الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 690/مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 690/مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 690
مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 23 - 09 - 1946


للأستاذ خليل جمعة الطوال

ولما أظهر الله الإسلام تنفست هذه الفئات المضطهدة الصعداء، وأخذت تسير بسيره، وتترسم خطاه، وإذ آنست فيه إلى ظل نظام عادل، فقد أخذت تؤسس في كل حاضرة من حواضر الإسلام مدارس للعلم ومجالس للعلماء، واهم هذه المدارس على الإطلاق هي مدرسة الإسكندرية المشهورة.

وباتساع رقعة الإسلام أخذ الخلفاء يستعينون بهؤلاء العلماء على تنظيم شؤون إمبراطوريتهم السياسية، ولما ترافدت عليهم - أي الخلفاء - الفتوح، ودانت لهم الأقطار أخذوا يتطلعون إلى موارد العلم والمدنية والثقافة، ولم يفتهم قط أن يستعينوا بعلم هذه الطبقات الراقية التي خضعت لسلطانهم، ودخلت في حوزتهم، وعلى ذلك فإننا نستطيع أن نجمل العوامل الرئيسية التي عملت في تنشئة الفكر العربي وإعداده إعدادا علميا صحيحا لتلقي الحضارة في خمسة عوامل هامة وهي:

أولا - النساطرة - وقد استعان هؤلاء على نشر أفكارهم في بلاد العرب بتعاليم منتزعة من الفلسفة اليونانية حتى كان كل نسطوري يحكم الضرورة معلما في الفلسفة اليونانية، وهم إلى جانب ذلك أول مدرسة تهذب فيها الفكر العربي باحتكاكه بالثقافة اليونانية، وأول من خدم الطب في العصور الأولى.

ثانيا - اليعاقبة، وإليهم يرجع الفضل الأول في إدخال الأفلاطونية الجديدة، ومذهب الباطنية في جو الثقافة العربية.

ثالثا - الزرادتشيون في بلاد فارس، واهم مدارسهم هي مدرسة جنديسابور التي أسسها (كسرى انوشروان (وكانت تضم طائفة من العلماء الذين شردهم الإمبراطور (بوستيانوس) حين أمر بإغلاق جميع المدارس والهياكل في أثينا. وكانت تدرس في هذه المدرسة الكتب اليونانية والسريانية والفلسفة الهندية وآدابها وعلومها، وفي هذه المدرسة أيضا ازدهر الطب ونما إذ تخلص من ضغط الكنيسة، وتحرر من قيود العلوم اللاهوتية، واشتهر في هذه المدرسة قبل الإسلام الحارث بن كلدة الطبيب المشهور، وابنه النضر، وقد ذكره ابن سينا مع الذين هزموا يوم بدر، ثم أُسر وقتله علي بن أبي طالب صبراً.

رابعا - مدرسة حران الوثنية، ولسنا نعرف مؤسس هذه المدرسة ولا كيفية نشأتها، والذي وصلنا إلينا عن حران أنها كانت مثابة لتعاليم الديانة اليونانية القديمة بعد أن طغت عليها المسيحية بالعالم اليوناني. والراجح أن حران قد ورثت كثيرا من تعاليم الديانة البابلية القديمة، وان هذه المدرسة أيضا كانت متأثرة إلى حد بعيد بتعاليم الأفلاطونية الجديدة كما وصفها (فرفوريوس الصوري).

خامسا - العبرانيون، وأهم مدارسهم في صور، وبانباديئا وكانت عاكفة على درس شرائعهم التقليدية، ولئن ورث العبرانيون عن النساطرة نزعة إلى علم الطب إلا انهم لم يتفقوا عليهم قط، وقد ذكر (لكلارك) في كتابه تاريخ الطب عند العرب في القرن العاشر 29 طالبا مسيحيا، على حين لم يذكر سوى ثلاثة من أطباء اليهود وأربعة من وثني حران.

والى جانب هذه العوامل الرئيسية التي استمد منها فكر العربي أسلوب دراسة الحضارتين القديمتين اليونانية والرومانية، فقد كانت هناك مراكز هامة أخرى بالثقافة اليونانية فقد ذكر (دييل) انه كان في كل من أنطاكيه والرها، ونصيبين - وذكر أيضا حران - أبان الفتح الإسلامي مدارس راقية احسن أساتذتها فهم الثقافة الإغريقية وفلسفة ارسطو، والعلوم والطب المعروفة عند القدماء. وقال أيضا: (إن خلفاء بني أمية كانوا يرجعون إلى هؤلاء الأساتذة ليستعينوا على نقل أهم كتب اليونان والبيزنطيين العلمية والأدبية إلى السريانية والعربية.

العرب والترجمة:

بعد أن تثقف العرب على يد هؤلاء الأساتذة وجهوا همهم إلى دراسة الحضارتين: اليونانية والرومانية دراسة مستقلة، واستخراج أهم روائعهما التي قد تفيدهم في بناء حضارتهم. فعكفوا على دراسة المؤلفات القديمة، واجتهدوا في تفهمها وشرحها ثم علقوا عليها ذيولا إضافية، ظهر فيها طابع العبقرية الإسلامية، وعدلوا فيها ونقدوها، وزادوا من عندهم أشياء جديدة وكان لهم نظر صائب في إمازة الغث من السمين، والوضع من الأصل. ومن الذين اشتهروا في ميدان الترجمة كان خالد بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان المعروف بحكيم آل مروان، فقد ترجم كثيرا من كتب الفلاسفة، ولا سيما كتب علوم الطب والنجوم والكيمياء والآلات، والصناعات من اللسان اليوناني والقبطي والسرياني (وكانت الترجمة أحيانا من اليونانية إلى العبرانية، ومن العبرانية إلى السريانية) ويقال أن خالدا هذا كان أول من انشأ دار كتب في الإسلام، وقد أنشأها في دمشق.

وفي عهد عمر بن عبد العزيز، ترجم كتاب الطب الذي ألفه اهرن بن أعين، إلى اللغة العربية بأمر هذا الخليفة الصالح.

ويقسم بعضهم تاريخ الترجمة عند العرب إلى قسمين: أما الأول فيبتدأ من 132 هـ - 198هـ أي منذ بداية خلافة السفاح إلى خاتمة عصر الأمين، وفي هذا العصر ظهرت العبقرية العربية واضحة جلية لا سيما في الكتب التي ترجمها عبد الله ابن المقفع إلى العربية.

العصر المأموني:

أما القسم الثاني من تاريخ الترجمة عند العرب فيبتدأ بتسلم المأمون ذروة الخلافة ويعرف بالعصر المأموني، ويضاهي هذا العصر في تاريخ الحضارة العربية، بتقدم العلوم فيه وازدهارها، عصر بركليس في أثينا. واهم ما يمتاز به هو إنشاء بيت الحكمة التي أقامها الخليفة المأمون في بغداد، فجمعت في خزائنها اشهر الكتب العلمية القديمة، وضمت بين جدرانها كبار المشتغلين بالعلوم والفلسفة والنقل. وكان يتولى الهيمنة على إدارة دار الكتب هذه الوزير المعروف، سهل بن هارون، وجاء في بعض الروايات أن يحيى بن أبى منصور الموصلي المنجم المعروف، ومحمد بن موسى الخوارزمي صاحب الازياج المشهورة والمصور الأرضي البديع الصنع، كانا من خزنة بيت الحكمة المأمون. وكان علاّن الشعوبي، والفضل بن توبخت، وأولاد شاكر من الذين يترددون على هذه الدار أما للمطالعة، أو للنسخ والترجمة والتأليف.

وفي هذا الدور أيضا بعث المأمون إلى حاكم صقلية المسيحي يأمره بأن يرسل إليه جميع الكتب العلمية والفلسفية الموجودة في مكتبة صقلية الشهيرة، فتردد هذا في إرسالها، وضن بها كل الضن ولما ألح عليه الخليفة في الطلب جمع كبار رجالات الدولة واستشارهم في الأمر، فأشار عليه المطران الأكبر بقوله (أرسلها إليه فوالله ما دخلت هذه العلوم في أمة إلا أفسدتها) فعمل الحاكم بمشورته، وهي إن دلت على شيء فلا تدل إلا على مقدار كراهية رجال الاكليروس للعلم ونفورهم من ظل العلماء.

وفي هذا الدور أيضا جمع المأمون بعض حكماء عصره، على صنعة الصورة التي نسبت إليه ودعيت بالصورة المأمونية صوروا فيها العلم بأفلاكه ونجومه وبره وبحره، وعامره وغامره، ومساكن الأمم والمدن إلى غير ذلك، وهي احسن مما تقدمها من جغرافية بطليموس، وجغرافية مارينوس. وقد وضع له علماء رسم الأرض - وكانوا على ما يرويه الزهري سبعين رجلا من فلاسفة العراق، كتابا في الجغرافيا أعان عمال الدولة على التعرف إلى البلاد التي أظلتها الراية العباسية، هذا إلى عنايته بالفلك، وفلكيه الفزاري أول من استعمل الإسطرلاب من العرب، وعنى بالطبيعة والرياضيات فوق عنايته بالطب ومعرفة العقاقير والنبات والحيوان، وفتح المأمون باب العقل والتفكير الحر على مصراعيه في جميع البحوث.

وفي عصر المأمون أيضا تأسست أول مدرسة للترجمة في العلم العربي، وكانت تتألف من حنين بن اسحق، وابنه اسحق بن حنين، وابن أخته حبيش الاعسم الدمشقي وغيرهم. وقد أسس المأمون هذه المدرسة في بغداد، فقامت خير قيام بنقل جميع المتون اليونانية المشهورة إلى اللسان العربي، وكانت هذه المدرسة أيضا تشرف على إصلاح جميع ما ينقله الغير إلى اللسان العربي. ومن الكتب التي ترجمها وعلق عليها حنين بن اسحق بأمر الخليفة المأمون: كتاب الإساغوجي لفرفوريوس وارمانوطيقا لأرسطاطاليس، وجزءا من الاناليطيقا وجزءا من الميتافزيقا، وتلخيصات نقولاوس الدمشقي وتعليقات الاسكندر الافروديسي والجزء الأعظم من مؤلفات جالينوس، وديوشقورس وبولس الاجانيطي، وأبقراط.

ويروى أن المأمون كان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربية مثلا بمثل. وقال أبو سليمان المنطقي انو بني شاكر، وهم محمد واحمد والحسن كانوا يرزقون جماعة من النقلة: منهم حنين بن اسحق، ثابت بن أبي قرة وغيرهم في الشهر نحو خمسمائة دينار للنقل والملازمة.

وكان يتمتع حنين بن اسحقبمكانة سامية عند خلفاء بني العباس، إذ احلوه منزلة سامية من الإجلال والاحترام وكان أبوه صيدليا في جند يسابور، وثقفه في بغداد جبرائيل ابن بختيشوع واشتهر في زمن المأمون وعاش إلى زمان المتوكل.

وقد ترجم ابنه اسحق بن حنين مقالة ارسطوطاليس في الروح وقد علق عليها فيما بعد الافروديسي، وتعد هذه الترجمة النادرة اليوم من أهم المراجع لدرس الفلسفة في عصرنا الحاضر، ويعلل الأديب الأستاذ إسماعيل مظهر هذه الظاهرة باتجاه الفكر بالأزمنة الحديثة إلى درس ألبي سيكولوجيا وابتعاده عن درس المنطق.

يقول القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي: (. . . ثم لما أفضت الخلافة فيهم إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد تمم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وداخل ملوك الروم وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون وارسطوطاليس، وابقراط وجالينوس واقليدس وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة فإستجاد لها مهرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها. فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حظ الناس على قراءتها، ورغبهم في تعليمها، وكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرهم ويلتذ بمذاكرتهم علما منه بأن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده؛ وأنهم صرفوا عنايتهم إلى نيل فضائل النفس الناطقة وزهدوا فيما يرغب فيه الصين والترك ومن نزع منزعهم من التنافس في دقة الصناعة العملية والتباهي بأخلاق النفس، والتفاخر بالقوى إذ علموا أن البهائم تشركهم فيها، وتفضلهم في كثير منها، فلهذا السبب كان أهل العلم في كل زمان هم مصابيح الدجى، وسادة البشر، وأوحشت الدنيا لفقدهم).

وقد بلغ من اهتمام المأمون بالعلوم وحثه على طلبها أن اصبح يضرب به المثل في عظم الحركة العلمية، حتى لقد مثله (نولدكه) بأنوشروان وغيره من رسل الثقافة العامة.

يقول الدكتور طوطح في رسالته الإنجليزية عن حالة التعليم عند العرب: (انه بينما كان شارلمان يتعلم القراءة مكبا على مطالعة رسائله مع أترابه في مدرسة القصر كان المأمون يعالج الفلسفة بمناقشة اقضيتها هناك في بغداد). وقال إن المأمون أوفد عميد بيت الحكمة إلى بلاد اليونان لنقل حكمة اليونان وعلوم اليونان إلى اللغة العربية.

على إنه ليس في وسعنا أن نصور عصر المأمون الذهبي في مثل هذه الكلمة العجلى، وحسبنا أن نختم الكلام فيه بعبارة السير وليم مويز الموجزة البليغة إذ يقول: لقد كان المأمون عاملا من عوامل النهضة العلمية، على حين كان الملوك المعاصرون له في أوربا في الدرك الأسفل من الجهالة، ولقد كان عصره يحاكي عصر بركليس في أثينا من جميع الوجوه.

الجامعات العربية:

وقد أنشأ العرب في فتوحهم عدة جامعات كبرى، وكانت جامعاتهم في البصرة والكوفة وبغداد والقاهرة وقرطبة وبلرم وسالرنو واشبيلية تغص بالعلماء والمتعلمين الذين كانوا يقصدونها من أقصى أطراف العالم الغربي الاوربي، وفي عهد الخليفتين: عبد الرحمن الثالث والحكم بن عبد الرحمن، بلغت مدارس قرطبة وحدها سبعا وعشرين مدرسة، وكان فيها إلى جانب هذه المدارس أيضا مكتبة حافلة يقال إنها حوت خمسمائة ألف مجلد.

يقول دوزي لم يكن في كل الأندلس أمي واحد يوم لم يكن في أوربا من يلم بالقراءة والكتابة إلا الطبقة العليا من القسوس، وكان العلماء والأدباء والفلاسفة فيها يختلفون إلى مختلف المجامع - كالمجامع العلمية اليوم - للتفاهم والمناظرة.

وقد كان طلبة العلم من مسيحي أوربا يفدون أفواجا على جامعة قرطبة لتلقي العلم فيها، وعن طريق هذه الجامعة الشهيرة انتقلت الفلسفة العربية إلى مختلف أقطار أوربا وظهر أثرها واضحا بليغا في جامعات باريس واكسفورد، وايطاليا الشمالية وسائر أقطار أوربا الغربية ومن الذين تأثرت الحركة الفكرية في أوربا ببحوثهم؛ كان أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد مولود قرطبة؛ فقد ألف هذا العبقري الفذ في الفلسفة الطبيعية وفي المادة والقوة، وقدم العالم، والطب والرياضيات والفلك؛ وعدل تعاليم الفيلسوف ارسطاطاليس الفلسفية وفصل بها بين اللاهوت والعلم فحسبه قومه كافرا ونبذه بعضهم ولكن (لاوي بن جرسون) ترجم كتاباته إلى اللاتينية وشاركه في ذلك ابن نربون فوصلت كتابات ابن رشد الفيلسوف العربي إلى العالم اللاتيني سنة 1250 فأستند إليها الطبيعيون، والعلماء، والفلاسفة، والاشتراكيون واعتمدها دانس سكوتش كما اعتمد ارسطو؛ وحتى قال بعض علماء الغرب، إنما ابن رشد كان خميرة أوربا، وقد رسخت قدمه في جامعات شمالي إيطاليا ثلاثمائة عام، ومن اتباعه بطرس أبو تسيس وجونجندن واوربانس في بولونيا، وبولس في فنيسيا سنة 1428 م، وكاجاتانوس النيسيسي حتى أن الفيلسوفة السيدة كسندرا فيدال دافعت عن ابن رشد، وقد تسربت فلسفته أيضا إلى جامعتي بولونيا وبدوي.

ومن مشهوري العرب والإسلام الذين نبغوا في هذه المدارس أيضا نذكر الطبيب ابن سيناء، والفيلسوف

الفارابي، وابن باجة، وسنعود لدراستهم في غير هذا الصدد وفي غير هذا المكان.

(يتبع)

خليل جمعة الطوال