مجلة الرسالة/العدد 687/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 687 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 02 - 09 - 1946 |
مطاردة. . .!
للقصصي الإنجليزي سومرست موم
بقلم الأستاذ محمد عبد اللطيف حسن
عندما أرست بنا السفينة على ثلاثة أميال من الشاطئ الشمالي لجزيرة بورنيو، تقدم ربانها نجوى ومد يده إلى مصافحاً وتمنى لي حظاً سعيداً طيباً. فانتهزت بدوري هذه الفرصة التي بذلها نحوي في خلال تلك الرحلة الطويلة المتعبة، ثم أخذت طريقي هابطاً سلم السفينة التي كانت مزدحمة بالركب ذوي الأجناس المختلفة والنحل المتعددة. وكانت هذه السفينة من تلك السفن الشراعية الكبيرة ذات الأشرعة الواسعة الرحبة المصنوعة من خشب الخيزران المجدول. وتذكرت حينئذ أمتعتي فنظرت إلى المقر الذي كانت موضوعة فيه في أحد جوانب السفينة، فوجدتها قد أنزلت إلى القارب الذي سيقلنا إلى الساحل ووضعت في مكان ظاهر فيه
ولما اكتمل عددنا في القارب لوحت بيدي لربان السفينة الذي أخرج من جبيبه في تلك اللحظة منديلا أبيض وأخذ يلوح لي به مبتسما في الفضاء الواسع العريض، وقلدني باقي الركاب الذين كانوا معي في ذلك، فأخذوا يلوحون له وللركاب الذين تركوهم يستأنفون سفرهم على سطحها بأيديهم طوراً، وبمناديهم الصغيرة البيضاء طوراً آخر، ودموع الفرح والغبطة تترقرق في عيونهم التي كان يشع منها بريق السعادة والسرور وما زلنا على هذا الوداع المؤثر الحار حتى اختفت السفينة عن أبصارناً أختفاء تاماً، وأصبحت تتراءى لنا لبعد المسافة التي كانت تفصلنا عنها كأنها شبح من الأشباح القاتمة السواء.
ولما اقتربنا من الساحل تتراءى لي عن بعد أشجار جوز الهند المحملة بذلك الثمر الشهي الذي يكثر زرعه في تلك الأنحاء، ورأيت من خلالها سقوف الأكواخ الخشبية الرمادية اللون التي يقطنها أهالي هذه المنطقة الاستوائية الحارة. وأشار لي وقتئذ أحد الصينيين الذين كانوا أبيض كبير قائم على مقرية من الساحل وسألني بالإنجليزي التي كان يتكلمها بطلاقة وصدق كأحد أبنائها: - أتعرف من يقيم في هذا الكوخ الأبيض المرتفع؟ فتظاهرت بأنني لا أعرفه وهززت رأسي متأسفاً وقلت: لا!
- إن الذي يقيم بهذا البناء هو حاكم هذا الإقليم، وهو إنجليزي الجنسية كما أعلم. . .
فشكرته على هذه المعلومات التي أدلى بها إلى ثم سكت! ولو كان هذا الصيني يعلم أنني سأقيم مع هذا الحاكم تحت سقف واحد لمدة من الزمن، لوفر على نفسه هذا التعريف الذي كنت على دراية به أكثر منه! وقد كان على حينئذ خطاب توصية إليه من ربان السفينة التي أقلتني إلى هذا المكان، لأنه لم يسبق لي مشاهدته أو التعرف إليه من قبل
وحين رسا القارب بنا وهبطنا إلى الساحل الرملي البديع، شعرت فجأة بتلك الوحشة التي يشعر بها كلُّ شخص تطأ قدماه أرضاً غريبة ليست له بها عهد من قبل، وقد وقفت برهة على الساحل أتامل البحر فتزيده بهاء وسناء وروعة. . .
ولم ألبث أن شعرت ببعض الخجل والارتباك وأنا أتقدم إلى كوخ الحاكم بخطوات وئيدة ثابتة، وقد حملت حقيبة أمتعتي في يدي اليمنى، وقبعتي العريضة البيضاء في يدي اليسرى، وأخذت أسائل نفسي أثناء سيرى قائلاً: (كيف أقدم نفسي إليه؟ بل كيف يخطر لي ببال - وأنا الغريب عن تلك المنطقة - أن أبيت وإياه في مسكن واحد، وأتناول ما يقدمه لي من طعام وشراب - وأنا لا أعرفه - حتى تأتي السفينة التي ستقلني إلى الجهة التي أزمعت الوصول إليها؟!)
ولكني لم ألبث - حينما وصلت إلى باب الكوخ - أن وفرت على نفسي مشقة هذه الأسئلة الغريبة المحرجة التي أخذت نتوارد على ذهني بسرعة هائلة، فأنزلت حقيبة أمتعتي إلى الأرض وأخرجت من جيبي خطاب التوصية الذي كنت أحمله معي وناديت أحد الخدم الواقفين بالباب وطلبت منه أن يسلمه إلى الحاكم يداً بيد. ولم يمض على دخول الخادم بضع دقائق حتى خرج إلى من داخل الكوخ رجل وسيم الطلعة، قوى البنية، ذو وجه باش أحمر يدل على إفراطه في الشراب، وعينين زرقاوين حادتي النظرات، وكان يبدو من هيئته أنه في العقد الرابع من عمره أو دون ذلك بقليل، وقد حياني تحية قلبية خالصة كما لو كان يعرفني من سنين، واستقبلني بحفاوة شديدة وسرور بالغ لم أكن أتوقعهما منه، وجذبني من يدي برفق، ثم نادى أحد الصبية وأمره بإحضار بعض المشروبات المنعشة، ونادى الآخر وأمره بأن يحمل حقيبتي داخل الكوخ.
وأراد الحاكم أن ينسيني ما كنت أشعر به في تلك الآونة من الخجل والارتباك لوجودي في هذا المكان الغريب، فتلطف معي في الحديث وقال:
- إنك لا تعرف كم أنا مسرور برؤيتك، ولا سيما أن ربان السفينة الذي أرسلك إلى من أعز أصدقائي وأخلص رفقائي، ولذلك أرجو أن تعتبر نفسك هنا كأنك في بيتك
فابتسمت له وشكرته بإيماءة من رأسي على أدبه الجم وحسن استقباله إياي. . .
ولم يلبث مضيفي أن أستاذنني وذهب لينجز بعض أعماله الضرورية التي لا تحتمل التأجيل. فلما فرغ منها عاد إلى وتمدد بجانبي على مقعد طويل من القماش، وأخذ بجانبي أطراف الأحاديث، ويروي لي شيء الكثير من مغامراته ومخاطرته في تلك البلاد. . .
ولما هبطت درجة الحرارة قليلاً، خرجنا للنزهة، وطفنا ببعض الأجزاء الهامة في تلك المنطقة، ومتعنا أنظار بجمال الطبيعة الساحر، ثم عدنا قبيل الغروب وقد تصببت أجسامنا من العرق، ولم أجد في ذلك الوقت ما ينقذني من تلك الحرارة الشديدة سوى أن آخذ حماماً بارداً. ففعلت. . وقد شعرت من بعده بلذة عجيبة، ونشاط جسماني غريب، أنسياني ما كنت أعانيه منذ لحظات من ضيق بالغ، وعذاب أليم!
وبعد أن فرغنا من تناول العشاء استأذنت صاحبي أن أنام لأنني كنت منهوك القوى من وعثاء السفر. وبالرغم من أن رفيقي كان يرغب في التحدث إلى طول الليل، إلا أنني أستاذنته مرة أخرى ورجوته أن يرشدني إلى الحجرة التي سأقضي فيها ليلتي. فقال صديقي وهو يقودني من يدي إلى غرفتي:
- كما تشاء يا صاحبي. . . ولن أثقل عليك الليلة بسماع أحاديثي المملة، وأقاصيصي المتعبة!!
وكانت الغرفة التي أدخلني فيها كبيرة رحبة ذات شرفة واسعة من الجانبين، ومؤثثة برياش بسيط لا بأس به، وفي ركن من أركانها نصب سرير كبير مغطى بكلة رقيقة من الدانتلة البيضاء لتقي من يرقد فيه من لدغات البعوض التي كانت تعد من أخطر الحشرات وأشدها فتكاً بحياة بني الإنسان في تلك الجهات وضحك صديقي وقال لي وهو يشير بيده إلى السرير.
وإن هذا الفراش خشن بالنسبة إليك، ولكنه مع الأسف أحسن ما عندنا في هذه البلاد!
فابتسمت له ابتسامة رقيقة وقلت:
- إن هذا لا يهمني مطلقاً، ولن يؤثر ألبته في نومي ما دمت أشعر بحاجة ملحة إلى الراحة بعد هذه الرحلة المضنية:
ونظر رفيقي إلى الفراش مرة أخرى متمعناً وقال:
- لقد كان آخر من نام في هذا الفراش رجل هولاندي. ولهذا الرجل قصة عجيبة مؤلمة. ولا أجد عندي مانعاً من سردها عليك بشرط أن نسمح لي أولاً بذلك حتى لا يكون في هذا مضايقة لك.
وبالرغم من أنني كنت في حاجة شديدة إلى النوم كما قلت، إلا أن اللهجة التي مهد بها رفيقي لهذه القصة جعلتني أتشوق أسماعها منه، ولذلك لم ألبث أن قلت:
- لا بأس يا صاحبي. . . أسرد على قصتك وكلي آذان صاغية لك.
فجلس رفيقي على حافة الفراش وجلست قبالته ثم استجمع شتات أفكاره وقال ارتسمت على جبينه آيات التفكير العميق:
- لقد جاء هذا الرجل إلى هنا على نفس السفينة التي أتيت عليها، وقد حضر إلى مكتبي مباشرة وسألني عما إذا كنت أعرف فندقاً في تلك البلدة يمكنه أن يقضي فيه ليلته، فلما أخبرته بأنه لا توجد فنادق في تلك البلدة على الإطلاق هز رأسه متأسفاً وهم بالخروج من عندي بعد أن حياني تحية رقيقة مؤدبة. ولكني لم ألبث أن أشفقت عليه فناديته وعرضت عليه أن يبيت في مسكني، فقبل ذلك بعد تردد قليل. وكان هذا الرجل الهولاندي يحمل في يده قيثارة (كمنجة) صغيرة غالية الثمن، فلما رآني أحدق النظر فيها بإمعان ابتسم لي وقال (إن هذه القيثارة هي كلُّ ما أحضرته معي في تلك الرحلة، وهو تسليتي الوحيدة في أوقات فراغي الممل، ولذلك تراني أعزها وأفضل حملها معي في كلُّ مكان أذهب إليه.)
وكان هذا الرجل ذا وجه شاحب نحيل، ورأس مستدير يعلوه شعر أسود كث، وعينين رماديتين تدل نظراتهما القلقة المتحيرة على ما يعانيه صاحبهما من خوف واضطراب، أما جسمه فكان هزيلاً مفرطاً في الطول بدرجة غير عادية. وكان يلوح عليه أنه تجاوز الأربعين بقليل، وقد دلتني ملامح وجهه الجامدة على ما به من مرض نفساني غريب، إذ كان يتلفت وراءه بسرعة زائدة لأقل صوت يسمعه. وكان يتكلم الإنجليزية بطلاقه عجيبة، ولولا تلك اللكنة الأجنبية التي كانت تظهر في بعض كلماته لظننت أنه إنجليزي قح. وكان يحب الحديث، ويجيد الكلام إلى درجة تضطر سامعه إلى الإصغاء إليه، والانتباه لحديثه بلذة وشغف.
وكان لدى بعض الأعمال الضرورية التي يجب أن انتهى منها على عجل، فطلبت بلطف أن يسبقني إلى الغرفة المجاورة، وأخبرته أنني سأوافيه إليها بعد قليل. وبينا أنا أخاطبه إذا بسكرتيري الخاص يفتح الباب فجأة ويدخل بدون استئذان كما اعتاد أن يفعل ذلك في بعض الأحيان. فارتاع الهولاندي لهذه الأموات، وأخذ جسمه النحيل يرتعد بشدة وعنف من قمة الرأس إلى أخمص القدمين، وأخرج بسرعة مسدسه من جيبه الخلفي، فذعرت لذلك ذعراً شديداً وصحت فيه بأعلى صوتي قائلاً (ماذا تفعل يا سيدي؟ ولم أخرجت مسدسك من جيبك؟)
ولما رأى الهولاندي سكرتيري ندم على فعلته ندماً شديداً وشعر ببعض الخجل والارتباك ثم أعاد مسدسه إلى جيبه وتهالك على أقرب مقعد منه وهو يلهث من فرط ما اعتراه في تلك اللحظة، ولما تمالك أعصابه وعاد إليه صوابه قال لي بخجل ظاهر، (أرجو معذرتي يا سيدي فإنني رجل محطم الأعصاب كما رأيت).
فأمنت على كلامه بهزة خفيفة من رأسي وقلت (هدئ روعك يا سيدي ولا تخف من شيء).
ولم يكن يلوح عليه أنه قد أفرط في الشراب حتى تصدر عنه تلك الفعلة المنكرة، وقد ظننت لأول وهلة أنه قد يكون أحد المجرمين الذين يتعقبهم رجال الشرطة، ولكني لم ألبث أن أبعدت هذه الفكرة عن رأسي لأنه ليس من المعقول أن يجازف بالدخول إلى مكتبي وهو يعلم أنني الحاكم العام لهذه المنطقة فيعرض بذلك نفسه لإلقاء القبض عليه في أقرب فرصة، وأسرع وقت:
ولم ألبث أن قلت له مشفقاً (يستحسن يا سيدي أن تستريح قليلاً في الغرفة المجاورة حتى تستعيد هدوئك وتسترد قواك، وسأوافيك إليها بعد قليل. . .)
فقام من مقعده متثاقلاً وذهب إلى الحجرة المجاورة لمكتبي ولما عدت إليه بعد أن أنجزت عملي وجدته واقفاً في وسط الحجرة وهو يدور ببصره في كلُّ ركن من أركانها، وبالرغم من أنني رأيته قد استرد هدوءه، واستعاد ثباته عجبت لوقوفه وسألته قائلاً (لم تقف وسط الحجرة هكذا؟ إنك تكون أكثر راحة لو تمددت على أحد هذه الكراسي الطويلة. . .)
ولكنه ابتسم ابتسامة صفراء وأجاب باقتضاب (إنني أفضل الوقوف هكذا!)
فاستغربت جداً لهذه الإجابة المقتضبة وقلت بلهجة لا تخلو الاستياء (إن هذا عجيب منك حقاً، لأن من يراك في وقفتك هذه يظن أنك مراقب، وقد يداخله الشك في أمرك لأول وهلة!)
(البقية في العدد القادم)
محمد عبد اللطيف حسن