مجلة الرسالة/العدد 69/لجنة التأليف والترجمة والنشر
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 69 لجنة التأليف والترجمة والنشر [[مؤلف:|]] |
رؤيا في السماء ← |
بتاريخ: 29 - 10 - 1934 |
كيف نشأت فكرة هذه اللجنة؟
بمناسبة عيدها الفضي
بقلم الدكتور أحمد زكي وكيل كلية العلوم بالجامعة المصرية وعضو
اللجنة
لابد لمن يريد أن يفهم كيف نشأت لجنة التأليف والترجمة والنشر أن يرجع إذا أمكنه العمر، وأسعدته الذاكر، إلى حال مصر منذ عقدين، أي إلى عام 1914 حين تأسست اللجنة، لا، بل لابد له أن يرجع بذاكرته إلى عقد أو بعض عقد قبل ذلك، أيام كانت الكثرة من أعضاء اللجنة المؤسسين تتراوح أعمارهم بين الثالثة عشرة والسادسة عشرة، تلك السن الحساسة التي فيها يتصل اليافع بالحياة العامة لاول مرة، يتصل بها بقلبه اكثر من عقله، ويهتز عنيفا بحوادث قلما يفقه كنه أسبابها ومراميها. ففي تلك السنوات صاح أول صائح أسمع بالاستقلال، فسمعنا صوته خافتا في حجرات الفصول الابتدائية، أو سمعناه أكثر وضوحا وأعلى نبرة في حجرات الفصول الأولى من المدارس الثانوية، ثم شاء الله أن يذهب بصاحب الصوت ويؤثره بجواره، فكانت لانتقاله من الدار إلى الدار رنة جزع دوت في مصر والصعيد، وأنتجت ذلك المشهد الخالد الذي بدأ كالبحر الزاخر عند (لازوغلي)، ثم سال في شوارع القاهرة خاشعاً صامداً إلا صوتاً يوحد الله، فبلغ الصحراء وما زال في المنبع فيض، وأبت المدارس على الطلبة الخروج، فحطمت أبواب وفتحت قسرا نوافذ، ورأينا جبار المعارف يطل على المشهد الرهيب من وراء حجاب وهو لا يكاد يصدق عينيه
ذلك هو الحدث الأول الذي فتح للعيون الصغيرة أول كوة تطل منها على شيء يسمى وطنا، وعلى ناس فيه بائسين يسموني أهلا، وهو أول صدع في القلوب الصغيرة فتح فيها مدخلا لحب الخير ورعاية الغير، وقد كنا ربينا تربية من لون العصر الذي نعيش فيه، لا تعين على الأكثر إلا حب الذات، والاستعداد للرزق عن طريق المرتبات
وجاء من بعد ذلك هذا الحدث أحداث، ونحن نتماشى معها حدثاً حدثاً، وجاءت من بعد هذ على الشرق، أو على تركيا ممثلة الشرق نوازل، ونحن نتبعها نازلة نازلة، فكانت حرب البلقان وكانت حرب الطليان، وجرت الشائعات بالمزعجات، وتجهم المستقبل، فغلت تلك القلوب الطرية الشابة، فكانت جماعات، وكانت اجتماعات، وكانت مظاهر للإخلاص لا تكون إلا في عهد النبوة، وحوادث للتجرد من منافع النفس لا تكون إلا بوحي السماء، وكانت أراء، وكانت خطط للمستقبل اتسعت لها قلوبنا الكبيرة، واتسعت لها كذلك رؤوسنا الصغيرة، وضاقت بها ممكنات الحياة، وأخذ العود اللين يشتد، والبصر القاصر يمتد، والرأي الفطير يختمر، والخيال العالي يهبط من لازورد السماء سواد الأرض، حتى جاءت الحرب العظمى، فلم يكن بد في مصر من طلب النهضة من أوثق السبل وأقربها من مظاهر المسالمة والسلام، من طريق بث العلم بكل وسائل البث، ونشر الثقافة بكل أساليب النشر، فتألفت لجنة التأليف والترجمة والشر من نفس ذلك النفر الذي كوته الحوادث، وصهرته التجارب، وميزته الآلام
(كم ربحنا من الحلبة هذا العام يا فريد؟) و (كم خسرنا في الفول يا يوسف؟) تلك كانت بضاعة اللجنة الأولى، وذلك رأس مالها الذي كان، جمعته من قروش بقدر ما سمحت به أكياسهم الخفيفة منذ عشرين عاما، ولم يكن لها مقر إلا بيوت متواضعة هي منازل أعضائها. وارتأوا تأليف الكتب المدرسية والشعبية، وفاضوا بينها، ونزلوا بحكم الحاجة إلى المال إلى أقرب الصنفين مكسبا، فبدأوا بالمدرسية، رجاء أن ينفق من أرباحها على الكتب الشعبية، فكان أول كتاب أخرجته كتاب (مبادئ الكيمياء للمدارس الثانوية)
هذه هي اللجنة إلى حين إنتاجها أول نتاج لها، وهذه إشارة خفيفة إلى تاريخ نشأتها، وفي تتبع تفصيلات هذه النشأة تتبع لبعض تفاصيل النهضة المصرية في ذلك الأوان، فليس تاريخ اللجنة تاريخ أفراد، ولو كان كذلك لهان، وإنما هو فصل موجز من تاريخ هذا البلد، وقطعة صغيرة من نهضة هذه الأمة، ومرآة يرى الرائي فيها بعض آثار ذلك الزمان.
أحمد زكي