرجت للتنزه، أو جئت للجلوس في هذه الحديقة، فلا نصدك عما خرجت له. فأبى إلا أن نركب معه. فأجبنا دعوته وسرنا إلى ضريح أبي الفداء في ظاهر المدينة؛ ولجنا باباً فرأينا إلى اليمين حجرة صغيرة عليها قبة، فدخلنا إلى ضريح قديم كتب عليه أسم أبي الفداء وتاريخ وفاته. ثم هبطنا درجات إلى صحن فيه أنبوب يستخرج الماء من نبع ويستقي منه جيران المسجد. وتقدمنا شطر الجنوب إلى مسجد صغير قيل لنا إن العامة تسميه مسجد الحيايا (أي الحيات) لأن فيه عمداً على صورة الحيات. فدخلنا إلى مصلى في جداره القبلي إلى جهة الشرق نافذتان بينهما عمود من الرخام نحت نحتاً عجيباً، وصورت عليه حبال متداخلة مجدولة كأنها حيات التف بعضها على بعض
وأبى كرم السيد الذي شرفنا بصحبته إلا أن يرينا بعض الدور الأثرية في حماة. فقلنا: قد رأينا دار العظم في مهرجان أبي العلاء. فسار بنا إلى حي قديم فيه دار كبيرة جليلة مشرفة على العاصي، هي دار الكيلاني، فأستأذن لنا من أهلها فدخنا فرأينا من نظام بيوتنا العتيقة وجمالها وجلالها ما راقنا وسرنا.
وأمر مضيفنا السائق أن يتوجه تلقاء داره. فسرنا إلى دار نزهة خارج المدينة على منحنى العاصي مشرفة على النهر يزينها وتزينه، وجلنا في الحديقة إلى النواعير الخمس التي ترفع الماء إلى البساتين المجاورة، فكان مشهداً عجيباً جميلاً. وكان لأصوات النواعير وخرير المياه بين الأشجار ومجرى النهر وأشعة الأصيل الشاحبة على النواعير العالية جمال ورهبة وسحر.
ثم جلسنا في حديقة الدار مطلين على النهر في حفاوة صاحب الدار وكرمه.
فلما أستأذنا أبي إلا يعود بنا إلى الفندق، ولم يستجب رجاءنا إذ أشرنا عليه بالاستراحة في داره، وكان يشكو ألماً يقطع عليه حديثه بين الحين والحين. ورجع بنا إلى الفندق وجلس معنا في المقهى حيناً، وقام ليذهب إلى الطبيب معتذراً إلينا. وقد ألح علينا أن نبقى إلى الغد، فعرفناه أنا أزمعنا السفر ليلاً إلى حلب
فهذه حفاوة سيد من سادات حماة بمصريين قابلاه على الطريق دون معرفة سابقة. بارك الله فيه وفي طفله بشار الذي آنسنا بصحبته وراقنا بمخايله وبما قص والده من أحاديث ذكائه.
وليس هذا إلا مثلاً كريماً مما يلقاه المصري في الشام حيث توجه!
وأزمعنا السفر إلى حلب بالقطار، وعلمنا أنه يبرح محطة حماة والساعة ثلاث ونصف بعد نصف الليل، فلم يثن هذا عزمنا وتركنا الفندق والساعة اثنتان ونصف.
وبينا نحن في انتظار القطار تقدم نحونا شرطي عرفنا بوجوهنا أو لهجتنا، فتحدث إلينا وتلطف. وساق الحديث إلى ثورة سورية وبلاء أهل حماة، وأفاض الرجل في الحديث، ثم تكلم عن الجامعة العربية، وعن عبد الرحمن عزام فأثنى عليه. ثم نظر إليّ وقال: أرى فيك والله شبهاً منه. فضحكت وقلت: هل رأيته؟ قال: رأيت صورته. ومازال الرجل يتعهدنا حتى أركبنا القطار وودعنا.
فهذا شرطي في محطة صغيرة في أخريات الليل لم يشغله عمله وتعبه عن الحديث والمودة. ولم يقصر علمه عن معرفة البلاد العربية والجامعة العربية ورجالها.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام