الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 688/مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 688/مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 688
مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 09 - 09 - 1946


للأستاذ خليل جمعة الطوال

- 2 -

عندما فتح العرب جنوب أوربا واستولوا على جزرها المشهورة وعلى ربوع الأندلس، انتشرت لغتهم في جميع هذه الأقطار، وخاصة في شبه جزيرة أسبانيا ومنورقة، وميورقة وجزائر الباليار وصقلية، واقريطش وما إليها.

وبلغ من شان العربية في أسبانيا أن اضطر أباء الكنيسة إلى نقل صلواتهم وأدعيتهم أليها ليحسن فهمها المصلون الذين كانوا قد زهدوا في اللغة اللاتينية ومالوا عنها إلى اللغة العامة وهي العربية، يتدارسون بيانها وقواعدها، ويحفظون أشعارها وطرائفها، وظلت العربية هي اللغة الرسمية في تلك الربوع حتى جلاء العرب عنها عام 1016 هـ. وقد وجد المنقبون نحو آلفي صك كتبها سكان تلك البلاد الأصليين باللغة العربية. وفي مكتبة الأسكوريال في أسبانيا حتى يومنا هذا معاجم يونانية عربية، ولاتينية عربية وعربية أسبانية تدل أوضح دلالة على ذلك العصر العربي الزاهر.

وفي اللغة الأسبانية الحاضرة كلمات عديدة تبدأ بال التعريف العربية، وفي ذلك ابلغ شهادة على تأثر اللغة الأسبانية باللغة العربية. إذ أمدتها بآلاف المفردات التي لا غنى لها عنها في التعبير، ولم يقف نفوذ اللغة العربية عند هذا الحد بل تعداه إلى بقية اللغات السكسونية والجرمانية الحية، ولهذا فأننا نجد حتى اليوم ألفاظا عربية بليغة في كل من اللغات الإنجليزية والغالية القديمة والألمانية، والهولندية والاسكندنافية، والروسية والبولندية، واللغات الصقلية الأخرى.

ومما تدل عليه الإحصاءات الدقيقة أن ثلاثة آلاف كلمة عربية قد دخلت اللغة البرتغالية، وان ربع الأسبانية الحديثة مأخوذة من العربية، وان تسعمائة كلمة من اللغة العربية أيضا قد أدخلها الفرنسيون في لغتهم وتضم الإنكليزية كذلك مثل هذا العدد من الألفاظ العربية.

ومن الغريب حقا أن نجد أمما غير عربية ما زالت حتى عصرنا الحاضر أما تتكلم اللغة العربية وتكتبها في جميع معاملاتها، أو أنها تكتب لغتها بالحرف العربي، وما زالت العربية حتى يومنا هذا شائعة ومحكية في معظم أطراف السينغال، والسودان الفرنسي، والنيجر، وليبيريا، والحبشة، وجيبوتي، وقازان، والقريم، وكرجستان، وطاغستان، وتركستان وسيام، والفلبين، والهند، وإيران، والصين، وجاوه، وبلاد المغرب، ومالطه، وكردوفان.

نقف عند هذا الحد قليلا لنسأل سرفيه وأمثاله، أكان في استطاعة العرب أن يفرضوا لغتهم على جميع الشعوب التي حكموها، لو لم يكونوا أمة موهوبة جميل المزايا وروائع العبقريات؟ أم كان هؤلاء الأقوام يقبلون على تعلم العربية بمثل ما رأيت من الشوق والرغبة، لو لم تكن العربية لغة حضارة سامية ومدنية زاهرة؟. . . وأننا لنجد أمما كثيرة، بربرية وهمجية، قد فرضت سلطانها على العالم قرونا طويلة، ولما لم تكن ذات حضارة عالية بادت وتلاشي سلطانها دون أن تترك وراءها أثرا يذكر.

ولم نذهب بعيدا في الاستدلال، وهذه الأمة العربية ذاتها قد تعاقبت عليها مختلف الحضارات، وخضعت لشتى السلطات إلا أنها مع ضعفها السياسي قد حافظت على مزاياها وتقاليدها ولغتها وحضارتها، ولئن استطاعت هذه الدول أن تفرض عليها سلطانها ونظمها السياسية، إلا إنها عجزت عجزا تاما عن تجردها من ثقافتها، لتفرض عليها ثقافاتها الخاصة.

العرب في ميدان العلم وطور الاستعداد:

وقبل أن نبين مواطن الابتكار والعبقرية في ثروة الإسلام العلمية يحسن بنا أن نرجع ولو قليلا إلى الوراء لنبحث العوامل الرئيسية التي عملت في تكوين الحضارة الإسلامية، ولنرى بعد ذلك المراحل الأولية التي تخطتها هذه الحضارة العريقة في سيرها وتقدمها، قبل أن تصبح حضارة العالم بأجمعه بلا منازع فليس من شك في أن العرب وان كانوا أرباب ملاحظة في سائر العلوم، وأمة موهوبة أعلى درجات النبوغ والذكاء، إلا انهم شادو حضارتهم - شأن بقية الأمم المتمدنة - على أنقاض حضارات سابقة قديمة، ليس من شك أيضا في أن الحضارة العربية لم تبلغ حد كمالها فجأة، إذ أن ذلك أمر بعيد التصديق، ولكنها بلغته تدريجيا ولكن بخطى سريعة متزنة لم يعرف لها التاريخ مثيلا.

لقد كانت أوربا في العصر الذي بدت تظهر فيه طلائع النهضة العربية تغط في سبات الجهالة، وتتمرغ في هاوية الانحلال، وكانت المسيحية إذ ذاك قد بدأت بمطاردة الحرية الفكرية في أقطارها، وأخذت تنشط في إحراق العلوم الوثنية وتعقب العلماء والفلاسفة.

واستئصال شأفتهم من كل بقعة. يخشى أن يكون لهم فيها صوت مسموع، أو علم مرفوع، حاسبة إنها في بذلك تبيد من حقلها الأعشاب القريبة التي قد تحول في المستقبل دون نماء عقيدتها، وإذ كان النور يشع إذ ذاك من ناحية الجزيرة العربية فقد آخذت هذه الفئات الممتازة الراقية تؤمها آحادا وإرسالا حاملة إليها نتاج عبقريات الأمم اليونانية والرومانية الدارسة، وكانت هذه الجماعات حيثما نزلت تعيش في جو من التسامح الفكري لم تعهد له فيما مضى مثيلا.

أما في بلاد الشرق فقد أدت الحرب العوان التي دارت قبل الإسلام رحاها بين مملكتي الروم وفارس إلى ضعف كلتا المملكتين فقد غزا هرقل مملكة الفرس، فتركها أطلالا خاوية، ثم غزا الفرس مصر والشام فثأروا لبلادهم من مملكة قيصر، وقابلوا الضربة بضربة مثلها وأخذت المناوشات تتري بين المملكتين مدة طويلة، وكان من نتيجتها أن ضعف قيصر وذل كسرى؛ اما قيصر، فقد استنفدت هذه الحرب الضروس جميع اقتصاديات بلاده حتى لقد عجزعن أن يحفظ حدود مملكته، وعن دفع الإتاوة للقبائل العربية التي كانت تقوم بحراسة أطراف هذه الإمبراطورية الواسعة، وزاد في الطين بلة احتدام الجدل بين الملكيتين واليعاقبة والنساطرة حول طبيعتي المسيح الإلهية والإنسانية؛ وتدخل الإمبراطور إذ ذاك في هذه المجادلات، الأمر الذي أدى إلى اضطهاد اليعاقبة والنساطرة، والى اتساع شقة الخلاف. وكان هرقل إذ ذاك قد طعن في السن، وأوهت قواه الشيخوخة، فسقط لذلك ألعوبة بأيدي رهبان إيليا الذين ما زالوا به حتى أوغروا صدره على يهود بيت المقدس، بدعوى انهم ساعدوا الفرس حين زحفهم على إمبراطوريته، وضربهم إياها تلك الضربة القاضية، التي صدعت فيها بنيان النظام والطمأنينة والأمن، فقتل منهم لذلك خلقا كثيرا، وجلدا وافرا، وعددا لا يعد؛ وهكذا فقد كان كل من النساطرة واليهود عونا لكل خارج على قيصر أو طامع في ملكه وإذا استهواهما قبس الحرية الذي كان يشع من ناحية الجزيرة فقد ساروا إليها يحملون معهم في سيرهم ما انتهى إليهم من نتاج المدنيات السابقة، وما جادت به قرائحهم المتوقدة؛ فتفسح النسطوريون في أرض الحجاز، وقطن اليهود بلاد اليمن؛ وكان أمرا طبيعيا أن تنشر تعاليمها في سائر أقطار الجزيرة، وان تتأثر هذه بها.

ولم تكن الحالة في بلاد فارس بأحسن منها في بلاد الروم، فقد كان الملك فيها - قبيل الإسلام - في قبضة طفل صغير لا يجاوز الخامسة عشرة سنة، ثم في قبضة امرأة مستضعفة، وهي بوران بنت كسرى؛ ولما بلغ النبي أمرها قال (لن يفلح قوم اسندوا أمرهم إلى امرأة) وهكذا كان عرش فارس ألعوبة بأيدي أطفال صغار، ونساء جاهلات؛ ولم تكن حالة الزرادتشيين في فارس بالتي تدعهم يخلدون إلى السكينة والاطمئنان ولذلك فقد أصبحت الجزيرة - قبيل الإسلام - مثابة صالحة للمضطهدين والمغلوبين على أمرهم من أحرار فارس والروم.

(يتبع)

خليل جمعة الطوال