مجلة الرسالة/العدد 688/تطور الآراء عن أصل الكائنات الحية
→ في ركب الوحدة العربية: | مجلة الرسالة - العدد 688 تطور الآراء عن أصل الكائنات الحية [[مؤلف:|]] |
إلى المجمع اللغوي: ← |
بتاريخ: 09 - 09 - 1946 |
للدكتور فضل أبو بكر
لقد أصبح ألان في حكم البدهيات معرفة إن كل كائن حي إنما يولد من كائن حي آخر سالف من نفس النوع، وهذه العقيدة التي ندين بها ألان والتي يرتكز عليها علم الحياة (البيولوجي) وعلم الطب والصحة كانت موضع اخذ ورد وجدال عنيف بين العلماء ولم يسلموا بها إلا بعد مئات من السنين.
اعتقد العلماء حينا من الدهر فيما سموه بال أي (الجيل التلقائي الذاتي) بمعنى أن الأحياء الضعيفة من حشرات وديدان وهوام وميكروبات إنما تولد من تلقاء نفسها من غير حاجة إلى أسلاف وآباء من الأحياء بل تنشأ من البيئة الجمادية التي خرجت منها.
فارسططاليس الذي عاش من سنة 384 إلى 322 قبل الميلاد والذي كان اكبر عالم في البيولوجي في زمانه كان يعتقد في هذا الجيل التلقائي وظن أن كل جسم في وسعه إن يلد كائنات حية إذا ما بللته قطرات الماء وأروت عطاشه. . . فتلك الحشرة إنما خلقت من الزهرة أو من الطين والوحل، وتلك الديدان التي تعيش متطفلة في أمعاء الإنسان خلقت من المواد البرازية.
كذلك الفيلسوف ابن سينا (980 إلى 1037 م) لم يشذ عما سبقه وعاصره من العلماء والفلاسفة وأكد أن كثيرا من الأحياء تتولد من جيف الجثث التي تلفظها الأنهار وقت الفيضان.
أما الفيلسوف الإنجليزي (فرنسيس بيكن) (1561 إلى 1626) فقد خطا خطوة إلى الأمام واثبت نظريا بان قليلا من الأحياء يكون توالدها نتيجة لانقسامات أو تلقيح لأحياء أخرى، ولكن الأغلبية إنما تتناسل من الجمادات والمواد المنحلة التي تعيش عليها، ومن هذه الأخيرة يذكر الضفادع والذباب والقمل والبق والبرقوت والجراد والديدان والعنكبوت.
أما العالم الهولندي (فان هلمنت) (1577 إلى 1644) فكان يعتقد أن بعض الضفادع والقواقع تنشأ قرب المياه الراكدة مثل البرك والمستنقعات حيث النسيم الذي يهب من ناحية تلك المياه والروائح المتصاعدة منها تنفخ الروح في تلك الحيوانات وتخلقها، وكان يقوم ببعض تجارب غاية في الغرابة مثال ذلك تجربته آلاتية: - (خذ قطعة من الطوب واثقبها ثم ضع حزمة من نبات الريحان على الثقب ثم غطي قطعة الطوب بقطعة أخرى وعرضها لحرارة الشمس عدة أيام تجد قد تكونت عدة عقارب صغيرة وما نبات الريحان إلا بمثابة الخميرة التي ساعدت على تكوين العقارب) ولكي تخلق بعض الفيران فالمسالة في غاية البساطة كما ترى في التجربة الآتية (ضع قميص امرأة - والأفضل أن يكون متسخا في أناء مملوء بحب القمح واترك الإناء بمحتوياته لمدة 21 يوم وبعدها تجد أن بعض حبات القمح قد تحولت إلى فيران بعضها ذكور والبعض الأخر إناث وذلك بفعل (الخميرة) التي توجد في قميص (المرآة).
إلى أن جاء العالم والفيلسوف الطلياني (فرنسسكو ريدي) وقد كان أول عالم فند فكرة الجيل التلقائي وهزئ من أراء الأقدمين واثبت بطلانها علميا. أجرى تجربة بكل دقة وذلك إنه أخذ قطعة من لحم طازج وشطرها شطرين ثم وضع كل جزء في أناء غطى أحدهما وترك الأخر مفتوحا وتركهما عدة أيام ثم فحصهما بعد ذلك فلم يجد أثرا للدود في الإناء المغطى بينما كان الإناء المكشوف يعج بالدود عجيجا، ثم اخذ الإناء الأول أي المغطى تغطية محكمة وغطاه بمنسوج من سلك رفيع يسمح بدخول الهواء في الإناء وتركه عدة أيام ثم فحصه فلم يجد آثرا للديدان فاستنتج من هذه التجربة بأنه ليس عدم الهواء هو المانع لتكوين الدود في المواد المتعفنة، وإنما الذي يحول عن تكوينها هو الحيلولة بينها وبين بعض الحشرات مثل الذباب الذي يضع بويضاته على تلك المواد وتفقس تلك البويضات وتكون الدود، وهذه التجربة على ما بها من سهولة وبساطة أدت خدمة كبيرة.
وفي سنة 1674 جاء العالم البكتريولوجي الهولندي (ليونهوك) وأعاد تجارب العالم ريدي وأمن بها ولكنه زعم أن التجربة لا يمكن تطبيقها على كل الأحياء.
وفي سنة 1765 علا نجم العالم الفسيولوجي الطلياني (اسبالانزاني) الذي اهتم كثيرا بمسالة الجيل الذاتي التلقائي وقام ببعض التجارب، منها إنه وضع في بعض أنابيب الاختبار قليلا من الحساء المكون من مرق اللحم والخضار وقفل بعض الأنابيب قفلا محكما بإذابة زجاج أحد طرفيها ووضعها في أناء يحوي ماء يغلي لمدة نصف ساعة. كما ترك البعض الأخر من الأنابيب مفتوحا فوجد أن الأنابيب الأولى لا تحوي إحياء بينما الثانية مملوءة بالاحياء، واستنتج من كل ذلك انه لكي تعيش هذه الأحياء لابد لها من عاملين: عامل الهواء والحرارة المناسبة فإذا ارتفعت الحرارة لدرجة لا تناسبها أبادتها وقضت عليها.
أما العالم المكروبيولوجي (نيدهام) (1613 إلى 1781) فلم يعتقد في صحة أراء (اسبالانزاني) وكان شديد التعصب لفكرة الجيل التلقائي.
وهنالك بعض الفلاسفة مثل (شوبنهور) و (ليبنز وفلتير هاجموا فكرة الجيل التلقائي إذ أنها غير منطقية ولا معقولة، سيما فلتير فقد أعجب كثيرا من نظرية العالم الإيطالي اسبالانزاني وانتقد بأسلوبه التهكمي اللاذع العالم الهولندي (نيدهام) وسخر من ارائه، والف كتابا سماه شواذ الطبيعة
هذا وقد انقسم العلماء إلى فريقين: فريق - وقد اصبحوا أقلية - يعتقد في تكوين المكروبات والأحياء الدنيا من الجماد والمواد العضوية المتعفنة. وفريق - وهم الأغلبية - قد اعتقدوا في حقيقة الجرثومة وان الأحياء لا تنشأ إلا من جرثومة حية. إلى أن جاء العالم الفرنسي الأكبر (لوي باستير) الذي يعتبر بحق اكبر رجل خدم الإنسانية باكتشافاته العديدة والتي غيرت مجرى الطب والجراحة بل وكل علم الأحياء مما كان له الفضل في إنقاذ البشرية، ولا يتسع المجال في مثل هذه العجالة للخوض في اكتشافات باستير فقد وصفت عدة مجلدات، ونذكر منها ما يهمنا فيما نحن بصدده. ولد باستير سنة 1822 وتوفي في عام 1895 بدأ حياته العلمية كعالم كيميائي، وله في هذا العلم اكتشافات قيمة، ولكنه منذ عام 1857 م بدأ يهتم بعلم المكروبيولوجي فدرس عملية التخمير الكحولي واللبني واثبت أن عملية التخمير لا تأتي عرضا أو عن طريق المصادفة وإنما تسببها كائنات حية تسمى ال الخميرة، وقد اثبت ذلك بتجارب علمية غاية في الإتقان، وقد تصدى له كثير من العلماء المعاصرين في ذلك الوقت ودارت بينه وبينهم مناقشات تاريخية عنيفة عدة اشهر اضطرتهم أخيرا إلى التسليم. وقد اثبت كذلك بان ظاهرة الانحلال والتعفن التي نشاهدها إنما هي نتيجة لفعل المكروبات وليست المكروبات محلوله من تلك المواد العضوية المنحلة وهذه المكروبات توجد في الهواء وفي الماء وعلى الأرض، وأنها تتجمع على تلك المواد العضوية لتقتات منها وتستمد منها قوتها كما تتخذها مهدا لذريتها، وهذه المكروبات تتوالد بسرعة مدهشة وبكميات وفيرة، وذلك لضعفها وفتك عوادي الطبيعة بها من حر لفح وبرد قارس، فلكي تحفظ نسلها ونوعها كان لزاما عليها أن تتوالد بكثرة على حد قول الشاعر:
بغاث الطير أكثرها فراخاً ... وأم الصقر مقلاة لزور
وقد يرى القارئ مما تقدم ذكره بأن علم البيولوجي ولاسيما ما يختص منه بعالم المكروبات كان بطيء التطور والتقدم، ومازال كذلك بالنسبة لعلوم الطبيعة الأخرى مثل الكيمياء والطبيعة وعلم الفلك والمكنيكا التي نهض بها العلماء منذ أجيال بعيدة وبلغت ألان من الإتقان شأوا بعيدا، ولا نكون مبالغين إن قلنا بان حضارتنا الحالية إنما نشأت من تقدم هذه العلوم وتطبيقها.
أما علم البيولوجي فأظن إن من أهم أسباب تأخره هي صعوبة الموضوع فهو حقا شائك. خذ الخلية الحيوانية أو الإنسانية خاصة وما تحويه من المواد البروتوبلازمية المعقدة التركيب ولاسيما نواة الخلية وكيف أن هذه النواة تتكون من أجسام كروموسومية، وإن هذه الأخيرة تتكون من أجسام اخرى، وهي التي تكيف الإنسان وتكون طبائعه بل وشخصيته، كذلك خلايا الجهاز العصبي وأليافه من حيث فسيولوجيتها وتفاعلاتها الحسية والنفسية كل ذلك غاية في الدقة ومازال بعضها سرا غامضا إلى ألان.
فضل أبو بكر