مجلة الرسالة/العدد 693/الضد والنقيض في الفلسفة المادية الثنائية
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 693 الضد والنقيض في الفلسفة المادية الثنائية [[مؤلف:|]] |
بين الفكر والعمل ← |
بتاريخ: 14 - 10 - 1946 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
تناولت في كتابي الأخير عن ابن سينا خلاصة الفلسفة المادية الثنائية فقلت في تلخيصها إن (من قوانينها اجتماع الأضداد فيها ريثما يتغلب ضد منها على ضده بغير انقطاع لهذه المغالبة الدائمة، وإن الصفة الكمية فيها تتحول إلى الصفة (الكيفية) فتنشأ الحياة كما ينشأ العقل من هذا التحول، إما على التدريج وإما طفرة كما يظهر بعض أنواع النبات من الأنواع الأخرى، فلا توجد كيفية إلا وهي نتيجة التغير في الكمية، ولا توجد حالة قط إلا وهي تنطوي على ما يتاقضها، فلا تبلغ تمامها إلا ظهر منها النقيض الذي تنطوي عليه. . .)
وقد كانت هذه النبذة موضع ملاحظة بين بعض المشتغلين بالمباحث الفلسفية، لأنهم وهموا أن إيراد النقيض والضد في عبارة واحدة يدل على استخدامها بمعنى واحد. وهما مختلفان
وتصحيح هذا الوهم أن النقيض يأتي بمعنى الضد، لأن كل نقيض لشيء من الأشياء فهو ضده بلا استثناء، ولا خطأ إذن من الوجهة العامة في الجمع بين الكلمتين في سياق واحد، ولا حرج من التخصيص بعد التعميم على الإجمال
نقول هذا من الوجهة العامة التي لا ترتبط بالفلسفة الثنائية المادية أو بغيرها من الفلسفات
أما إذا رجعنا إلى مصطلحات الفلسفة المادية الثنائية فهنالك يبدو جلياً أن أصحاب تلك الملاحظة لم يطلعوا على بحث واحد من بحوثها المطولة في مراجعها المعتمدة؛ لأن شرائح الفلسفة المادية الثنائية قد استخدموا في هذا الباب كل مصطلح يخطر على البال في معنى المخالفة والمباينة
فاستخدموا معنى التناقض في كل شرح من شروحهم المطولة
واستخدموا معنى التضاد (أو التقابل)
واستخدموا معنى
واستخدموا معنى
واستخدموا في جميع هذه الأحوال كلمة التنافي أو التناسخ أو التناقض في أقوى
فمن أمثلة استخدامهم لمعنى التناقض شعارهم الذي اقتبسوه من هيجل حيث يقول بالنص الإنجليزي:
وترجمتها: (أن التناقض هو جذر كل حركة وحيوية)
ومن أمثلته قانونهم الثالث الذي يقولون فيه بالنص الإنجليزي:
وترجمته: (إن كل حال أو وجه من أحوال التطور ووجوهه يعتبر تركيبة تقرر النقائض المطوية في التركيبة السابقة)
ومن أمثلة استخدامهم لمعنى التضاد قانونهم الأول الذي نصه
وترجمته: (قانون الاتحاد والتنازع في الأضداد)
ومن أمثلته قول لينين في شرح هيجل بنصه الإنجليزي:
وترجمته: (إن التطور في الواقع إنما هو التنازع بين الأضداد)
ومن أمثلة استخدامهم لمعنى التقابل قول كارل ماركس في شرح نشأة رأس المال:
وترجمته: (إن المركب ينقض المقرر كما ينقض ما يقابله ويتغلب عليهما)
ومن أمثلة استخدامهم لمعنى المغايرة كلام الفيلسوف الشيوعي شرح هيجل: (إن الثنائية هي تغاير أبدي في الصور)
أما التنافي أو التناسخ أو التناقض، فأكثر من أن يؤتى له بشاهد أو بضعة شواهد، وحسبك منه نص القانون الثالث، وهو قانون نفي النفي أو نسخ النسخ أو نقض النقض كما يسمونه: يخلو مبحث واحد من مباحث شرائحهم من تكرار هذه الكلمة عشرات المرات في كل سياق
فنحن قد لخصنا مذهب القوم بعباراته، ولم تأت بكلمة من عندنا في معناها اللغوي أو معناها المنطقي أو اصطلاحها الفلسفي الذي أرادوه، وقد ذكرنا النقائض والأضداد لأنهم أكثروا من ذكرها في أمهات كتبهم ومطولات شروحهم، ولم يدعوا لوناً من ألوانها في التعبير الفلسفي والتعبير اللغوي إلا ذكروه وكرروه ولم يخطئ القوم في استخدام هذه المصطلحات، أنها تلزمهم جميعاً في مواضعها وتفيدهم في تفسير أطوار المادة وأطوار المجتمع الاقتصادية على اختلافها وتعاقب مظاهرها وصفحاتها
ولكنهم إذا استغنوا عن بعض هذه المصطلحات فهم أحوج ما يكونون إلى مصطلحين منها، وهما النقائض والأضداد
فلا يخفى أن مذهب القوم يدور على الحتم واللزوم، وقد سماه بعضهم بالحتمية المادية لأنه لا يسمح بفكرة المشيئة الإلهية التي تقضي بالإرادة والاختيار في تدبير هذا العالم
فالحالة المادية تخرج نقيضها على سبيل الحتم واللزوم لا على سبيل المشيئة والتدبير، ولهذا وجب عندهم أن تخرج نقيضاً واحداً لا اختيار فيه، ولو كانت تخرج شيئاً في طبيعية الأضداد المتعددة لاقتضى ذلك مشيئة تميز بين الأضداد وترجح بعضها على بعض في التطور من حال إلى حال. ولا يخفى أن الشيء قد تكون له أضداد كثيرة غير أضداد التقابل ولا يكون له غير نقيض واحد ليس يقبل التعدد والتكرار
فذكر النقيض في مذهبهم لازم على قدر ما في هذا المذهب من الحتم واللزوم
أما الأضداد فلزومها عندهم أن الحالة اللاحقة تنقض الحالة السابقة، ولكن السابقة لا تنقض اللاحقة ولا تبطلها ولا تنفيها. فهي مضادة لها وليست ناقضة لها أو واقفة عندها موقف النقيض من النقيض
ومثال ذلك في مذهب القوم أن طور الصناعات البخارية ينقض طور الصناعات اليدوية لأنها تأتي بعدها. ولكن الصناعات اليدوية لا تنقض الصناعات البخارية التي تعقبها، وكذلك عصر المدن التجارية ينقض عصر الإقطاع، ولكن عصر الإقطاع لا ينقض عصر المدن التجارية، وقس على ذلك جميع الأدوار في ترتيب التطور الاقتصادي، أو ترتيب التطور في مادة الكون على التعميم.
فإذا تعددت هذه الحالات، فالأصح أن تسمى كلها أضداداً بعضها لبعض، لأن هذه الصفة تصدق عليها جميعاً بلا استثناء، ولكنك لا تسمي السابق منها ناقضاً لما يأتي بعده ولا مناقضاً له إلا في عالم العقل دون عالم الواقع الذي يفسره الماديون الثنائيون.
وبعد، فهذه همسة في الآذان المفتحة، وعركة في الآذان المغلقة، وقد يفتح العرك ما استغلق من الآذان!!
عباس محمود العقاد