مجلة الرسالة/العدد 687/علوم البلاغة في الجامعة
→ الدفاع عن الفضيلة. . . | مجلة الرسالة - العدد 687 علوم البلاغة في الجامعة [[مؤلف:|]] |
في التربية الحديثة ← |
بتاريخ: 02 - 09 - 1946 |
للأستاذ علي العماري
يحلو لبعض المعاصرين أن يسموا أنفسهم مجددين، كلُّ فيما يزاول من علم أو فن، ولعل هذا الادعاء عارض نفسي يعرض لكثيرين في كلُّ عصر ولاسيما من يغرمون بالشهرة، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
وتجديد هؤلاء من العجب، فما هو إلا أن تِعنّ فكرة في رأس أحدهم حتى يطير بها، ويكاد يجن فرحاً وغروراً، ولو عرف قدر نفسه وتأنى قليلا لأدرك إنما خيل له، وليس هو التجديد، ولكنه قصور الفهم، وضلال العقل، وعمل الغرور، وربما اكتفى أحدهم بدرس كتاب أو كتابين في المادة التي يريد أن يجدد فيها. ثم بعد ذلك يشهد العالم على أن العلماء قصروا، وأنهم لم يفهموا، ولو أمعن الفهم، ولو وسَّع دائرة اطلاعه لقد كان وجد في كتب القوم ما يرد نزغته، ويطفئ شهوته.
وقد منيت علوم البلاغة في العصر بدعاة التجديد، وهي في شديد الحاجة إلى من يجد أخلاقها، ولكنها لا تظفر إلا بالدعاوي العريضة الكاذبة، ونستطيع أن نقول إن التجدد فيها وقف بعد الإمام الجليل الشيخ عبد القاهر الجرجاني، وإن ما بذل بعد ذلك ليس إلا محاولات بسيطة إن لمست بعض النواحي في هذا الفن فأنها لم تخلص إلى اللباب، وإن في (دفاع عن البلاغة) للأستاذ الزيات، وفي (مذكرات في علوم البلاغة) لفضيلة الشيخ سليمان نوار، وفي (التصوير الفني في القرآن) للأستاذ سيد قطب أقول إن في هذه الكتب لوثبات تبشر بخير، وهي بعد جديرة بالتقدير.
ويمكن أن ننظر في محصول هذا العصر البلاغي، فنجد بعض العلماء قنع بأن يجمع الأشتات، ويؤلف المتفرقات، ثم يدعي أنه في البلاغة ألف، وبعضهم يعمد إلى الورق الصقيل، والطبع الأنيق، ليقول إنه في البلاغة جدد، ولعل شر الثلاثة هؤلاء الذين يفترون على العلم ويكذبون على القدامى، ويكثرون من ثلبهم وتنقصهم ليقال إنهم وحدهم الذين عرفوا وقد جهل الناس، ووصلوا وقد تخاذل العلماء.
يهدمون ولا يبنون، ولو أنهم هدموا متبصرين فاهمين لكان فيهم أمل، ولكنهم يضربون معاولهم وهم مغمضو الجفون.
بين يدي الآن مذكرات في علم البلاغة المعاني أملاها الأستاذ الشيخ (أمين الخولي) علىطلبته أن يناقش، ولكني رأيت أن يشركني القارئ في هذا الأسلوب الذي يدرس به هؤلاء الأعلام!!.
وإنما يعنيني هذا الأمر لأن البلاغة فن من الفنون قبل أن تكون علما من العلوم، وما دامت فنا فهي تتطلب ما تتطلبه الفنون من حسن العرض وجمال التنسيق الذوق الأدبي في المتعلمين، ولهذا كانت حاجتها إلى الإكثار من النماذج العربية الصحيحة الفصيحة. ومن العرض المتأنق الجميل الحاجة القصوى، ولكن ماذا نقول حين أستاذ البلاغة في الجامعة المصرية يعرض هذا الفن، كما يعرض واعظ العامة موعظته في أسلوب عامي ركيك، ولنقتصر الآن على عرضه لثلاث آيات من كتاب الله الكريم:
1 - (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) بشرحها الأستاذ هكذا (وبعبارة أخرى يريد الله أن يقول: هو محمد ده يطلع إيه؟ محمد هذا والرسل من قبله مجرد (سعاة بوسته) هو مرسال زيّ المراسيل اللي قبله. . . بيجي ويروح ويموت وينقتل. . . الخ فإذا حصل شيء من هذا يبقى خلاص انقطع ما بينكم وبين الله؟ هو يعنفهم لا على نكوصهم عن محمد، بل لنكوصهم من أجل موت محمد ولذا يقول: أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم. . . الخانتهى بنصه وفصه!!
صدقني - أيها القارئ - إن هذه عبارته. فهل هذا التجدد؟ هذا كلام يمكن. أن نتصور صدوره من وأعظ يلقى عظته على جماعة من (البرابرة) فيضطر إلى أن ينحدر هذا الانحدار، على أني واثق من أن مثل هذا الواعظ يعف لسانه وذوقه عن هذا الهذيان!
ولكن ما الحيلة والرجل من كبار المجددين في علوم البلاغة، أليس التجدد هو مخالفة الأقدمين؟ أليس التجدد هو بساطة والحذلقة، وما المانع من أن يلقى على طلبة الجامعة أن محمداً وعيسى وموسى وإبراهيم وجميع الرسل ليسو إلا (سعاة بوسته)؟ وهل في ألسنة البلاغيين أصدق وأبسط وأحسن من هذا التعبير الجميل الظريف الخفيف؟!
2 - قال الله تعالى: (وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا بنذير). وقال الشيخ نفعنا الله به وبعلمه آمين (أنت مش حتسمع اللي في القبور. والحقيقة أنه هو مش قدام أموات، وإنما قدام ناس ألواح وبهايم، والقرآن بيقول له: إنك حريص قوي على هدايتهم، والأحسن إنك ما تحرصش كثير على هذه الهدية. قال له ذلك لأنه شاف إنه كاد لفرط عنايته بأن يهتدي هؤلاء القوم أن يخرج عن فينسى أن مهمته هي مجرد التبليغ. هو عمال يحرق في دمه الناس دول، ووفاؤه لمهمته هو الذي يحمله على الإسراف في الإلحاح ويهز في هذه الألواح، ويحاول أن يبعث فيهم نفحة من الهداية بأي ثمن. فقال له الله: يا أخي أنت حارق نفسك ليه. . . أنت مانتش حاجة أبداً إلا نذير تنذر من ينذر، وتخوف من يخاف، وتعلم من يتعلم، وتنبه من يتنبه، ودول أموات. . . فالأحسن لك أنك تريح نفسك).
والله ما أدري ماذا أقول؟ وأني لخائف أن أقابل هذا الكلام بما هو به جدير فيستثقل القراء وستبردون كلماتي. ولو أن في الجامعة قوماً يحاسبون المدرس لا تهموا هذا الأستاذ بتهم أقلها إفساد ذوق التلاميذ.
على أن شرحه بعد ركاكته وتهافته - ليس موافقاً كلُّ الموافقة لما تنطق به الآية، وإدراك ذلك سهل ميسور.
3 - وقال عز وجل (وإذا قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله). ويقول الشيخ: (الحوار في هذه الآيات بين عيسى وبين الله حوار خيالي محض صور وقوعه بعد أن انتقل عيسى من هذا العالم الذي نحن فيه بدليل (فلما توفيتني) وكأن الله يقول لهم (أنتم بتقولوا عيسى ده إله، وإنه هو الذي أمركم أنكم تعبدوه. . . نجيبه؟ نسحبه ونسأله؟ ثم صور بعد ذلك أنه لو قام وبعث إلى الحياة لدار بينه وبين الله هذا الحوار: الناس الباردين دول. . . هل أنت قلت لهم يا عيسى إنك إله؟ قول لهم يا أخي)!
بمثل هذه الأساليب البارعة الفاتنة يلقى مدرس البلاغة في جامعة فؤاد الأول، وسيد المجددين كما يدعى. . . يلقى دروسه!
ومن الإنصاف أن نذكر أن الأستاذ الفاضل أدرك أخيراً ما في هذه الأساليب من ضعف وسخافة، فأشار على تلاميذه أن يمروا بالقلم على بعضها، ولكنه بعد قلم خفيف إن مر على دفاترهم، فلن يمر على أفكارهم وأذهانهم. . .
علي العماري
مدرس البلاغة بمعهد القاهرة