مجلة الرسالة/العدد 680/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 680 القصص المؤلف: غي دو موباسان المترجم: م. كمال جلبي |
مجنون Un fou هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1886. نشرت هذه الترجمة في العدد 680 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 15 يوليو 1946 |
مجنون!. . .
للقصصي الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأديب م. كمال جلبي
مات الرجل الفذ الذي اهتزت له مجالس القضاء الفرنسية قاطبة، وانحنت لموته رؤوس الحقوقيين وأعضاء مجالس الشورى انحناء احترام وخضوع لوجه الهزيل الذي كانت تضيئه نظراته الحادة.
كان عدو اللصوص والقتلة لأنه الوحيد الذي يقرا أفكارهم الرهيبة ويكتشف أسرار الجرائم التي ارتكبوها، فبنظرة واحدة إلى إحداهم يعرف أسراره المدفونة.
مات الرجل في الثانية والثمانين من العمر، فشيعت نعشه حسرات شعب كامل؛ وسار وراءه جنود الحكومة لابسين البناطيل الحمر؛ يتقدمهم أعاظم رجالات فرنسا ويندبه أصحاب الربطات البيضاء بدموع صادقة.
وقد وجدوا بعد موته في غرفته الخاصة التي تحوي أوراق كبار المجرمين مذكرات بعنوان (لماذا)
20حزيران سنة 1851:
انتهت جلسة اليوم بعد حكمي على بلوندل بالإعدام.
لم قتل هذا الرجل أولاده الخمسة؟ ولم تظهر علائم اللذة على هؤلاء إذا قضوا على غيرهم؟
نعم! نعم! يجب أن يكون القتل لذة، ولعلها تكون اعظم اللذات جميعها! أليس للموت شبه عظيم بالحياة؟
الحياة والموت!!
كلمتان تتألف منهما قصة المجتمع، نعم المجتمع كله؛ أي كل ما هو كامل؟ إذا لماذا يولع الإنسان بالقتل؟
25 حزيران: فكر في مخلوق حي، يسير وينظر ويضحك. . . مخلوق؟!
ما هو المخلوق؟
هو كائن يحيا بحركة نظامية، وبفكر ثاقب يدير تلك الحركة الكامنة فيه، ولا يشغل هذا الكائن فراغا لان رجليه اللتين يسير بهما لا تتعديان وجه الأرض. إذن فهو حبة حياة متحركة لا ادري مم تكونت! تبدو بسيطة كأحقر الأشياء وأتفهها كان لا قيمة لها مطلقا.
26حزيران:
لم يعد القتل جريمة؟ نعم لماذا؟
فقانون الطبيعة لا يعاقب القاتل، والقتل كما أرى فريضة على كل كائن: فانه يقتل طلبا لعيش رغيد؛ يقتل لأنه عرف لذة القتل؛ فالحيوان يقتل في كل لحظة من وجوده - والرجل لا ينقطع عن القتل، بل يقتل ليتغذى، ويرى في القتل ضرورة، لذلك رأى في الصيد لذة - وقد لا يشعر الطفل بالنشوة ألا إذا خنق صغار الحشرات وصغار العصافير التي تصل إليها يده؛ وكل هذا لا يطفئ شهوة القتل الملتهبة فيه.
لم يكفه الحيوان فعدا على رفيقه الإنسان. وقديما كانت القرابين البشرية تقدم للآلهة، فاستعيض عنها حديثا بالجرائم التي جعلت القتل جريمة يكافحها القانون بالإعدام أو بالسجن!
والحقيقة أننا لا بد أن نؤدي واجبنا نحو هذه الغريزة الطبيعية التي ينتج عنها الموت الوشيك. وكثيرا ما تخفف غلواؤنا عندما نرى أمم الأرض تتطاحن، ونسمع بشعوب تذبح أخرى، وتكون هناك مجازر دموية تهيم بها الجيوش؛ فترى أهالي المدن الثملين بخمرة النصر مع نسائهم وأولادهم يطالعون بانتباه على ضوء المصباح أخبار مجازرهم الفظيعة.
هل فكر أحد بان شعوب الأرض تكره تلك المذابح التي نسميها الحروب. أبدا! إذا فلم نثني عليهم بشتى أنواع الثناء، ونلبسهم الجوخ الثمين محلى بالذهب الوهاج، ونقلدهم أوسمة يحلون بها صدورهم، ثم نغدق عليهم ألقابا عظيمة فستصبح (مودة) النساء لهم مسخرة مع إرادة الشعوب عامة، أليس ذلك لأنهم مسخرون لقتل الإنسان؟ إذن فالقتل نظام أودعته الطبيعة صدر الإنسان ليصيب السعادة الدائمة والشرف الرفيع! القتل هو القانون، والطبيعة تحب الشباب الخالد، فتحث أبناء الحياة على ترك الحياة، وكلما أهلكت رطلا أحيت آخر مثله.
2تموز:
الكائن؟! ما هو الكائن؟
هو كل شيء، وهو لا شيء؛ فهو انعكاس الكون. وتصغير العالم، هو تاريخ، وشكله مرآة لأعماله، فكل مخلوق محيط في هذا العالم!
إرحل وابحث عن الأجيال ترى الكائن لا شيء. اصعد في زورق وابعد عن الشاطئ المزدحم بالمخلوقات فلا ترى شيئا بعد برهة، ومن هنا نستدل على حقارة الإنسان. اقطع أوربا بالقطار السريع وتطلع من بابه الصغير ترى رجالا لا يحصون مجهولين، يحرثون الحقول. . . ويتراكضون في الشوارع، وفلاحين بلهاء لا يعرفون سوى فلح الأرض مع نسائهم السمجات اللاتي لا يتقنّ سوى طبخ الحساء لرجالهن وأولادهن.
اذهب إلى الهند، إلى الصين، تجد الحال هي الحال: أناس يولدون ويشقون ثم يموتون دون أن يتركوا أثر نملة.
زر بلاد الزنوج الآوين إلى بيوت من الطوب؛ زر بلاد العرب البيض القابعين تحت خيامهم القاتمة المتموجة مع الرياح تر حقيقة المخلوق المنعزل الذي نعتناه بلا شيء
والعقلاء من البدو والحضر ينظرون إلى الموت نظرهم إلى المر الذي لا بد منه، فلا يكترثون له. والجريمة كذلك في نظر البدو الذين نشأوا وتأصلت في نفوسهم منذ نشأتهم فكرة الأخذ بالثار كأنها شيء طبيعي. أما أهل الحضر فلا يتأثرون بهذه الجرائم وان كانت أفكارهم لا تتعدى حدود اعتبارها أمرا طبيعيا لازما لإطفاء شهوة القتل، والقتل تنتقل عدواه من بيت لآخر ومن مقاطعة لأخرى.
تأمل في أشخاص العالم المجهولين!
المجهولين؟
وصلنا أساس البحث!؟
قلنا إن القتل جريمة لان القانون أحصى عدد المخلوقات
وسجلها وأطلق عليها أسماء عديدة، ثم قدّسها رجال الدين فإذا هي في حمى القانون يدفع عنها عدوان القتلة السفاكين؛ والمولود الذي لا يسجل لا يعترف القانون بوجوده
الطبيعة تحب الموت، ولا تعاقب القتلة؛ وهي نفسها تدافع عن الإنسان الذي جعله القانون سلعة في يده يفعل به ما يشاء، لأنه خول لنفسه الحق فيه، فتراه بعد مئات الألوف للحرب منتظرا أن يسقط أسمائهم من سجلاته. ولكننا نحن الضعفاء لا يمكننا تبديل أي اسم ولو من سكان الاقضية، بل الواجب علينا أيضاً احترام حياة الكائن، مع احترام سلطة الحكومة المدنية التي تملك الهياكل البلدية.
قف وادع الله يا ابن الطبيعة!
3تموز:
في القتل غرابة ولذة مقرونتان بالسرور؛ فإذا كان المخلوق الحي العامل تحت سلطتك وتمكنت من عمل جرح صغير واحد في جسده ووقفت ترى المادة اللزجة الحمراء تسيل أمام عينيك ثم يفقد ذلك الجسم الحياة، فلا ترى بعد أذن كتلة لحم لين، بارد عديم الحركة التفكير.
15آب:
لقد قضيت حياتي بالمحاكم، اعدم، وأميت، بكلام رقيق يخرج من فمي، وتنفذه المقصلة في الذين أماتوا بحد السكين، أنا! أنا! ماذا يكون مصيري إذا أصبحت أحد هؤلاء القتلة!؟ من يدري؟
15آب:
من يدري؟ لا أحد!
أيفكر امرؤ باني قاتل ولا سيما إذا انتقيت كائنا لا فائدة تعود علي من حذفه؟
17آب:
الشهوة، الشهوة، نعم، تملكتني شهوة القتل كالدودة حابية في جسمي وفي عقلي، إني متعطش إلى رؤية الدم وبجانبه الموت، حيث تسمع أذناي صوتا فضيعا يناديني، ويذكرني بآخر صرخة تخرج من المحتضر. لعل في القتل لذة، وخصوصا إذا كانت الضحية كائنا مطلق الحرية وأسعها يملك قلبه الهادئ الرزين بنفسه.
22آب:
لا يمكنني الصبر، قتلت حيوانا إطاعة لتلك النزعة الحمقاء التي تغالبني.
لخادمي (جان) عصفور في قفص ثمين ومعلق بنافذة الدار، وقد أرسلت خادمي ذات يوم لقضاء حاجة، وبعد أن ذهب أخذت العصفور الصغير في يدي فشعرت بجسمه الحار، وبنبضات قلبه المتفاوتة، ثم صعدت إلى غرفتي، وأخذت اضغط عليه شيئا فشيئا إلى أن أحسست بدقات فؤاده السريعة. لقد كان المنظر وحشيا مع فظاعته. كدت اخنقه. ولكن لا فائدة لأني لن أرى دمه يسيل، فأخذت المقص وجعلت رقبته ثلاث قطع؛ ففغر المسكين فاه، وأراد التخلص بكل ما أوتي من قوة، ولكن أنى له ذلك ويداي كالحديد تطوقان عنقه؟ لقد كان عملي يسترعي الدقة والانتباه، فكنت أعمل بتؤدة!!
الدم!. . . الدم!. . . ما أجمله!!
أحمر قان، صاف! لقد أردت أن أخضب به لساني، وفعلا كان ذلك! أن هذه الكمية القليلة لا تبعث النشوة، لكنها لذيذة! ضاق نطاق الوقت للتمتع بهذا المنظر؛ فقد حان حضور خادمي.
آه! لو كان بدل هذا العصفور ثور لكان أبهى وألذ.
يا له من شقي! لأني أصبحت كالقتلة: غسلت المقص بيدي، وحملت الجثة الهامدة إلى مثوى أعددته لها في الحديقة، ودفنتها تحت شجرة (فريز).
لا يمكن لأحد معرفة هذا المكان، وسآكل كل يوم حبة من هذه الشجرة الحمراء.
بكى خادمي عصفوره كثيرا بعد عودته، وظن انه طار من قفصه أيمكنه اتهامي!؟ لا. . . لا. . .!!
25آب:
الأمر بسيط: ذهبت للنزهة مرة في غابة (فيرن) لا أفكر في شيء مطلقا، وإذا ولد صغير يأكل خبزا عليه قليل من الزبدة على قارعة الطريق. وقف ليراني مارا بجانبه، وعندما اقتربت منه حياني قائلا:
- نهارك سعيد، يا سيدي الرئيس.
وهناك. . . طرأت علي فكرة (قتله) فرددت عليه: - أنت وحدك هنا يا ولدي؟
- نعم يا سيدي الرئيس.
- ألا يصحبك أحد من أقاربك أو أصدقاؤك في هذه الغابة العظيمة المقفرة؟
- أبدا يا سيدي الرئيس.
لقد عصفت في رأسي شهوة القتل وأثرت في نفسي كما تفعل الخمرة براس شاربها.
اقتربت منه ببط خوفا من أن يفر كما كان يخيّل ألي ّ. ضغطت على عنقه بعنف، فنظر ألي بعينين تحاكيان البحر عمقا والسماء صفاء و. . . لم اشعر طول عمري بمثل هذا الإحساس الغريب الذي سيطر عليّ. لقد أمسكت يديه الصغيرتين بساعديّ القويتين المفتولتين، بينما كان جسمه يتطاير في الهواء كما تتطاير ريشة الطير على سفود. ثم همت حركته ووقفت أنفاسه. وهنالك أحسست بتواثب دقات قلبي العنيفة؛ مسكين ذلك الصغير، لقد رميت جثته في حفرة وغطيتها ببعض الحشائش ثم عدت.
تناولت غدائي هادئ الأعصاب كأني لم آت شيء! لقد شعرت بخفة نفسي التي عادت فجددت شبابها الأول، وقضيت سهرة الليلة عند مدير الناحية. انهم وجدوني سريع النكتة، خفيف الروح في تلك الليلة، ولكني لم أر الدم، لذلك لم أك مطمئنا تمام الاطمئنان.
30آب:
عثروا على الجثة، والسعي جار لمعرفة القاتل؛ أنا مطمئن فلم يرفع الستار عن المجرم.
أول أيلول:
أوقف قاضي التحقيق رجلين من عابري السبيل كانا يجوبان تلك الناحية، وقد أخلى سبيلهما لان الأدلة غير كافية أدانتهما.
2ايلول:
بكى أهل الطفل أمامي متضرعين!! ألا ما أعذب قولهم!
6تشرين أول:
إن شهوة القتل تمتلكني وهي متأصلة في عروقي، تجري مع دمي، وهذا ما يدفعني إلى القتل كابن العشرين عندما يتيمه الحب.
20تشرين أول:
جريمة أخرى:
ذهبت بعد الغداء ناحية النهر أتريض، وهناك رأيت صيادا نائما تحت شجرة حور، وكان الوقت ظهرا. تطلعت حولي فإذا بمعول في أرض مجاورة مزروعة بطاطس، فأخذت المعول، ثم عدت أدراجي إلى الصياد، فرفعته بين يدي كالهراوة وضربته ضربة واحدة بحد ذلك المعول قطعت رأسه. تدفق الدم الوردي الخداع بغزارة، وانحدر إلى ماء النهر الجاري!
عدت أدراجي بخطوات مريبة، آه،. . .! لو شاهدوني لعرفوا فيّ قاتلا وحشيا مريعا.
25تشرين أول:
أحدث مقتل الصياد ضجة عظيمة بين الآهلين وفي الدوائر؛ واتهم في ذلك ابن أخي المقتول لأنه كان يصطاد معه.
26تشرين أول:
رأى قاضي التحقيق أن ابن الأخ مجرم وكل من في البلدة يعتقد ذلك، مسكين ذلك الحمل!!؟
27تشرين أول:
دافع الصبي عن نفسه دفاعا ضعيفا، لقد حلف أيمانا مغلظة بان عمه قتل أثناء غيابه، وهو في البلد يشتري خبزا وجبنا.
ولكن من يصدقه؟
15تشرين الثاني:
بالموت! بالموت! بالموت!
حكمت على الطفل البريء! وقد احسن المدعي العام فكان ينطق كالملاك، وذكر الأسباب التي دعت إلى إدانة الطفل، وهو انه وريث عمه الوحيد.
لقد رأست جميع جلسات محاكمته وسأذهب لأرى مصرعه.
18آذار سنة 1852: انتهى كل شيء هذا الصباح. مات الطفل بسرور وبشجاعة مما زاد في ابتهاجي! ما أروع رأسه المتطاير، وما ألذ دمه المتدفق كالسيل! نعم كالسيل! آه لو مكنوني من الاستحمام فيه والاستلقاء عليه حيث اشعر بسريانه في شعري وعلى وجهي، وأقوم بعدها بالأحمر القاني.
ما أفضع الحقيقة لو عرفوها!
والآن أستطيع أن انتظر وان اسهر الليالي لا يثير دهشتي أحد، ولا يعكر صفوي معكر. . .
لم تنته المذكرات بعد. وهي تحوي عدة صفحات أخرى بدون جريمة جديدة. واقر الأطباء الذين كلفوا بدرس المذكرات بان هذا الضرب من المرض العقلي هو اقل أثرا لما نفكر في عصرنا المادي الذي زاد فيه السقوط الأخلاقي والجنون العصبي
(حلب)
م. كمال جلبي