مجلة الرسالة/العدد 690/علوم البلاغة في الجامعة
→ (نعم) أومن بالإنسان! | مجلة الرسالة - العدد 690 علوم البلاغة في الجامعة [[مؤلف:|]] |
أنا وضغط الدم ← |
بتاريخ: 23 - 09 - 1946 |
للأستاذ علي العماري
تحدثت في المقال السابق عن الأسلوب الذي تدرس به البلاغة العربية في الجامعة، وعبت أن يكون هذا الأسلوب العامي الركيك هو الذي يلقى على طلبتها، وتنقصه بأنه يفسد ذوق التلاميذ، وبأنه لا يتفق وطبيعة النصوص العربية الفصيحة، ولا سيما كتاب الله الكريم.
وقد سمعت بعض الاعتراضات على ما كتبت، فسمعت من يقول إن هذه محاضرات ألقيت على طلبة صغار لم يتعدوا مرحلة التعليم الثانوي إلا منذ قليل، ولم يشهدوا من علوم البلاغة إلا نتفا يسيرة. ونسى هذا القائل أن طلبة الجامعة تلقوا في المرحلة الثانوية كتبا ذات بال في علوم البلاغة، وفيها من النصوص العربية الفصيحة العالية، ومن الأسلوب المهذب الطيب، ما يهيئهم لأن يتلقوا أسلوبا أرقى واسمح، وحسبك أن تنظر فيما يدرس في المدارس الثانوية من كتب في هذا الفن لترى أن أسلوبها ارجح وأقوى من هذا الأسلوب الذي نقلنا مقتطفات منه في المقال السابق، وحتى لو كان الطلاب لم يتلقوا في المرحلة السابقة شيئا يذكر لكان لزاما على أستاذ البلاغة في الجامعة أن يكون مثلا لهم فيحسن التعابير، وجمال اختيارها، وإذا كان لا بد من أسلوب عامي، فليكن أسلوبا مهذبا لائقا. وإن علماء النفس يحدثوننا عن تداعي المعاني، وعما تلقيه الكلمات من المعاني والظلال في نفوس السامعين، والأستاذ الخولي مؤمن ب هذا، فهل يستطيع أن يحدثنا عما تحدثه الكلمات من أمثال قوله عن محمد وجميع الأنبياء أنهم (سعاة بوستة) أو قوله شارحا قول الله عز وجل (وما أنت بمسمع من في القبور): (أنت مش قدام ناس. أنت قدام ألواح وبهايم) وماذا تنشره من ظلال، وماذا تستجلبه من معاني في نفوس تلاميذه؟ وسمعت من يقول أنه لا باس أن يكون هذا الأسلوب أداة التعليم في الجامعة، والأسلوب العامي ما دام لم يكتب في كتاب وأن ما يلقى في درس في حجرة فلا غبار عليه. وجوابي على هذا أني أتكلم عن تدريس فن البلاغة في الجامعة لا عن تدريس الجغرافيا في المدارس الابتدائية، أما الثالث فيقول: أن اللجوء إلى نقد الأساليب تهرب من نقد الآراء، وهذا ولاشك جاهل أو متجاهل قيمة الأسلوب في تكوين أذواق المتعلمين بلوفي أخلاقهم وعاداتهم أيضا. على أني - بحول الله وقوته - ماض في نقد ما تضمنته مذكرات الأستاذ الخ من آراء في قواعدها أو فهوم في النصوص الأدبية، ولنبدأ بمذكراته في علم البيان.
والفكرة المتسلطة عليه في هذا الفن أن يجعل لكل عبارة من عباراته منبعا لمعاني نفسية يجب أن تثيرها في نفس المتكلم اولا، وفي نفس السامع ثانيا، وهو لذلك يتكلف العنت، ويركب الشطط في تخريج النصوص الأدبية. وهولا يؤمن بالماديات الصرفة في هذا الفن، ويكاد ينكر المحسات التي لا تثير معاني نفسية فحين يقول الشاعر مثلا:
تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ ... عميرا، واما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
لا يرى لهذا التشبيه معنى، لأن الشاعر لم يزد على أن فضل الفرس في البياض على الثلج دون أن يلاحظ العلاقات المعنوية بين المشبه به والمشبه؛ فتراه يقول مثلا حين يتكلم عن أغراض التشبيه (ومنها بيان حاله كما في تشبيه ثوب بآخر في السواد. . . الخ. هذه عبارة الخطيب القزويني صاحب الإيضاح فيعلق عليها الأستاذ قائلا: هذا كلام فارغ؛ لأن الإنسان حين يشبه السواد يلحظ فيه الانتشار والتغطية والإبهام، أي أثرا نفسيا يقع من رؤية هذا السواد، وعلى هذا الملحظ يشبه الليل). لا يا مولانا، هذا شيء وذاك شيء أخر، نعم قد يلاحظ المشبه بالسواد المعاني التي يثيرها في النفس، ولكن لا بأس أن يلاحظ مشبه أخر مجرد السواد. وليس هذا بالكلام الفارغ، وهو من أساليب العربية المقبولة بل وفي طبائع الناس أيضا فهم لا يزالون يلحقون شيئا بشيء في البياض أو الحمرة أو السواد أو ما شاءوا من لون، ولعله يلفت النظر إلى هذا التهجم الجائر على كلام العلم العلامة الخطيب القزويني، ومن معه من علماء البلاغة حين يقول (هذا كلام فارغ) ولا شك أن مثل هذا يمحو من أذهان المتعلمين ما لهؤلاء من هيبة وجلال، وبذلك لا ينتفعون بما كتبوا وألفوا ما داموا يحتقرونهم ويسمعون من أستاذهم هذا التنقص لهم، والغض منهم.
وقد ذهبت به هذه النظرة الجائرة إلى أن ينكر نوعا من التشبيه قد أطال علماء البلاغة ونقدة الأدب في امتداحه يقول:
(ولا زوردية تزهو بزرقتها ... بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعفن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت)
المشبه زهرة البنفسج قائمة على ساقها، والمشبه به أوائل النار في أطراف كبريت، إذا أردنا أن نحلل عملية التشبيه إنه شعر للبنفسج بجمال فترجم عنه، ونحن نفهم أن الجميل قادر أن يلفت معنى وراء وجوده المادي ولكن الشاعر لم يتخطى الوجود المادي نظر إليها على أنها زهرة لها حجمها الخاص ولونها الخاص، وقال كلاما شرح به هذا الوضع المادي (كأوائل النار في أطراف الكبريت). أولا: ما هو الشيء المعنوي الذي لفتت إليه الزهرة الجميلة؟ لا شيء. زهرة البنفسج هذه يمكن أن نحس أمامها بنوع من الانصراف عن التنبه واليقظة، فإذا شبهتها بإنسان حالم تكون قد تذوقت للون طعما خاصا من طعوم الحياة؛ وبذلك تكون المادة قد أفلحت في أيجاد المعنى. . أما وصف اللون بلون أخر فلا شيء. ثانيا: نلاحظ أن الشاعر نقلنا من جو فسيح إلى جو خانق فليست هنا قوة في الإحضار، وإنما هي غفلة وسوء تصرف).
قد يبدو هذا الكلام مقنعا ورائعا لأول وهلة، ولكن يجب أن نتذكر حقيقتين:
الأولى - أنه يدرس التشبيه؛ ومعنى ذلك أن يقف عند تشبيه الشاعر. هل أصاب أو اخطأ في إلحاق هذا اللون بذاك. أما أن الشاعر لم يلتفت إلى ما يهيجه البنفسج من المعاني في النفس والتفت إلى شيء مادي بحت فهذا لا دخل له في صحة التشبيه أو فساده.
الثانية - أن البيان يبحث عن الأساليب الفنية التي تؤدي بها المعاني، وما دام يبحث عن الفن فهو يجده في المعاني البحتة ويجده كذلك في الماديات البحتة، وليس أحدهما بأولى من الأخر في إبراز الفن البياني فيه، وعلى ذلك فهم علماء البلاغة ما ورد من هذه الأمثلة. ولعلنا نأتي بالقول الفصل حين نسوق ما قاله أمام البلاغيين الشيخ عبد القاهر الجرجاني في هذا الموضوع بعينه (وهكذا إذا استقريت وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان اشد كانت إلى النفوس اعجب وكانت النفوس لها اطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحية اقرب، وذلك موضع الاستحسان ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح والمتآلف للنافر من المسيرة، أنك ترى بها الشيئيين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين، ولذلك تجد تشبيه البنفسج في قوله: ولا زرودية. . . الخ اغرب واعجب، وأحق بالولوع واجدر من تشبيه النرجس بمداهن در حشوهن عقيق؛ لأنه إذ ذاك مشبه لنبات غض يرف، وأوراق رطبة ترى الماء منها يشف، بلهب نار في جسم مستول عليه اليبس، وباد فيه الكلف ومبني الطباع وموضوع الجبلة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يمهد ظهوره منه، وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس به اكثر، وكان بالشغف منها اجدر). وليس بعد كلام الشيخ كلام، ولكن لعل شيخ الجامعة يتهمه بفساد الذوق ولو أنه أعاد وأبدا، واحتج بنظرية نفسية كان الأستاذ ينكر أن المتقدمين تنبهوا لمثلها، والأمر أوضح من أن يشرح، فالشاعر أراد أن يبين زرقة البنفسج التي تفخر بها على اليواقيت الحمر ففكر في شبيه ل هذه الزرقة، وهنا يتفاضل الشعراء فمنهم من يكون قوي اللفتة فسرعان ما يقع على شبيه ولو كان نادر الحضور في الذهن، ومن هنا تجيء طرافته وجدته، ومنهم البليد الذي لا يصل إلى الشبيه وربما لا يصل، وإذا كان من الميسور للأستاذ البلاغة في الجامعة أن يتهم الشيخ عبد القاهر في ذوقه فأظن أنه ليس من الميسور أن يتهم جريرا الشاعر. فإليه نسوق القصة التالية: يحكى أن جريرا قال: أنشدني عدي (يعني ابن الرقاع العاملي): عرف الديار توهما فأعتادها.
فلما بلغ إلى قوله: (تزجى اغن كأن إبرة روقه) رحمته وقلت قد وقع، ما عساه يقول وهو أعرابي جلف جاف؟! فلما قال: (قلم أصاب من الدواة مدادها) استحالت الرحمة حسدا. قال صاحب الإيضاح: فهل كانت الرحمة في الأولى والحسد في الثانية إلا أنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر شبه، وحين أتمه صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد موصوف.
وبعد ف هذا كلامهم وهذا كلامه، وموعدنا المقال التالي.
علي العماري
مدرس بمعهد القاهرة