الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 684/عود إلى حديث الإنسانية!

مجلة الرسالة/العدد 684/عود إلى حديث الإنسانية!

بتاريخ: 12 - 08 - 1946


(إلى أخي الأستاذ علي الطنطاوي)

للأستاذ عبد المنعم خلاف

كل ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية الفاسدة الشديدة الفساد الآن تحمل كثيرين على عدم الثقة بالإنسان وسوء الاعتقاد فيه، فليست قصتك التي أهديتها ألي في العدد الماضي يا أخي شيئاً مذكوراً بجوار القصص التي تمثلها الجرائم السياسية الكبرى التي يعرضها شيوخ السياسة على مسرح الأرض، ولا بجوار المخزاة الدامية المجرمة التي تمثلها الصهيونية، وتنصرها الولايات المتحدة الأمريكية! - تلك التي كانت أمل العالم فطواها الشيطان في جناحه الأسود فيما طوى من آمال السلام والخير - وتغضي عنها الإمبراطورية البريطانية إغضاء الذليل الضعيف، وهي التي خرجت منصورة من حرب كادت تودي بها، أعلنتها، وكان من أسباب إعلانها لها الانتصار لليهودية المضطهدة على يد النازية!

أجل، ليست المسألة في الحكم على الإنسانية بأنها للخير أو للبوار مسألة قسوة فرد أو جريمة شخص، فأن فساد الأفراد وبخاصة في عصور الانحطاط، يكون من الكثرة بحيث لا يحصيه العادّ ولكن هل معنى ذلك أن نستسلم للواقع السيئ ونحطم عقائدنا في الخير والصلاح ونلقي سلاح كفاحنا لهما؟

وقد كانت صيحتي (أومن بالإنسان) في إبان الحرب الأخيرة رداً لهجوم عنيف على قلبي من موجات التشاؤم والسخط والتبرم من ذلك المجتمع الإنساني الذي اشتعل بالحقد والقسوة والكفر بالقيم العليا للحياة الإنسانية فدمر كل شيء وكفر بكل شيء لأنه فارغ الفؤاد من العقائد السامية في الإنسان وفي الله خالق هذا الإنسان ومكرمه!

وكانت الفكرة التي تسلسل الحديث بها في هذا الموضوع إنما هي فرار بنفسي وعقائدها السامية في حياتي الشخصية وحياة النوع الذي انتسب إليه.

وعندما يطم طوفان الفساد لا تجد النفس عاصما منه إلا باللجوء إلى صخرة الإيمان بتلك القيم العليا التي تعمر الوجود، ولا تطمئن النفس إلى الحياة إلا إذا ظلت لهذه القيم قداستها وهيبتها. فإذا رأيت المدن والمعابد والشيوخ والأطفال والعجزة والمعاهد، وكل ما قامت عليه الحضارة الإنسانية من القداسات والحرمات تدكه يد الحرب المجنونة الفاجرة، ف العذر أن ألتمس لنفسي ولمن أشاء مكن الناس أفقاً أرى فيه تأويل هذه الظواهر الفاسدة والجرائم المنكرة كي أوفق بين عقائدي الدينية في إرادة الله بالناس الخير مهما بدا هذا الخير ملفوفاً بالشر، وبين سير الحياة بالأحياء. . . وإلا فقد عرضت نفسي لما تعرض له بعض من كتب إلى منذ حين يقول إن الحياة الإنسانية لغير غاية، وإن الله - تعالى - قد فاتت عليه الغاية من خلق هذا النوع فقد خلقهم لعبادته، فلم يعبده منهم إلا الأقل!

على إن كل ما ضاعف في الناس فعل الشر وسلبهم الاعتقاد في الخير هو ذلك اليأس من الخير، وذلك الاعتقاد بأن الشر هو الغالب على الطبع البشري، وذيوع هذا الاعتقاد في هؤلاء المحاربين المصريين، هو الذي جعلهم يحاربون بروح التدمير وعدم الإبقاء على شيء، وما دامت الحياة للشر فليخبطوا فيه خبط عشواء على نحو بيت المعري:

وبصير الأقوام مثل أعمى ... فهلموا في حِندسِ نتصادمْ!

أحد أمرين لا ثالث لهما: إما أن نؤمن بأن هذا النوع الإنساني يمكن الإقلال من شره، وإقامة حياته على مثل الدولة الإسلامية الأولى، أو على مثل دول سكان الشمال من أوربا الحالية، وعندئذ نجد في أنفسنا العزائم على الجهاد والصبر والكفاح في هذا السبيل حتى نصل أو نقارب بحسب الطاقة وبحسب قوانين الدنيا. . . وعندئذ يستمر سير الحضارة والإصلاح مطرداً ويظل الخير له دولة في الحياة كما أن للشر دولة، ولا ضير على العقائد أن يبقى من الشر بقايا ما دام الخير هو القانون الحبيب للنفس تلوذ به وتعتصم بعواصمه عند المواقف الفاصلة. . . وإما أن نكفر بهذا النوع ونهدر قيمه الخلقية، ونفقد آمالنا في انه مخلوق لغايات كريمة، ولا نستمع لوصايا الأديان القويمة بالبر وحسن الخلق والدعوة للخير والغضب على الشر، وعندئذ فلنخلع قناع المدنية عن وجوهنا وجوه الذئاب والخنازير والنمور، ولنفضح كل مواضعات النفاق الاجتماعي، ولنعلن بصراحة أن وصايا الأديان أخاديع أو أغلوطات عظيمة من عبقريات التاريخ الكاذب المدلس، وان الإنسانية يجب أن تتخذ لها فلسفات فردية لكل فرد في الامة، ولكل أمة في الأمم يرعى فيها الفرد مصلحته الخاصة، والأمة مصلحتها الذاتية، وتسعى كل أمة أن تكون أربى من غيرها، لأنه لا رحم ولا نسب بينها وبين غيرها، وإنما هي قطعان وحيوانات بشرية تسعى (لتعيش) في أضيق حيز، وهو حيز (الذاتية).

وأ ليست هذه الحياة التي وصفنا على هذا الفرض هي الحياة التي تحياها الأمم وتشقى بها كل أمة وتدمر كل حضارة؟! فإذا أردنا أن نفر منها، فلماذا لا نؤمن بفلسفة تناقضها وتحاربها؟! وهل هذه الفلسفة إلا أن 0نؤمن بالإنسانية الواحدة). وأنها مخلوقة لغايات عليا ليست هذا النزاع على الذهب الأصفر والذهب الأسود والفحم الأسود والفحم الأبيض) وإنما هي البحث عن كلمات الله في الطبيعة بحث طالب (العلم) لا طالب (الفائدة) المادية وحدها؟.

وأ ليست هذه الغاية لو تحققت جديرة بأن تشعر الناس جميعاً انهم نوع واحد غريب الوضع في هذا الكون! لأنه وحده يفتح أبواب الطبيعة باباً فبابا، ويتدرج في تسخير قواها درجة درجة حتى وضع يده في منابعها، وحطم أسوار (الذرة) التي هي وحدة بناء الكون المادي.

ذلك هو (الوضع الأصيل) للإنسانية الذي يجب أن يرصدها منه الراصدون ليعلموا أي كائن هذا الإنسان الذي يحملونه في أجسادهم ويبادلونه ما صح وما فسد من شأنه وشئونهم!

آما أن يرصده راصد في (ولد عاق)، أو (وحش الإسكندرية) أو سفاح باريس (الأخير أو غير أولئك من الثمرات الإنسانية المعطوبة الملوثة التي سقطت وتلوثت لضعف روابطها بفروع الشجرة الإنسانية، ثم يحكم عليه كله لذلك، فتلك نظرة جزئية لا تليق بمن يجعل عقله ميزان حكم على الكون ومرآة رصد لأعاجيبه التي لا تنفد في حرب الخير والشر، وعراك الصلاح والفساد، وصراع الموت والحياة، وقذف الحق على الباطل!

وأني اسأل أخي الطنطاوي: لماذا يفقد ثقته وإيمانه بالإنسانية لأجل مثل من العقوق يقابله أمثال من البر بالآباء؟ هل جميع الأبناء مثل هذا الابن العاق؟ ولماذا تألم قلبك من هذا المثل الشرير؟ أليس لأن قلبك ينكره؟ إذاً ففي قلوب الناس نوع خير ينكر الشر ويضربه مثلاً، وبكتبه قصة يشنع بها ويسمع بصاحبها، ويجد في قلوب الناس صدى لألم قلبه، لأن (البر لا يبلى). وما دام في الإنسانية خير وشر فلم نيأس منها ونزرى بقضيتها؟ لماذا نحرق الحقل كله لنتخلص من الزوان؟!

إن الأولى بنا أن نعتقد إن الإنسانية كحقل من النبات، الأصل فيه إن ينبت أكثره نباتا حسناً، ويؤتى أكله وثمره إذا تعهدناه بالسقي والرعاية والحراسة من الآفات والحشرات التي تعطيه وتفسده وتجعل أكثره ينبت نباتا سيئاً. ولا بد أن يكون فيه المعوج بالطبيعة ولكنه لا يكون الأكثر في العادة.

ولن يفقد الزارع أمله من الزرع إذا ما خانه حظه في موسم من المواسم فييأس ويقول: إن هذا النوع من الزرع ملعون! ولن ازرعه، إلا إذا كان أحمق.

ونحن الذين نعلم أن كل مولود يولد على الفطرة ثم تلحقه عوامل التربية والبيئة فيتكيف بها ينبغي لنا أن نتربص ونتوجه بكل جهود الإصلاح إلى قلوب الطفولة منطقة النمو الإنساني، ونجتهد أن تنبت نبتاً طيباً وعلى الله الباقي!

ذلك حديث اذكر به صديقي بقضية الإنسانية والإيمان بها، وآثار ذلك وضده من النواحي العملية والاجتماعية.

غير أن للقضية وضعاً آخر من الناحية الفلسفية قد لخصته في تلك العبارة التي لاشك رآها الصديق في كتابي عن القضية وهي:

(أومن بالإنسان لأومن بالكون ورب الكون؟ فلن يؤمن الفرد الإنساني بهما إن لم يؤمن بنوعه؛ لأن عقل الإنسان هو المنظار الذي ندركهما به، فإن أهدرنا قيمة الإنسان أهدرنا عقله، فلا يبقى ما ندرك به كوننا وربنا!! ويعيش أكثرنا كما يعيشون الان، تضطرب بهم مجهولات الكون ومعلوماته كغرقى طافين على أكف الأمواج، لا يعقلون شيئاً ولا يؤمنون بالكون والنفس ولا بربهما، وإنما يعيشون في ذهول وبلبلة وشك، ثم يمضون إلى ظلمات القبور).

تلك هي القضية وهي أشبه (بمعادلة رياضية) وهي عندي القضية الفكرية الأولى في الدين والعلم والفلسفة.

فهل تراني أخطأت؟

عبد المنعم خلاف