مجلة الرسالة/العدد 694/الكتب
→ القدَرُ الرطب!! | مجلة الرسالة - العدد 694 الكتب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 21 - 10 - 1946 |
أحكام عابرة:
العلم والحياة
تأليف الدكتور مشرفة بك
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
يتقمص الأستاذ الجليل الدكتور مشرفة في معظم كتبه عدة شخصيات أهمها العالم والمدرس والأديب معاً، وهذه ميزة قلما تتوافر لعالم غيره وهي في هذا الكتاب بارزة جداً، والظاهر أن ذلك راجع إلى أنه يتمشى مع المنهاج الموضوع لسلسلة (اقرأ) المقصود به صلاحيتها لأوساط الناس على اختلاف ثقافاتهم. فأولا:
شخصية العالم:
وتبدو واضحة لدرجة المحاباة، محاباة العلم والعلماء. يقول: (إن العلماء أعرف الناس بالخير وأقربهم إلى الفضيلة) ويقول: (من الخطأ الفاحش أن يقال إن العلماء يقفون عند المظاهر المادية للعالم، فالعلماء إذ يبحثون عن الحقيقة يسمون بعقولهم إلى المنتهى) ولعل الدكتور يريد أن يصف العلماء كما يجب أن يكونوا أو يظن أنهم جميعاً على شاكلته أطهار أبرار؛ وإلا فأهوال الحروب الحديثة لا تؤيد القول الأول، وبعض الباحثين لا يؤيدون القول الثاني بل يقولون به (تشارلتن) في كتابه (فنون الأدب): (إذا أردنا الدقة ألقينا العلم بعيداً كل البعد عن الحياة العملية، إذ العلم لا ينظر إلى المعرفة من وجهها النافع المفيد فهو لا يعينه إلا المشكلات المجردة والمبادئ العامة. العلم مجرد فكر يقوم به العالم بغض النظر عما إذا كان يفيد أو لا يفيد). وثانيا:
شخصية المدرس:
وطبيعي أن يكون الدكتور الفاضل مدرساً ناجحاً في معظم كتابه لأنه متصل الوقت والجهد بالتدريس مشرفاً وأستاذاً ومحاضراً. والذي لاشك فيه أنه تطبع لهذا على أن يتصور أن الأذهان التي يحادثها أذهان طلاب في حاجة دائمة إلى شئ من الإعادة والتكرار والتشويق والمبالغة أحياناً كلما اقتضت الظروف. غير أن هذا التطبع قد أضطره هنا إلى بعض الإطالة، وصحيح أن الإطالة من مثله مرغوبة محببة لأنها تحمل في غصونها معلومات مفيدة أو طريفة غالباً إلا أن حجم هذا الكتاب لا يحتملها نسبياً. فمثلاً في القسم الأول لكي يصل إلى تفهيمنا أن العلم يخدم السياسة يبدأ بأقوال شتى لمحمد عبده وأرسطوطاليس وبلاتون وسقراط، وإلى هنا يكون قد أستنفد سبع صفحات من تسع صفحات مخصصة للقسم كله. وهكذا في سائر الأقسام تقريباً. كذلك يطيل في شرح بديهيات. فقد عقد قسماً كاملاً عن (العلم والمال) يدور حول تعريف أصحاب الأموال والعقارات أنهم لو استخدموا الطرق العلمية في إدارة أموالهم وتنظيم عقاراتهم لزاد إنتاجهم.
وهناك سمة أخرى من سماته كمدرس نلمسها حين يدلي ببعض آراءه في صيغة الأحكام المؤكدة التي لا تقبل المراجعة أو التعقيب من ذلك قوله: (السياسة أرفع الفنون البشرية منزلة وأعلاها قدراً)!! لماذا يا سيدي؟ يقول: (لأن كل فن يرمي إلى تحقيق فائدة لنفر من الناس، أما فن السياسة فغرضه نفع الناس جميعاً)!! وأظن أنه ليس هناك ما يمنع أي إنسان من أن يرفع من شأن أي فن يشاء. غير أن السائغ المحتمل أن الفنون كلها رفيعة المنزلة بلا تفاضل، كما ينبغي أن ترمي كلها إلى نفع الناس جميعاً، قد يجوز التفاوت ولكن هل يجوز أن يعزى - إن وجد - إلى الفائدة من حيث كثرتها أو عمومها؟! وثالثاً:
شخصية الأديب:
وما بنا من حاجة إلى وصف الدكتور بالأديب فإن كل إنتاجه يمت إلى الأدب الممتاز بصلة وثيقة تفسح له بين أساطين الأدب مكانا محترماً. غير أن معظم العلماء الأفاضل حين يكتبون يميلون إلى زخرفة أسلوبهم بما تدلهم عليه (قواعد البلاغة)، وهذا الأسلوب على هذا النحو هو الذي ينم على أنهم علماء
لذلك نجد الدكتور تارة يصطنع (التضمين) اصطناعا يكاد يكون مقصودا لذاته، فيقول مثلاً وهو يستحث الشرق لينهض كالغرب: (فإما خففنا معهم وإما تخاذلنا فقعدنا فرمونا بحجارة من سجيل فَجُعِلْنا كعصف مأكول)، ويقول وهو يسرد حقيقة علمية معروفة: (الجسم إذا كان في موضع مرتفع فإن ذلك يكسبه مقدرة خاصة على اكتساب الحركة فيكون كجلمود صخر حطه السيل من عل).
وتجده تارة أخرى يستشهد بالشعر بغير ضرورة ملحة:
(العلم يرفع بيتاً لا عماد له) ... (على قدر أهل العزم تأتي العزائم)
بل يستشهد بشعر صوفي:
دواؤك فيك وما تشعر ... وداؤك منك وما تبصر
وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
ولعل هذا كله للتنويع المقصود به الترفيه عن القارئ
غير أن الحق أنه بهذه الشخصيات المتنوعة قد استطاع أن يجعل من كتابه هذا سجلاً شاملاً لحسنات يرجع إليها المستفيد لمحض الاستفادة والمستفيد لغرض الاستزادة علماً وعملاً على السواء؛ فمن حسناته أنه يصحح أخطاء شائعة بين الجمهور وأخرى بين الأوربيين وثالثة بين العلماء. إذ من الجمهور من يعتقد أن الدين يؤخر العلم والكتاب ينفي ذلك بالحجة الدامغة والواقع والمنطق الاستقرائي. ومن الأوربيين من يعتقد أنهم أصحاب الفضل على العلم والكتاب يبدههم بأن العلم إنما أزدهر قبل ميلاد الفكر الأوربي بمئات السنين. ومن العلماء من يعتقد أن (بيكون) هو الذي أستحدث (المنهاج) والكتاب يدلهم على أن المصريين والبابليين عرفوه من قديم. وهكذا. كتاب عظيم بمادته الغزيرة وحقائقه المدعمة بالأرقام حيثما كان للأرقام مجال. والمؤلف فطن غاية الفطنة إذ يعقب عليها بما يعود بالنفع على وطنه وعلى العالم جميعاً. فحينما يذكر مقدار الثروة المعدنية في مصر يهيب بشباب العلم أن يفكروا في استخدامها وتنميتها. . . وحين يقرر أن الجزء المنزرع من الوجه البحري فقط (2200 كيلومتر) يمكن أن يسع سكان الأرض طرا (2000 مليون نسمة) بحيث يخص كل فرد حوالي عشرة أمتار يستطرد فيشير إشارة خفيفة عنيفة إلى أن هذا النصيب الفردي الضئيل لا يحصل عليه كثير من المصريين، ثم يستطرد فينبه الأثرياء إلى أن حريتهم في أموالهم يجب أن تخضع للشعور بالمسؤولية وتقدير الواجب. وهكذا.
ولو أن في الكتاب أيضاً آراء سلفية تردد أقوال سقراط وأفلاطون وجلوكون عن الجمهورية والديموقراطية والأوليجراكية وهي - بالمعاني التي قصدها - أسماء تكاد تكون معدومة المسميات بل معدومة الوجود والأثر في عام 1946 الذي نعيش فيه، ويحسن أن نعيش له وللأعوام المقبلة إلا أن الكتاب في مجموعه كنز ثمين يزيد من قيمته أنه متجه كله نحو الخير والإنسانية.
عبد الفتاح البارودي