مجلة الرسالة/العدد 689/مراكش بين الحاضر والمستقبل
→ الشريعة الإسلامية وأعلام القانون في هذا العصر | مجلة الرسالة - العدد 689 مراكش بين الحاضر والمستقبل [[مؤلف:|]] |
من عجائب التصحيف ← |
بتاريخ: 16 - 09 - 1946 |
للأستاذ عبد المجيد بن جلون
لم يكن الفرنسيون يقدرون تمام التقدير الحركة الوطنية في مراكش قبل الحرب الأخيرة. كانوا ينظرون إليها على أنها أحلام مزخرفة تتراءى لجماعة من الشبان بعيدة كل البعد عن الوقائع والمحسوسات؛ وكانوا يقولون إن هناك هوة سحيقة بين هذه الجماعة من الشبان وبين بقية الشعب، ولذلك ظلت الحركة الوطنية في جزر ومد إلى أن كانت سنة 1937 حينما اغتالت السلطة الفرنسية هذه الحركة وشردت زعماءها في المنافي والسجون.
ولكن الحركة الوطنية في مراكش كانت قد آتت ثمارها في نفوس الشعب قبل هذا التاريخ، ولذلك فإن مظهر الشلل الذي أصابها بعد ذلك لم يكن له أي اتصال بالجوهر والصميم. كان من العوارض التي تنزل بالأمم عندما تصاب بالنكبات القاصمة، فتذهلها فترة من الزمن عن أيمانها، ولكنها لا تخنق فيها نبض الحياة متى كان للحياة نبض في أعماقها. حتى إذا استأنس الشعب بالنكبة وألفها، بدأ إيمانه يستيقظ في شكل همس ثم في شكل صوت ثم في شكل جلجلة مدوية.
وهذا ما حدث في مراكش بالضبط: تظاهر ضدها الموت والجوع والحرب والاضطهاد، وبالرغم من ذلك استطاعت أن تواصل كفاحها السياسي، وأن تتقبل كل التهم التي وجهت إليها كما تتقبل العذراء البريئة تهم الإفك والبهتان. بل استطاعت في خلال الحرب ذاتها أن تخوض في صمت وجلد، وهي بعيدة كل البعد عن الضمير العالمي، معركة استقلالية دامية، وجه الفرنسيون خلالها نحو قلب هذه البلاد الباسلة كل ما يملكون من حديد ونار، دون أن يستطيعوا إخماد النبض فيه. وإذن فالمسألة ليست مسألة شبيبة حالمة، وإنما هي مسألة نظام بال تقادم عليه الدهور وتزعزع. إنها الأخطاء الفرنسية بدأت تؤتي ثمارها الكريهة المسمومة. إنه الشعور بالذات في أمة لم تصمم على الاستمساك بالحياة فحسب، بل صممت أيضاً على أن تعيش حياة حرة كريمة تختلف كل الاختلاف عن الحياة التي عرفتها منذ ثلث قرن مضى في ظل الحماية الفرنسية.
ظلت فرنسا طيلة مدة الحرب تقريباً مهددة في كيانها، فشككها ذلك في تلك السياسة العتيقة التي كانت تسير عليها في الشمال الأفريقي، وظهر لأول مرة في الأحزاب الفرنسية ينادي بما يسمى تارة إعطاء الحقوق أو عدم الاضطهاد أو المساواة بين سكان جميع الأراضي الخاضعة أو التابعة لفرنسا. وبدأت تظهر نتائج هذه الأفكار بالنسبة لمراكش، فأطلق سراح الزعماء الذين قلنا عنهم فيما مضى إن فرنسا اغتالت الحركة التي كانوا قائمين بها سنة 1937، وعلى رأسهم الأستاذ محمد علال الفاسي بطل حوادث تلك السنة. وظهرت كذلك في الوسط الحكومي أفكار نيرة كانت تعد إلحادا قبل الحرب الأخيرة، فبدأ الناس يقرؤون في البلاغات الرسمية ويسمعون في الدوائر الحكومية عن حقوق الشعب والرخاء العام، والعمل للمستقبل، ومحاربة لجهل والفقر والجوع. . . الخ. وهذا شيء جديد بالنسبة لما قبل الحرب في مراكش
وهكذا اعتقد الناس أن الطريق نحو المستقبل قد بدأ يلوح أمام هذه الأمة التي ضلت تلك الطريق منذ زمن ليس بالقصير. بيد انه يظهر إن الفرنسيون لم يستطيعوا أن يتخلصوا نهائياً من تلك الأفكار العتيقة التي كانوا يسوسون إمبراطوريتهم على ضوئها. وبالرغم من أنه لم تمر سوى بضعة شهور على هذا الاتجاه الجديد في السياسة الفرنسية فقد بدأ يظهر في افقها نوع من التردد الواضح، وما يدل على أن الفرنسيين لا يزالون بعيدين عن الأيمان العميق بتلك الأفكار الجديدة التي دفعتهم إليها الحرب الأخيرة.
ومصدر هذا التردد هو أن الفرنسيين اعتقدوا أن سياسة اللين أجدى على الإمبراطورية من سياسة العنف، أي أن هدف اللين اليوم هو نفس هدف العنف. بالأمس. ودليلنا على ذلك هو أن مشروع الوحدة الفرنسية الذي أشارت إليه المادة 41 من الدستور الذي خذله الفرنسيون في الانتخابات الأخيرة، لم يقم أي وزن لآراء هذه البلاد ولم يوص باستشارتها بل فرضها فرضاً؛ فهو مشروع فرنسي من فرنسا وإلى فرنسا.
أضف إلى ذك أن سفير فرنسا ومقيمها العام الجديد في مراكش، وهو الذي أرسلته حكومته لانتهاج خطة جديدة في هذه البلاد التي أنهكتها القلاقل - أعلن برنامجاً سياسيا اعتبره المراكشيون ضربة لآمالهم في الصميم، ووصفوه بأن تماد مع سبق الإصرار في فرض الحماية والإغراق في تنفيذها، هذه الحماية التي حاربوا طول مدة ثلث قرن في سبيل القضاء عليها. والبرنامج يتحدث عن السنين البعيدة المقبلة مقرونة بالحماية وما سوف تقوم به في المستقبل من أعمال، ولم يشر البرنامج أية إشارة إلى الإصلاح السياسي أو إعادة النظر في المعاهدة، بل اكتفى بالإشارة إلى الإصلاحات المادية المختلفة ناسيا أن يذكر أن الحماية الفرنسية كانت مصدرا رئيسيا لكل هذه الويلات التي تعانيها مراكش، والتي يظهر أن الفرنسيين لا يفهموها، فإن من الواضح بعد هذه التجربة الطويلة أنه لا يمكن القيام بأي إصلاح في هذه البلاد ما دامت الحماية قائمة، بل يرجح القارئ أن واضع البرنامج لم يسمع شيئا عن مشروع الوحدة الفرنسية؛ فهو مهما يقل فيه اعتراف صريح بأن النظام القائم الآن لم يعد صالحاً وكأنه لم يسمع شيئاً أيضاً عن تاريخ مراكش خلال ثلث القرن الأخير.
وإذن فنحن لا نتردد في القول بأن مستقبل مراكش ما يزال محفوفا بالأخطار، وإن الابتسامة الحاضرة هي صرف للنظر أو تخدير للأعصاب. هي كسب للوقت بالنسبة لفرنسا وإضاعة للوقت بالنسبة لمراكش، ولكن الذي يسرنا أن نعلنه هنا هو أن حزب الاستقلال المراكشي، وهو الحزب الذي يعبر عن صوت الأمة القوى المجلجل، قد أعلن سخطه على بوادر السياسة الفرنسية ورفض أن يتعاون مع الحكومة أو أن يهادنها ما لم تعلن صراحة أن معاهدة الحماية ملغاة. وبعد ذلك تبدأ المفاوضات بين حكومة مراكشية شرعية وبين حكومة فرنسا لعقد معاهدة جديدة بين الطرفين.
لن يقبل المراكشيون غير هذا، والظاهر إلى الآن أن فرنسا غير مستعدة للنظر فيما يشبه هذا، وإذن فمراكش ما تزال مهددة بأن يكون لها مستقبل شبيه بذلك الماضي القريب، خصوصاً إذا لم يصل وفد حزب الاستقلال الذي يوجد الآن في باريس مع رجال فرنسا إلى نتيجة مرضية، ففي حاضر مراكش الآن هدوء ولكنه ربما كان الهدوء الذي يسبق العاصفة.
عبد المجيد بن جلوق