الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 686/القصص

مجلة الرسالة/العدد 686/القصص

بتاريخ: 26 - 08 - 1946


قصة من الأدب الروسي الرفيع:

الملاك. . .

للفيلسوف الروسي الكبير لوي تولستوي

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

- 3 -

طفقت المرأة تحدثهم بقصة هاتين الطفلتين. . . وقد شاع الحزن في صوتها، وأرتسم الألم على جبينها فقالت:) إنها لقصة فاجعة. . .! لقد قضى أبوهما يوم الثلاثاء، ولحقت به أمهما يوم الجمعة بعد أن وضعهما. . . وكنت أنا وزوجي نعيش ككل الفلاحين في بساطة عيش ودقة حال، وكانت دارنا مجاورة لدارهم. لقد مات أبوهما وكان يقطع الأخشاب في الغاية تحت جذع شجرة هوت عليه من حالق، فسمعته وفاضت روحه قبل أن يبلغوا به الدار.

وبعد ثلاثة أيام. وضعت زوجته هذين التوأمتين - ولم يكن لها من ناصر أو معين فوضعتهما وحيدة. . . ولقيت منيتها وحيدة. . .! وفي اليوم التالي توجهت إليها، أنظر ما آلت إليه حالها. . . فما كدت أتخطى الكوخ، حتى وجدتها متيبسة الجسد وقد علت وجهها صفرة الموت. . . وتدحرج جسدها فوق هذه الطفلة، فأصاب ساقها العرج. . .!

وجاء القوم من القرية - وكلهم حزين، يأكل قلبه الألم - فكفنوها في خال وحملوها إلى المقبرة، ودفنوها جوار زوجها. . . لقد كانت الطيبة تملأ نفوسهم والعطف يفيض من قلوبهم. . .! ولكن هاتين الطفلتين أصبحتا ومالهما من ولي أو كفيل. . . وكنت حينئذ المرأة الوحيدة في القرية التي عندها طفل لم يتجاوز أسبوعه التاسع. . . فضممتها إلى صدري. . . وعدت بهما إلى كوخي. فلما اجتمع الفلاحون راحوا يفكرون ويطيلون التفكير في أمرهما، وأخيراً، قالوا لي: عليك العناية بهما الآن يا ماري. . . وسوف ندبر أمرهما فيما بعد. . .!)

فأخذت على عاتقي أن أرضع هذه الطفلة الصحيحة، وأدع العرجاء. . . فما كنت أحسب أنها ستعيش. ولكني تساءلت: بأي ذنب تعاني هذه الطفلة ألم الجوع؟! فما لبثت الرحمة أن فاضت بين جوانحي. . . فرحت أرضهما مع طفلي. . . وقد كنت لبانة يتفجر اللبن من ثديي في فيض لا ينقطع، وكان الله يأتيني برزق هاتين الطفلتين. . . فترعرعتا على حين توفى الله طفلي الوحيد، قبل أن يبلغ السنتين. . . وقد أقبلت علينا الدنيا بعد انصرافها عنا. . . فزاد حبي لهما وحناني عليهما. . .

أفعلمتم الآن سبب ذلك الحب؟! إنهما سعادتي في هذه الحياة، وأملي في هذه الدنيا. . .!) وضمت (السيدة) الطفلة العرجاء إلى صدرها بإحدى يديها، بينما ارتفعت يدها الأخرى لتمسح دمعة حارة تحدرت على خدها فتنهدت (مترونا). . . وقالت في صوت عميق وجرس ندي: (صدق من قال) يعيش المرؤ بغير والديه! ولكن لا يعيش بغير الله. . .!)

وران الصمت عليهم. . .! وفجأة انبثق في الكوخ نور باهر كأنه وميض البرق في ظلمات الشتاء. . . وشع الضوء من ذلك الركن الذي يجلس فيه (ميشيل). . . فالتقت عنده أبصارهم. وهو على كرسيه يحدق في سماء الغرفة. وقد افتر ثغره من ابتسامة حلوة. . . أشرقت في وجهة وأضاءت على جبينه. . .

فلما تهيأت المرأة للذهاب. حيتهم. . . وأمسكت بطفلتيها. ومضت بهما. . . فنهض (ميشيل) من جلسته. . . ووضع ما كان بيده وخلع عنه مئزره. . . ثم انحنى لسيمون وزوجته (مترونا) وقال في صوت شكور (وداعاً. . . أيها السادة. . . لقد عفى الله عني. . .! وغفر لي ذنبي. . .)

وراح ميشيل يتألق في ضياء تنبعث من هالة حوله. . . فانحنى سيمون وقال في صوت ملؤه العجب (لقد حدست إنك لست ببشر يا ميشيل. . . ولن أثقل عليك بتساؤلي. . . ولكن آمل أن تخبرني: لماذا تألق وجهك حينما عثرت عليك في الطريق عريان جائعاً؟! ولماذا ابتسمت إلى زوجتي تلك الابتسامة الوضيئة حينما قدمت إليك الطعام؟! وحينما دخل ذلك (السيد الجليل) كوخنا، لنصنع له حذاء إفتر ثغرك عن بسمة مثيلة بها؟. وأخيراً حينما أتت هذه السيدة مع هاتين الطفلتين تألق وجهك بابتسامة ثالثة في جلال وبهاء. . .

نشدتك الله يا ميشيل أن تطلعني على سر ذلك الإشراق، وعلة هذه الابتسامات الثلاث؟!!). . .

قال ميشيل في صوت هادئ رخيم (لقد انبثق الضوء عني وأشرق النور مني لأن الله يعاقبني. . . بيد أنه عز وجل غفر لي ذنبي أخيراً!. . . والسر في تلك الابتسامات الثلاث أن الله أرسلني كي أتعلم ثلاث حقائق. . . وقد تعلمتها. . .!

لقد تعلمت واحدة حينما فاضت الرحمة من قلب زوجتك. . . فكانت الابتسامة الأولى!!

وتعلمت الثانية حينما سمعت ذلك (السيد) يتحدث عن حذائه، فكانت الابتسامة الثانية!!

وتعلمت الثالثة عندما رأيت هاتين الطفلتين. . . فكانت الابتسامة الثالثة!)

فقال سيمون في دهش ورجاء (خبرني لماذا عاقبك الله يا ميشيل؟! وما هذه الحقائق الثلاث؟!

فأجاب ميشيل في صوته الهادئ الرخيم (لقد عاقبني الله لأني عصيت له أمراً. . . لقد كنت. . . ملاكا أسبح في ملكوته الأعظم. . . فأنزلني ذات يوم إلى الأرض لأقبض روح امرأة من خلقه. . . فأبصرها راقدة على سريرها وحيدة - وقد وضعت توأمين! - فلما أحست دنوي منها، أدركت أني رسول الله إلى روحها. . . فقالت وقد كادت أن تحبس صوتها الدموع: (أيها الملاك. . . لقد مات زوجي منذ أيام وما لي من أخت أو عمة أو ولية ترعى طفلتي. . . فلا تقبض روحي! ودعني أرضعهما وأرعاهما حتى تستويا على سوقهما قبل أن أموت!! إن الأطفال لا تحتمل العيش دون أب أو أم!.)

فأصغيت إلى حديثها الرقيق الرفيق. . . ووضعت إحدى الطفلتين على صدرها والأخرى على ذراعها. . . وانثنيت آيباً إلى الله تعالى في السماء. . . وقلت في خشوع (إني عاجز عن أن أقبض روح هذه الأم. . . لقد قتل زوجها تحت جذع شجرة منذ أيام. . . وولدت لها اليوم توأمتان. . . وتوسلت إلى ألا أسلّ روحها قائلة (دعني أرضعها وأرعاهما حتى تستويا على سوقهما قبل أن أموت! إن الأطفال لا تحتمل العيش دون أب أو أم.!) (فعدت ويدي عاطلة من روحها!.) فسمعت الصوت العلوي يردد الأمر الجليل (اذهب. . . فاقبضها ولا تكن عودتك إلى السماء قبل تتعلم حقائق ثلاث):

(ما الذي فطر عليه الإنسان؟!)

(ما الذي حرم منه الإنسان؟!)

(ما الذي يعيش به الإنسان؟!)

فعدت طائراً إلى الأرض - وأنا أرتعد فرقاً من غضب الله وأنتفض جزعاً من عقابه.

فقبضت الروح. . . وسقطت الطفلتان من على صدرها، ومال جسدها على جانبها، فحطم ساق إحدى الطفلتين فالتوت. . . وهممت بأن أصعد إلى السماء أحمل الروح إليها. ولكن الريح أثقلتني وأخذت أجنحتي تتضاءل وتنسل من ظهري. . . فصعدت (الروح) وحدها إلى الله. . . بينما سقطت أنا على الأرض في جانب من الطريق!.)

فغر سيمون فاه. . . ونظرت (مترونا) في بلاهة يشوبها الدهش. . . لقد أدركا الآن من كان يضمه دارهم ويعيش بينهم ويأكل من طعامهم. . . فترقرقت الدموع في عيونهما. . . وراحا يبكيان في نشيج ومزيج من الرهبة والمرح. والإجلال والفرح وانطلق الملاك يقول: (لم أكن أعرف حاجات البشر من جوع وعرى حتى صرت بشراً مثلهم. . . كنت وحيداً. . . يهرؤني القر، واتضور من الجوع. . . ولا أدري ما الذي أفعله في هذا العالم

وامتد طرفي. . . فلمحت كنيسة على مرماه. . فتوجهت إليها عساني أجد ثمت موئلا. . . بيد أنها كانت مغلقة. . . فتوجهت إلى ما وراءها. . . حيث قعدت أتوقى بها لريح الصرصر التي تسفح الوجه، وتصك الجسد. . .!

فلما غشى المساء عيون الكون. . . رأيت إنساناً يقبل وحيداً على. . . وبينه وبين نفسه حديث. . . ولأول مرة رأيت وجه الإنسان ذلك الوجه المخيف الميت فأشحت عنه برأسي. . . وطرق سمعي ذلك الحديث أو تلك الخواطر التي كانت تضطرب بينه وبين نفسه. . . وتنعكس على شفتيه فيرتفع بها صوته. . . كان يتساءل كيف أنه يقي جسده لفحة البرد وقشعريرة الشتاء، ويغذي زوجته وصغاره بماله اليسير. . .

فرمت أفكر (هذا إنسان يدبر ملبساً له في الشتاء. . . وطعاماً لعائلة. . . فكيف يقدم لي يد المساعدة؟!) فلما لمحني اضطرب فرقاً وجزعاً ومر بي في الجانب الآخر من الطريق. . . فتداركني اليأس، لولا أني أبصرته ينقلب راجعاً إلي. . . فرفعت إليه بصري فلم أعرفه. . . لقد كان يرتسم الموت على جبينه. . . أما الآن فسوف يعيش. . . لقد عرفت في شخصه وجود الله عز وجل.! ألبسني ثوباً عليه، وأخذني معه إلى داره حيث وجدت من هي أقسى قلباً وأشد كلاماً. . . لقد شاع في صوتها الموت، وأبصرت من حولها الهلاك. . . كانت تود لو ألقت بي إلى قارعة الطريق. . . ولو أنها فعلت ذلك لكان الموت من نصيبها.! فلما بدأ الرجل يحدثها عن الله عز وجل، لان قلبها ومال إلى فؤادها. . . فأحضرت لي الطعام، ونظرت إلى وجهي في عطف وشفقة. . . فعرفت في شخصها وجود الله. . .

فتذكرت أولى الحقائق الثلاث التي أمرني الله بأن أعلمها (ما الذي فطر عليه الإنسان؟!.).

فأدركت أن الذي فطر عليه الإنسان هو (الحب)!! وقد تولتني البهجة حينما علمت أن الله أوحى إليَّ بالدرس الأول. . . فافتر ثغري عن الابتسامة الأولى. . . ولكن بقي على أن أتعلم الحقيقتين الأخرتين: (ما الذي حرم منه الإنسان؟!) و (ما الذي يعيش به الإنسان؟!).

(مضى عام وأنا أعيش بينكم. . فلما أتى ذلك السيد الجليل يأمرنا بصنع حذاء له على ألا يبلى أو يخلق قبل أن تنقضي سنة على ذلك. . . نظرت إليه. . . وعلى حين غرة لمحت فوق رأسه رفيقي (ملاك الموت) ولم يره أحد سواي. . . ولكني عرفته، وأدركت أن الشمس لن تغيب عن الأفق إلا وقد غابت روح ذلك الرجل عن جسده. . . فتعجبت. . . إن هذه الرجل يعد العدة لعام بأكمله. . . ولا يحسب أن قضاءه قد حم. . . وأن المساء لن يأتي عليه إلا وجثته مسجاة هامدة. . .).

فتذكرت الحقيقة الثانية، فكأن الله يوحي إلى أن تعلم (ما الذي حرم منه الإنسان؟) فابتسمت للمرة الثانية. . .

ومكثت أنتظر أن يوحي إلى الله بالحقيقة الثالثة (ما الذي يعيش به الإنسان؟!).

وفي العام السادس. جاءت امرأة ومعها توأمتان صغيرتان فعرفت الطفلتين وعرفت أن الله قد قيض لهما من كان أحن عليهما من أمهما. . . فعاشتا وترعرعتا.!

ولما سمعت ما قصته علينا من كفلتهما رحت أفكر مستغرقاً (لقد توسلت إلى أن أدعها حية حتى ترعى الطفلتين. . . الضعيفتين. . . واعتقدت أنها على حق حينما قالت (إن الأطفال لا تحتمل العيش دون أب أو أم. . .) بيد أن امرأة غريبة عنهما كفلتهما حتى نمتا وشبتا. . . وأدركت مبلغ ذلك الحب الذي يختلج بين جوانح بين تلك الظئر الحاضنة. . . فرأيت في شخصها وجود الله. . . وتعلمت الحقيقة الثالثة وهي (ما الذي يعيش به الإنسان؟!). . . إنه (الحب). . . وعلمت أن الله أوحى إلي بالدرس الأخير. . . وأنه عفى عما تقدم ذنبي ومن عصيان أمره على غير بصيره. . . فكانت الابتسامة الثالثة!!.)

أضحى (الملاك) وهوَ عار مما عليه. . . يشع من جسه نور قوي يبهر الأبصار. . .

وراح صوته يخفت وينخفض حتى صار، وكأنه لا يأتي من فيه. . . بل يأتي. . . من السماء. . .!

(لقد علمت أن البشر لا يعيشون بالحرص على حياتهم. . . بل بالحب المغروس في قلوبهم وهل نفع حرص الأم على بنيتها؟! لا بل كان حب الظئر لهما!!.

ولقد عشت - عندما كنت إنساناً - لا بالحرص على حياتي. . . بل بالحب يختلج بين جوانح عابر سبيل. . . وبالرحمة والعطف الذي انبثق في فؤاده هو وزوجته على. . .

إن الحب شيء فطر عليه الإنسان وغرس في قلبه. . . وعليه يعيش وبه يحيا في هذه الدنيا. . .! وكنت احسب أن الله وهب الحياة للبشر، ومنحه الأمل في أن يعيش. . . بيد أني الآن علمت أشياء أخرى. . .! علمت أن الله لم يخلفه كي يعيش وحيداً فريداً. بل خلقه ألوفاً ساعياً للارتباط بغيره. . . عرفت أن المرأ مع تخيله أنه يعيش بالحرص على حياته. . . فهو يعيش في الحقيقة بالحب. . . لأن من كان الحب يملأ قلبه. . . فهو يعيش في الحقيقة بالحب. . . لأن من كان الحب يملأ قلبه. . . ففيه نفحة من الله. . . فالله عز وجل هو الحب. . . والحب هو الله!!. . .)

ثم ارتفع صوت (الملاك) في جرس ندي يردد أنشودة ملائكية يحمد فيها الله ويثني على آلائه!! فكان الكوخ والأشجار والطيور تتراقص وتهتز وكأنها تسبح بآيات الله. . . وانحسر سقف الكوخ حيث ارتفع عمود من النور يربط السماء بالأرض. . . فخر (سيمون) وزوجته وأطفاله وقد ملكت نفوسهم الرهبة والخشوع، وملأت قلوبهم الخشية والإجلال!. ونبت (للملاك) جناحان على كتفيه. . . حيث راح يسبح بهما مصعداً إلى السماء. . .!

فلما أفاق (سيمون). . . وراح يقلب طرفه فيما حوله. . . رأى الكوخ وقد أصبح كما كان. . وليس فيه سوى زوجته (مترونا) وأطفاله الصغار. . .

مصطفى جميل مرسي