الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 687/مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 687/مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 687
مظاهر العبقرية في الحضارة الإسلامية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 02 - 09 - 1946


للأستاذ خليل جمعة الطوال

- 1 -

لقد امتدت عداوة المناوئين للإسلام إلى حد النيل من حضارته والطعن في مدنيته وانتقاض أمره وكل ما من شأنه أن يتصل به؛ وليس أهون على المتحامل من أن يطعن وينال بغير رويه ولا تدبر، ذلك لأن سبيلهما جد ميسورة، ومؤنة امتهانهما أيسر، ومن المؤسف حقاً أن تبلغ العداوة للإسلام بالأوربيين حد الإجحاف بالحق، والجناية على العلم والتاريخ؛ ولئن جاز لرجال السياسية أن ينساقوا لتيار أهوائهم وأن يبنوا أحكامهم على قاعدة أغراضهم ومصالح قومياتهم، فما أحسب هذه السبيل مشروعة في كتابة البحوث العلمية؛ ذلك لأن العلم لا يدخل البتة في حساب الأهواء والقوميات، بل هو أمر مقدس فوق جميع هذه الاعتبارات يزكو بالنزاهة، ويزهو بالأمانة له، وهو فوق ذلك ملك مشاع بين جميع الأمم؛ لا فضل لهذه على تلك فيه إلا بمقدار ما أسدت له من الخدمات، وأودعت في كنوزه من الاكتشافات والاختراعات.

وإنه لمن الجناية الكبرى على العلم، أن تقوم في طبقة العلماء فئة لم تحرر بعد من قيود المنازع، وأغلال الأهواء؛ ولا عرفت قط قيمة النزاهة العلمية والأمانة التاريخية؛ فتحاول جهدها باسم العلم أن تبخس الإسلام فضله على المدنية، وأن تطمس من سجل الحضارة صفحة مشرقة تشهد بجلالها وروعتها جميع تواريخهم وأدوات حضارتهم؛ فمن هذه الأحكام الجائرة التي يبرأ منها الإنصاف ويمجها العلم وتلفظها الحقيقة، ما جاء عن (أندريه سرفي) إذ يقول: (لم يكن الإسلام شعلة، بل مطفأة نشأ من قلب متوحش، لأمة متوحشة، فكان ولا يزال عاجزا عن أن يساير الزمن ويجاري التمدن، ولقد أثبت في كلُّ بقعة ارتفعت فيها أعلامه أنه وقف صخرة ناشزة في سبيل التقدم، وأنه خنق نشوء المجتمع، وفي كتب المغرضين الشيء الكثير من هذه الحملات الطائشة والأحكام الغثة الجائرة التي لا يدعمها دليل ولا تدمغها حجة.

لم يقف (سرفيه) عند هذا الحد من التحامل بل راح يقول أيضاً (وإن المدنية الإسلامية أقل من أن يعتن بدراستها إذ هي تقليد مشوه لمدينتي اليونان والرومان سقط العرب على مادت في الكتب السريانية فاقتبسوها دون أن يعترضها لها بما يستحق الذكر من النقد، لأن العرب قد اثبت أن لا قابلية له على استقصاء البحث بصورة جدية، وأن لا قدرة له البتة على إبداع شيء من عنده، ولم يتقن العرب من العلوم إلا التي لا تحتاج إلى عناء في التفكير، أو مشقة في البحث، وكانت سبيلها جد سهلة وميسورة كالتاريخ والجغرافيا وما إليهما الخ. . .) وأمثال (سرفيه) في التشيع والتعرض كثيرون، وتكاد رفوف المكاتب تنوء بتحمل مثل هذه البحوث السخيفة والحملات الطائشة، ومن المؤلم حقاً أن نسكت عنها، وننام عليها كأنها حقائق واقعة لا غبار عليها.

على أن تهاوننا في دراسة حضارتنا ونشر فضائلها وعرض روائعها للعيان، لأشد إجحافاً بحقها، وضررا لها من حملات الأعداء عليها وطعنهم بها، فاللص لا يقتحم غير البيت المهجور ومن واجب صاحب البيت أن يعمل على صيانة بيته، وأن يقيه شر العدو. وإننا سنتقدم في هذا البحث الموجز بإماطة اللثام عن مواطن العبقرية في حضارتنا، ثم نأخذ بتفنيد مطاعن الطاعنين فيها بالطريق الهادئة التي رسمناها لأنفسنا منذ أن اضطلعنا بعبء دحض مفتريات الخصوم وحملات المتحاملين.

انحلال الحضارة الغربية قبيل الإسلام:

تسرب الضعف والوهن إلى قلب الإمبراطورية الرومانية العظيمة رويداً رويداً، وما كاد يتم القرن الخامس للميلاد حتى لفظت هذه الإمبراطورية الواسعة أنفاسها، وأصبحت رقعتها نهباً مباحاً للقبائل البربرية التي كانت تحيط بها، وتناجزها القتال، وتشن الغارة عليها بين الفينة والأخرى، وهكذا أصبحت قبائل القوط والوندال. والكلت والهون، والمغول، والسكسونيين تتصرف بشؤون أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ، وكانت هذه القبائل في الدرك الأسفل من الثقافة، لاحظ لها قط من أسباب المدينة والعمران، فقوضت بهمجيتها سرادق تلك الحضارة الرومانية العريقة، وأصبحت معالمها نسياً منسياً، واجتازت أوربا هبة من الزمن كانت تتخبط فيها في دياجير الانحطاط على غير هدى، فساد الجهل، وانتشرت الفوضى ومنيت العقول بالعقم والجدب، وشل التفكير شلا مريعاً، ولئن كانت المسيحية إذ ذاك في عهد انتشارها وازدهارها، وفي شباب قوتها بحيث استطاعت أن تصمد أمام هذه القبائل المتبربرة المتوحشة، إلا أن نكبة المدنية بها لم تكن أهون من نكبتها بتلك الشراذم المنحطة، ذلك لأنها كانت تخشى على عقائدها وتعاليمها من أن تتسرب إليها مشارط الحرية الفكرية فتفسدها، ولذلك بادرت إلى تقييد الأفكار، وحجر العقول، حتى لا تكاد تبض بقطرة من العلم، وكانت تعاقب على كلُّ نظرية جديدة تصدر عن رجال الدين، ويعلن هؤلاء استنكارهم لها آناً بالموت حرقاً وشنقاً، وحيناً بالتنكيل سجناً وجلداً. . .

وكان من نتيجة هذا الحجر على الأفكار وهذا الجهل المطبق أن عم البلاء، وانتشرت الأوباء، وأخذ الطاعون يحصد النفوس حصداً ذريعاً.

قال أرديكوس فيتالس أحد مؤرخي القساوسة: (عم بلاء المرضى فمضى بأهل بيوت كثيرة، كما أن الجوع قد أفنى المرضى؛ فلما أن خربت النيران الأرض، خرج إلا كثيرون هائمين على وجوهمم، فلما رأوا أن الأبرشيات قد طمست معالمها ودرست آثارها، فروا من الكنائس الخاوية هرباً إلى حيث لا يعلمون. . .

وقيل: (وقد بلغ من سوء الحالة إذ أن كان الناس يتكالبون على أكل الميتة وإن أنتنت، ينبشونها، من تحت التراب، ويطلبونها من على المز ابل. . . لا يسألون عما تسببه من الأذى وتحمله من الموت، وكانوا يستشفون من أمراضهم ببول البهائم والتعاويذ والتعزيم). . .

وقيل أيضاً: (وكان الطباشير يطلب من الأرض ويمزج بالدقيق، ليصنع خبزاً، لقد اصفرت وجوههم وانحطت قواهم حتى لقد عجزوا عن أن يجروا أنفسهم من فوق الأرض جراً وهيئت حفراً ليسحب إليها المحتقرون ويلقون في جوفها. وكانت هذه المصائب تلابسها مصاعب أكبر، وكوارث أعظم. فإن الذئاب وقد أنسوا على جوانب الطرق كثيراً من الجثث ملكتها الشجاعة وأغواهم ضعف الناس فراحوا بها جمون الأحياء، أما مواد الطعام فقد خص بها الأقوياء ليظلوا قادرين على العمل لعل الحقول تزرع ولا تبور. . .

وظلت أوربا تائهة في الظلال الجهالة: إلى ما بعد القرن العاشر، تغص بالغابات المخيفة التي تقطنها جماعات الوحوش، وأسراب الطيور الكاسرة (وتنبعث من المستنقعات الكثيرة في أرباض المدن روائح قتالة. تحتاج الناس وتحصدهم، وكانت البيوت في باريس ولندن تبني من الخشب والطين المعجون بالقش والقصب، ولم يكن فيها منافذ ولا غرف مونقة، وكانت البسط مجهولة عندهم، لا بساط لهم غير القش ينشرونه على الأرض، ولم يكونوا يعرفون النظافة، ويطرحون أحشاء الحيوانات وخفي البهائم وأقذار المطابخ في ساحت بيوتهم فتتصاعد منها روائح مؤذية، وكانت الأسرة الواحدة تنام في حجرة واحدة تضم الرجال والنساء والأطفال، وبعض الحيوانات الداجنة، وكان السرير عندهم عبارة عن كيس من القش فوقه كيس من الصوف القذرة يقوم مقام الوسادة، ولم يكن للشوارع مجاور ولا بلاط مصابيح، قال داير: وكان من أثر ذلك أن عمت الجهالة بين الناس، وساورتهم الأوهام، فأنحصر التداوي في زيارة الأماكن المقدسة، ومات الطب، وانتشرت أحابيل الدجالين، وكلما دهم البلاد مرض هرع رجال الدين إلى الصلاة، وأغلقوا أمر النظافة كرها لها، وكانت الأوبئة تفتك بهم فتكاً ذريعاً.

وإلى جانب هذا الفقر والانحطاط فقد انتشرت الفوضى، واضطرب جبل الأمن، وسادت اللصوص، وكثيراً ما كان يخطف السائر وينهب وهو ذاهب إلى بيته أو عمله ولو كان في رائعة النهار.

تلكم هي مدينة أوربا قبل العصر الحاضر، وتلكم هي حالة الشعوب الغربية يوم كان الإسلام هو المدرسة الوحيدة التي تهذب فيها الفكر الإنساني، وانبثقت منها أنوار الحضارة والمدينة.

جاء النبي ﷺ، والغرب لا يرى النور إلا من سم الخياط، وأما الجزيرة العربية فلم تكن بأحسن منه حالاً إذ كانت جاهلية جهلاء، يفترس القوى فيها الضعيف، ويعيد الناس مظاهر الطبيعة، ويقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويئدون بناتهم بلا رحمة، وما إن أظهر الله دينه على سائر الأديان حتى اخذ ينشر في الناس روح العلم والمدينة (تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة: ودراسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه عبادة وتعليمه صدقة وبذله لأهله قربة، وبعد أن لم يكن في الجزيرة سوى بضعة عشر رجلاً يحسنون القراءة والكتابة، فقد أصبحت فيما بعد مثابة العلم وموئل المدينة، ومورد الحضارة.

لقد كان العلم أول ما فرضه لنبي على المؤمنين بعد نبذ الشرك، وقد حثهم على طلبه ولو في الصين، وأمر به الله في كتابه العزيز (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) ومما يؤثر عن النبي في ذلك قوله (مداد العلماء أزكى من دم الشهداء) وبلغ من حبه للعلم وحثه على طلبه أن قال (أنا مدينة العلم وعلي بابها).

مبدأ الحضارة الإسلامية:

لقد أعلن الله رسالته، فأقبل الناس يدينون بها أفواجاً أفواجاً، ثم مات النبي صلى الله عليه وسلام، وليس في الجزيرة بأسرها إلا توحيد فلج الشرك، وإيمان زعزع الأصنام، فتوجه خلفاؤه الصالحون من بعده برسالته صوب بقية أقطار العالم الأخرى، ينشرونها بين شعوبها المتفككة، فيتسابق الناس للاحتماء بها هرباً من عسف تلك الدولة الغاشمة التي كانت ترزح لسلطانها، وتئن تحت نيرها، وما هي إلا عشرات من السنين إلا وشريعة ذلك اليتيم المسكين هي الشريعة السائدة في الكون والسيطرة على العالم، إلا صوت التهليل والتكبير قد أخذ يدوي في أرجاء إسبانيا من على سطوح الكنائس التي كانت فيها مضى مركزاً للمرضى، وبؤرة للأوباء، وكان أول ما فرضه المسلمون على العالم إلى جانب ديانتهم هي لغتهم العربية، التي بها لا بغيرها نزلت رسالة الله على نبيه، فقد أملوها على جميع الأمم التي رضخت لسلطانهم وخضعت لدولتهم، وقد بلغ من سعة امتدادها، وسرعة انتشارها أن أصبحت بين العالم في مكان اللغة اللاتينية القديمة، أي لغة العلم الوحيدة ولسان المتعلمين، وبلغ من تفوقها أيضاً أن صارت هي الواسطة الوحيدة لكل من أراد أن يلم بنواحي الثقافتين اليونانية والرومانية، أو يطلع على أحدث العلوم والآراء العصرية.

العربية لغة عالمية:

جاء في تاريخ اللغات السامية لرينان: (ليس في تاريخ العالم ما هو أدعى إلى التعجب من سرعة انتشار اللغة العربية، فقد كانت في بدء أمرها لغة خاملة الذكر، فإذا بها تظهر فجأة على مسرح الحضارة والمدينة وارثة للغة اللاتينية القديمة، وإذا بها لغة في غاية السلاسة والغنى، كاملة بحيث لم تعرف منذ ذلك العهد أي تغيير أو تعديل. وقد ظهرت لأول مرة أمرها تامة مستحكمة، فليس لها طفولة: ولا هرم. ولست أعلم هل وقع مثل ذلك لأية لغة أخرى في العالم دون أن تجتاز قبل ذلك أدواراً مختلفة، فإن العربية ولا شك قد عمت أكبر أجزاء المعمورة، ولم ينازعها في مكانتها من حيث كونها لغة عامة عالية إلا لغتان: اللاتينية واليونانية. ومع ذلك فقد تطرقت إلى أقطار نائية ولم تصل إليها هاتان اللغتان قط).

وجاء في خطط الشام لمحمد كرد على (بذت العربية في الإسلام اللغة الفارسية والسريانية في العراق وفارس، والرومية، والسريانية في الشام، والقبطية في مصر، واللاتينية في شمال أفريقيا، ولم يمض سبعون سنة حتى أصبحت العربية اللغة العامة في هذه الأقطار. . .

(يتبع)

خليل جمعة الطوال