مجلة الرسالة/العدد 695/رسالة النقد
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 695 رسالة النقد [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 28 - 10 - 1946 |
القافلة الضالة. . .
تأليف الأستاذ محمود كامل المحامي
(منشورات دار الجامعة)
للأستاذ شاكر خصباك
للأستاذ محمود كامل المحامي باع طويل في القصة القصيرة، فقد أخرج منذ أن اقتحم هذا الميدان حتى الآن ما يقارب الخمسة عشر مؤلفاً، ضمت بين دفتيها عشرات الأقاصيص والقصص. هذا عدا الروايات الطويلة والقصص المسرحية التي احتوتها ثمانية مؤلفات. فكتابه (القافلة الضالة) إذن ليس ألو محاولة قصصية يقوم بها، وفي هذه الحالة يترتب علينا عدم الإغضاء عن أي ضعف في أسلوب أقاصيصه الحديثة، أو تشويش في حوادثها، أو ركاكة في لغتها. إذ لو وقع في مثل هذه الأغلاط التي تفتقد القصة بعض مميزاتها الفنية قصاص مبتدئ لتسامحنا معه بعض المسامحة. أما والأستاذ محمود كامل قصاص قديم فسنلجأ إلى التشدد والصرامة في محاسبته على ما اعتور مؤلفه من أغلاط فنية كثيرة.
- 1 -
فلنتصفح الكتاب ولتناول قصصه قصة قصة؛ فقد افتتحه بقصة (موسيقار الطريق)
وملخصها: (أن نادية - وهي مدرسة للموسيقى في إحدى المدارس الثانوية - سافرت في الصيف إلى (عتاقة)، فأحبت هناك موسيقاراً شاباً وأحبها، وتوثقت بينهما عرى الصداقة، وقويت أواصر الود، ولكن ما كادت تمضي على اجتماعاتهما ثلاثة أيام حتى فرت نادية عائدة إلى القاهرة. . لماذا؟! لأنها خشيت أن يتمكن حب هذا الموسيقار في قلبها، في حين انه قد يكون شاباً من هؤلاء الشباب الذين يقضون فترة خاطفة من الوقت على شاطئ البحر ليقتنص أثناءها فتاة من المصادفات يخدعها ويلهب عاطفتها، ثم يفترق عنها ولا يعود يسعى إليها أو يسمع بها كأن أحداً لم ير الآخر!!
غير أن هذا الموسيقار تبعها إلى القاهرة وهو لا يعرف عنوانها غير الشارع الذي تسك فيه، فلجأ إلى أسلوب غريب (وغريب جداً) في البحث عنها: وهو أن يحمل أكورديونه ويجوب في ذلك الشارع ليلاً متغنياً بقطعة غنائية كان قد غناها لها آخر مرة. واستمر على ذلك بضع ليال دون أن يبالي بصحو الجو أو اكفهراره، حتى أن الماء كان يتساقط من كتفيه في بعض تلك الليالي الماطرة. وأخيراً شاءت له المصادفة أن يعثر عليها فتم بينهما الزواج)
وهكذا تنتهي من القصة!!
وبعد، فهل سمعت من قبل أو من بعد أن محباً حمل آلته الموسيقية وانطلق يجوب بها الشارع الذي تسكن فيه حبيبته، وهو يغني ويعزف كيما يستجلب انتباهها؟! قد تكون سمعت بمثل هذا في أقاصيص العجائز الخيالية البعيدة عن الواقع، أو في أقاصيص بعض القصاصين الكلاسيكيين أمثال شكسبير وبوكاتشيو وسرفانتيس. وأما أن تقرأه في كتاب قصصي لمؤلف مصري معاصر؛ يقول في مقدمة كتابه إن: (أقاصيصه عبارة عن مجموعة صور منتزعة من الحياة الاجتماعية المصرية). فالحق معك إن استغربت من ذلك وأغرقت في استغرابك. إذ أن مثل هذا التصرف الشاذ بالنسبة لعادات وحياة المجتمع المصري بعيد عن الوقوع كل البعد. وبما أننا نعني ب (الصور الاجتماعية) الحوادث التي يتكرر وقوعها حتى تصبح من سمات المجتمع؛ فهذه القصة إذن قد فقدت طابعها الفني - باعتبارها قصة اجتماعية واقعية - ببعدها عن الحقيقة وإغراقها في الخيال، وأقصد ببعدها عن الحقيقة عدم واقعية تكرر حدوثها في المجتمع المصري ذاته، ولا علينا أن يحدث لأحدهم أن يحمل أكورديونه ويعزف عليه ويغني وهو يجوس في ظلمات الليالي في الشارع الذي تسكن فيه حبيبته في بلاد أخرى أو لا يحدث ما دامت القصة مصرية وليست أجنبية!
ويكفي هذا السبب للحكم على هذه القصة بالفشل، لأن تجوال صاحبنا جمال في شارع يلبغا بشبرا وغناءه وعزفه كيما تسمعه حبيبته نادية وتخرج له. حادث رئيس في القصة ترتكز عليه حوادث مهمة ونتائج خطيرة. ومن هنا أطلق المؤلف عليها أسم (موسيقار الطريق). ولما كان هذا الحادث فاشل - لافتقاره إلى الصدق والواقع - فإن ما ارتكز عليه من حوادث ونتائج فاشلة بالطبع، فالقصة فاشلة إذن
- 2 - ونفرغ من القصة الأولى فنتناول القصة الثانية وهي (رسائل حب). وفي ظني أنك لو قرأت يا عزيزي القارئ هذه القصة لما خرجت منها بشيء. وهذا ما حدث لي بالضبط عند قراءتها فاستمع الآن إلى ملخصها علك تجد شيئاً من الصحة فيما ذكرت:
ف (ممدوح صادق طالب في كلية الهندسة: سافر مع أسرته في الصيف إلى الإسكندرية، فالتقى هناك بسنية في أحد الملاهي، وكانت هذه في صغرها تسكن في نفس الشارع الذي تسكن فيه أسرته، لكن والدها التاجر أفلس أخيراً فانتقل إلى حي آخر، ولم ير سنية منذ ذلك اليوم، فلما رآها الآن تملكه شعور قوي جذبه إليها، واضطر إزاء ذلك الشعور أن يتعرف إليها، ثم جلسا حول مائدة يتحدثان عن الماضي والحاضر، فعلم أنها قد أصبحت ممثلة، وعلمت أنه طالب في كلية الهندسة، ومن ثم اتفق معها على أن يبعث لها برسائل غرام عندما تعود إلى القاهرة، وذلك لأن أحد ناشري الكتب أوصاه أن يكتب رسائل غرام حقيقية لينشرها له - وهنا يجدر بي أن أشير إلى أن لممدوح صادق ميلاً إلى القصة، وقد نشر في بعض المجلات أقاصيص قصيرة - ولكنه لم يوف بوعده بعدئذ، بل كتب الرسائل بها لنفسه عملاً بوصية الناشر.
ومضت الأيام سراعاً، وإذا بخطاب يصله من سنية ذات يوم تبلغه فيه أن رسالته الغرامية التي بعث بها إليها مدهشة جداً، وأنها حازت إعجابها، وأنها تأمل أن تراه قريباً. فدهش لأنه لم يبعث لها بأية رسالة، وظل فريسة للقلق والاضطرابات إلى أن عاد إلى القاهرة مع أسرته. فسأل عن سنية وعلم أنها سافرت إلى إحدى قرى الريف لتصوير مناظر فلم جديد.
وقصد ذات يوم إلى حلاق قريب من داره، فبدأ صبي الحلاق يؤدي عمله، وفتح الدرج الذي أمامه ليخرج (المسن) الجلدي، فلمح ممدوح صورة لسنية متقطعة من صحيفة من الصحف ومحاطة بإطار رشيق، وسأل الصبي عن أسمه ولقبه، فإذا هو (ممدوح أسعد). وسأله عن علاقته بسنية فأخبره أنه رآها مرة في حياته فأعجب بها أشد الإعجاب. وقد بحث عن صورتها طويلاً فعثر عليها في إحدى الصحف واقتطعها منها، وأنه يكتب لها كلما شاء أن يفضي إليها بشيء. وأخبره أيضاً أنه يكتب في المجلات بعض القصص والأزجال!
. . ومضت أيام على اجتماعه بذلك الصبي، وإذا ببرقية من بور سعيد تصله من سنية: تطلب منه فيها أن يوافيها إلى محطة القطار. وبعد تردد طويل أجاب طلبها. وما كاد القطار يبلغ المحطة حتى قفزت سنية من العربة وتعلقت به، وانطلقت تطري مقدرته الأدبية، ثم قدمت له مجموعة من الرسائل الأنيقة (الزرقاء) التي كانت موقعة بتوقيع (ممدوح أسعد). ثم سألته عن سر هذا التبدل في أسمه، فأخبرها أن (ممدوح صادق) الاسم الذي يعرف به في المدرسة، و (ممدوح أسعد) أسمه الحقيقي، والذي يعرف به في عالم الأدب
وبعد المقابلة عاد إلى المنزل مهدم الأعصاب، وقد فهم السر. وفتح الدرج الذي اعتاد أن يحفظ به رسائله التي كتبها لسنية، وانطلق يتلوها في خيبة أمل ومرارة، وقبل أن يتم تلاوتها سمع صراخاً وصوت احتشاد أقدام في الشارع. فلما استطلع الخبر علم أن الترام قد قتل الصبي ممدوح أسعد الحلاق. فاستغل هذا الحدث لصالحه ومزق رسائله وألقاها في الموقد، وذهب برسائل ممدوح أسعد إلى مجلة معروفة نشرتها له في أعداد متسلسلة. وبعد بضعة أسابيع قرأ في نفس المجلة خبراً يتعلق بسنية التي كانت قد سافرت مع فرقة تمثيلية إلى مراكش وفاس مفاده أنها تزوجت بأحد تجار الجلود في فاس، وأنها اعتزلت التمثيل. ومنذ ذلك اليوم لم تعد إلى مصر، ولم يسمع عنها ممدوح شيئاً)
(البقية في العدد القادم)
شاكر خصباك