مجلة الرسالة/العدد 68/نبتون
→ عصران في دار | مجلة الرسالة - العدد 68 نبتون [[مؤلف:|]] |
الشخصية ← |
بتاريخ: 22 - 10 - 1934 |
للأستاذ راشد رستم
في ناحية من نواحي الحديقة المنسقة الواسعة، أنشأوا بحيرة صغيرة صافية، وحول هذه البحيرة الساكنة قامت الأشجار عظيمة السيقان، كثيرة الأغصان - تباعدت في الأرض جذوعها، والتقت في السماء فروعها - دوحة خضراء، نادرة المثال في هذا النوع من التنسيق والجمال، اتخذت منها الأطيار الوديعة أراجيحها اللينة، وأقامت فيها أعشاشها الآمنة.
وفي وسط هذه البحيرة الصغيرة أقاموا تمثالاً كبيراً لأله البحر الأعظم: نبتون بن زحل. . .
أقاموه في هذا المكان الهادئ، واقفاً يحمل في يمناه صولجانه مثلث الأسنان، ويمد يسراه في اطمئنان مشيراً إلى الماء الخاضع في هدوء عند قدميه، وكأنه يقول: هذا ملكي، هذا عرشي!
أي نبتون! مزعزع ركن الثرى
ما كنا لنجهل ملكك، أو نسلبك عرشك.
رمز لظلمات ذلك الخيال المضطرب لما رآك أجدادنا المتقدمون؛ ولذلك الرعب الآخذ بنفوسهم لما تركوك إلى برهم؛ ولذلك التعدي، وقد جهلوه منك، عندما حاولت أن تصل إليهم بمدك؛ ولذلك الفشل، وقد تمنوه لك، لما عدت عنهم خائباً بجزرك.
على أنك لا تزال تطغى ولا ترحم، وستهشم ما تصل إليه يدك في غدك، كما كنت تفعل في أمسك، وإن كنت تحوي الدر، وتؤدي خيراً، فإنك لا تدري إن هذا خير وذاك در.
إن هذه البحيرة الصغيرة الهادئة لا تستحق من أهل السلام وأهل الجمال، أن تقوم أنت وسطها على جزيرة لا تكاد تفي بموطئ قدميك، تقوم فيها بثقيل هيئتك، وكالح وجهك وخشن شكلك. وهنالك في المحيط الواسع جزائر عظمى، خذها مسكناً وصقيلاً، فعندها تجد لخشونتك مجالاً، ولوحشيتك ميداناً، وهنالك حيث أهلها وسكانها أقرب طباعاً لما يرضيك، فتتخذهم أعواناً أو عبيداً أو خلقاً جديداً، تسخرهم فيما تشاء من إغراق وإغداق، وتراهم يرتاحون لجوارك ويحافظون على سلطانك، وهم يرون في عتوك وجبروتك حماهم الذي لولاه لكانوا في الأرض أغناماً لسباعها، أو أسلاباً لناسها.
أيْ نبتون!
تضيع بهجة هذا المكان، وتذهب وداعة هذه البحيرة، مادمت قائماً فيها برمزك هذا الخشن.
وكأني بصاحب المكان فظاً غليظ الفؤاد، إذ يجعل جباراً يداعب ضعيف الجناب! أي ضعف في الذوق! وأي خشونة في الطباع أشد من أن يقيم المنسق رمزاً للخشونة الواضحة، والقسوة المتجددة، في المكان الساكن، ذي الروح الوديعة، والجو الهادئ. . .
كأني بهذا المنسق، وقد أقامك بين هدوء المكان وبهجته، بل وقد حبسك في هذا القفص الرطب. كأني به يستهزئ من قوتك، ويستنزل من شأنك، فيقيم الرمز الثقيل في بحيرة صغيرة، تكاد تكون نقطة في بحرك.
أم أن هذا المنسق حكيم بصير! أراد تغليب صفاتك القاسية على ميزات المكان اللينة، فيقول للناس بذلك، وهم وقوف عند البحيرة المسكينة المستسلمة - يقول: أحقاً أيها الناس أرباب العواطف، أحقاً تشعرون بجمال هذا المكان ووداعته، وهاهو ذا تمثال طاغية يذكركم بأمواج كالجبال، وطباع كالبحار، ودخيلة لا أمان لها؟ أتظنون أن طائر الرحمة والرضا، يأوي إلى القلوب، وهو يرى رمز القسوة والحماقة قائماً ماثلاً؟
أتظنون أيها الفنانون أن في هذا العالم جمالاً صافياً خالياً؟ جمالاً للجمال. . .
لا أدري حقيقة ما يقصد صاحب المكان، ولكن خطأ يا سادة أن تقيموا هذا الرمز الخشن في هذه الطبيعة الناعمة. إن من جمال النفس أن تجمع بين الماء والخضرة (والتمثال) الحسن.
وإن الذي يأتي إلى هذا المكان الهادئ، لا يقيم قليلاً حتى يمسه تيار قاتم من روح هذا الجبار العتيق. يشعر وسط هذا النعيم الأخضر بلفحات من جحيم الحياة القاسية.
فيا حراس المكان وحفظة السلام، ويا أهل الجمال، أزيلوا هذا الرمز الخشن، وردوه إلى حيث تتناسق صفاته وقسوة الطبيعة فتكونون قد صنعتم جميلاً، وأرضيتم أهل الخيال وأهل الحقيقة.
(حديقة انطونيادس)
إسكندرية راشد رستم