مجلة الرسالة/العدد 686/وردة اليازجي
→ إلى المجمع اللغوي: | مجلة الرسالة - العدد 686 وردة اليازجي [[مؤلف:|]] |
الأدب في سير أعلامه: ← |
بتاريخ: 26 - 08 - 1946 |
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
- 1 -
نحن جديرون بأن نعنى بمآثر الشاعرات العربيات من بنات قومنا في القديم والحديث. فبهذه العناية نؤدي بعض ما لهن من الحق علينا في مضمار الشعر واللغة، وضربهن بسهم وافر في إظهار شعورهن نحو لغتهن وبنات أمتهن، ومنهن الحديثات ممن تتبعن خطط سابقاتهن فنسجن نسيجاً يليق بنا أن نطلع القراء ما يتيسر إيراده في هذه العجالة فنحفظ لهن ذكراً باقياً حافزاً لغيرهن من النساء أن يسلكن هذا المسلك الظريف فيكن أوتاراً موسيقية لأبناء الجبل وبناته. وهذه الشاعرة وردة بنت الشيخ ناصيف اليازجي من شاعرات أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كان أكثر شعرها رثاء وذلك للنكبات التي حلت بهذه الشاعرة المسكينة فانهالت عليها كالسهام لأنها نكبت بكل اخوتها وأختها وأبيها وابنتها وزوجها. فبكتهم الخنساء على اخوتها وأولادها، وحذت حذوها في نسق الرثاء وذكرتها مراراً في قصائدها المملوءة من النواح، وهذا ديوانها (حديقة الورد) طافحاً بالمراثي والمآتم والدموع المسكوبة على من فقدتهن من أفراد أسرتها الأعلام، وغيرهم من الأفاضل الكرام.
أما سيرتها: فقد ولدت في كفر شيحا في لبنان في العشرين من شهر يناير من سنة 1838م (1253هـ) ثم انتقل والدها إلى بيروت وأدخلها مدرسة البنات للمرسلين الأمريكيين. ولما بلغت الثانية عشرة لقنها والدها أصول الصرف والنحو والبيان والعروض فنبغت فيها، ورآها والدها مطبوعة على الشعر فرشحها له فنظمت عدة قصائد وهي لم تناهز الرابعة عشرة، ثم أخذت تكثر من النظم والرثاء والمديح وغيرهما، وقد أجادت في الرثاء كما قلنا لما منيت به أسرتها من المصائب الفاجعة. وقد اقترنت بفرنسيس شمعون سنة 1866م وصرفت أكبر قسم من حياتنا في مصر في مدينة الإسكندرية، وتوفيت فيها في الثامن والعشرين من شهر يناير سنة 1924م (1342هـ)، وتعرف بأنها أول امرأة نبعت في الأدب العربي في القرن التاسع عشر، وتظهر كتاباتها مقدرة عظيمة في طريقة التركيب على نمط والدها، ومحتويات أشعارها قصائد تنطق بظروف ذات علاقة متينة بتاريخ عائ اليازجي. ولها مع أديبات عصرها في سوريا ومصر وبغداد مساجلات ومراسلات تنم عن لطف وبراعة في التعبير، ونشرت عدة من المقالات بعضها في مجلة الضياء تناولت فيها قضية المرأة الشرقية وغيرها، وغلب على نظمها مسحة الشعر اليازجي في السهولة والرقة، وقد عمرت طويلاً. وممن كتب عنها من الغربيين المستشرق بروكلمن 11495) وأما الشرقيون فكثيرون نخص بالذكر منهم الأب لويس شيخو اليسوعي (الملاحظات شيخو: التأريخ ص 415 - 16 ونفس الفهرست ص 213 العدد 829) ومحاضرات الآنسة مي (مريم زيادة وقد خصصتها بها وقد طبعت في القاهرة في مطبعة البلاغ المحتوية على اثنين وستين صفحة مع الرسم). أما ديوانها (حديقة الورد) فقد طبع مرتين في بيروت سنة 1867م، سنة 1881م وفي القاهرة للمرة الثالثة سنة 1913م (1232هـ) وزيد على طبعته الأخيرة كثير من القصائد النادرة لها. وأما شعرها فينقسم قسمين: الرثاء والمديح، ولنبدأ الآن بالمديح. فمن ذلك أن قالت في جواب أبيات وردت عليها من وردة بنت المعلم نيقولا الترك الشاعر في مطلع ديوانها.
يا وردة الترك أني وردة العرب ... فبيننا قد وجدنا أقرب النسب
أعطاك والدك الفن الذي اشتهرت ... ألطافه بين أهل العلم والأدب
وقالت في جواب رسالة إلى الست كاتبة بنت موسى بسترس وفي هذا تورية لطيفة لأن اليازجي بالتركية يعني الكاتب:
بيني وبينك في الأسامي نسبة ... لا في المعاني أنت فوق مراتبي
سميت كاتبة بكل لياقة ... وأنا كما تبغين بنت الكاتب
وقالت وقد عادت صديقة لها من سفر:
زار الحبيب فزار أجفاني الكرى ... ودنا سرور كان عن قلبي سرى
لا تنكروني إن غاب عني مرة ... شيم الكواكب أن تغيب فتظهرا
ثم تقول:
أهلا بمن أخذ القلوب وديعة ... وأعادها معه تخوض الأبحرا
وقالت في رسالة إلى صديقة لها وقد كانت في سفر:
مني السلام على الذي هجر الحمى ... فجرت دموعي كالسحائب عندما الشوق زاد من البعاد تحسراً ... والنوم صار على العيون محرما
ثم هي تقول فيها:
يا راحلا أضحى فؤادي عنده ... وبقيت من وجدي أراعي الأنجما
وكذلك قالت:
مني السلام إلى من سار في السحر ... وبدّل العين بعد النوم بالسَهر
وقالت وقد بعثت بها إلى إحدى صواحبها وقد كانت في سفر:
رحل الحبيب وحسن صبري قد رحل ... فمتى يعود إلى منازله الأوَل
وتضئ أرض أظلمت من بعده ... وتقر عيني باللقا قبل الأجل
ثم تقول:
قد قل صبري للبعاد تحسراً ... والجسم من أجل الفراق قد انتحل
يا غائباً والقلب سار بإثره ... شوقي مقيم في فؤادي كالجبل
يا بدر غبت اليوم عنا راحلا ... والبدر ليس يغيب شهراً إن أفل
وقالت في الأميرة تاج الشهابية:
تحية من مشوق زائد الغُلل ... تهدى إلى تاج مجد من ذوي الدول
ثم تقول:
إلى التي صار قلبي مسكنها ... كأن الشمس حلت منزل الحمل
جميلة الخلق تحكي البدر طلعتها ... جليلة الخلق في قول وفي عمل
وكذلك تقول:
يا من بها زهت الأيام قائلة: ... لا تحسبوا أن كلُّ الفضل للرجل
وقالت تمدح ميخائيل المدوّر:
نخل اليمامة يفدي نخلة ظهرت ... في أرض بيروت منها الظل والثمر
ثم قالت وقد زائر أباها الأمير أمين أرسلان:
تدفق في منازلنا السرور ... مذ حين شرفها الأمير
أضاءت بهجة كالصبح لما ... تجلى فوقها القمر المنير
فكادت ترقص الأكباد تيها ... بمقالته أو كادت تطير وكذلك قالت جواباً لصديق أبيها محمد عاقل أفندي الساكن في الإسكندرية:
زارت بجنح الدجى والليل معتكر ... فقالت الدرها قد أشرق السحر
خود تميس بقدٍّ كالقناة بدا ... إذ رأته غصون البان تنكسر
قدٌّ يقدُّ قلوب العاشقين إذا ... ما عنِ يوما ثرى الأكباد تنفطر
خطت لأهل الهوى سطراً بوجنتها ... إياكم النار لا يؤذيكم الشرر
ثم هي تقول:
أهدى إلى بيوتاً كل قافية ... منهن تخجل منها الأنجم الزهر
وهي تقول أيضاً:
سحبان مصر ويا ركن البلاغة من ... به القوافي غدت تزهو وتفتخر
وقالت تجيب أحد الفضلاء عن أبيات بعث بها إليها من بغداد:
منّ الكريم بها عليّ رسالة ... تفسق بكل وصيفة ووصيف
وفيها تقول:
أهديتني مدحاً به أغرقتني ... في بحر فضل لم يكن بخفيف
وكذلك قالت جواباً لأحد الأفاضل عن أبيات أرسلها لوالدها من بغداد:
خود من العرب وافت تنجلي تيهاً ... كالشمس تشرق فينا من أعاليها
إلى أن تقول:
اللوذعي الذي الزوراء مسكنه ... وصيته سار في أقصى ضواحيها
حيا الحيا أربع الزورا وأهليها ... وجادها الغيث هتاناً يواليها
في أرضها منبع العلم الذي غمرت ... مياهه وارتوت من أهاليها
أهدي إلى بيوتاً كلُّ قافية ... منهن تسكر لا بالخمر قاريها
ولها في لبنان ذكريات ولوعات حيث تقول فيه:
يا ربي لبنان حياك الحيا ... وسقى تربك هتان الغمام
يا ربوع الأنس يا دار الصفا ... يا جنان الخلد يا أهنا مقام
ثم أنظرها تقول:
وخرير الماء في تلك الربى ... كحنين من محب مستهام بسط الزهر على أرجائه ... بين ورد وبهار وخزام
وترى الأطيار في تلك الربى ... بين شحرور وباز ويمام
وفي تهنئتها للأميرة نازلي هانم بعودتها من أوربا تقول:
أهلا بذات العلي والمجد والحسب ... سليلة العلوي الماجد النجب
شمس بدت من سماء الغرب مشرقة ... فغار ما في سماء الشرق من شهب
فرع كريم أتى من دوحة سقيت ... أعراقها بمياه الفضل لا السحب
وقالت تتذكر أيام الصبا:
يا زمان الصبا عليك السلام ... يا ربيعاً تزهو به الأيام
فيك تحلو الحياة يا زهرة ال ... عمر وتنمو العقول والأجسام
لهف نفسي على أويقات أنس ... قد تقضت كأنها أحلام
حيث كان الزمان طلق المحيا ... وعيون الأكدار عنا نيام
وقالت تمدح شكري الخوري والسوريين في أميركا الذين اشتركوا في إقامة تمثال لأخيها إبراهيم.
يا من يقصر عن شكري له قلمي ... لما أتى من جميل الفضل والكرم
الفاضل الشهم شكر الله من لهجت ... بشكره ألسن الأيام والهمم
ذكرت قومي إلى ما ترتإيه لهم ... صنعاً جميلاً وبرهاناً لودهم
لهم علينا اليد البيضاء ما بقيت ... فينا حياة توالي ذكر فضلهم
يا سادة جمعتهم نسبة الوطن ال ... محبوب جمع الثريا غير منفصم
جددتم شخص من نهفو لرؤيته ... كأنما هب مبعوثاً من الرحم
فلو تمكن من نطق لصافح لكم ... شكراً ودبجه بالدرّ والحكم
وما مديحي لكم حبر على ورق ... بل خط في لوح صدري شكركم بدمي
إلى هنا نكتفي من قولها نظماً في المديح، وأما الرثاء فقد أبدعت فيه كلُّ الإبداع وأجادت فيه كلُّ الإجادة. فهي التي بكت في رثائها وأبكت من سمعها أو قرأها في هذه القصائد المحزنة التي نأتي ههنا بالميسور إيراده فقالت ترثي البطريرك مكسيموس مظلوم حين توفي بالإسكندرية سنة 1855: يا حاسباً دنياك دار قرار ... أقصر عناك فتلك أخبث دار
لا تستقر بها النفوس ولا ترى ... قلباً بلا غم ولا أكدار
دنيا غرور كلما طال المدى ... طال الغرور بمكرها الغرار
ثم هي تقول:
لله يومك في الأنام فإنه ... أبقى لنا حرنا مدى الأدهار
وقالت ترثى المرحوم مارون نقاش المتوفى سنة 1855م:
الموت للناس كالجزار للغنم ... فليس يترك من طفل ولا هرم
كأس يدور علينا ساقياً أبداً ... وليس يترك إنسانا من الأمم
ثم تقول:
ذابت لفرقته الأكباد والتهبت ... أجفاننا من دموع ضرجت بدم
وقالت أيضاً ترثى المرحوم غالي سميث الأمريكي:
قد سرت عن وادي الدموع مودعاً ... هل يرتجي بعد الوداع سلام
(يتبع)
يوسف يعقوب مسكوني