مجلة الرسالة/العدد 679/بين الإلهام والحكمة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 679 بين الإلهام والحكمة [[مؤلف:|]] |
من صميم الحياة ← |
بتاريخ: 08 - 07 - 1946 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
نقلنا عن الجماعة الإسلامية في لاهور أنهم يعدون حضرة مرزا غلام أحمد القادياني مجدد القرن الرابع عشر، ويثبتون أنه ما ادعى النبوة قط كما قال بكلامه: (إنني لا أدعي النبوة وكل ما أدعيه أنني محدث، وأن معنى المحدث هو الذي يسمع كلام الله. كلا. ما أنا مدع للنبوة، وما مدعي النبوة عندي إلا خارج على الدين، وإنما يكذب علي الذين يحسبونني من أولئك المدعين).
وقد شاءت المطبعة أن تضبط (المحدث) بكسر الدال، ولا أدري كيف وقع ذلك، لأن الكلمة التي تليها تفسرها وتمنع أن تكون على صيغة أسم الفاعل، إذ كان الذي يسمع كلام الله هو المحدث بصيغة أسم المفعول. وإنما المحدث هو الذي يتكلم وليس هو الذي يسمع الكلام.
ولهذا أصاب الأستاذ (السهمي) حين ردها إلى التطبيع، وأشار إلى تفسير المحدث فقال: (جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون، والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به - حدسا وفراسة، وهو نوع يختص به الله من عباده الذين اصطفى مثل عمر، كأنهم حدثوا بشيء فقالوا. . .)
ولكن المسألة كبرت بعد ذلك، لأن المراد أن يكون هناك خطأ ينسب إلى العقاد على ما يظهر. فكتب الأستاذ الطنطاوي يقول (إن السهمي لم يصحح الخطأ في تفسير العقاد. . . فقد ذكر أن المحدث هو الذي يسمع كلام الله. مع أن الذي قالوه في المحدث أنه الملهم. . .)
ثم كبرت مرة أخرى فقال كاتب بتوقيع منصف يخاطب الأستاذ الطنطاوي: (لو أعاد الأستاذ الطنطاوي قراءة ما كتبه السهمي لوجده قد صحح الكلمة وتفسيرها بما نقله عن كتاب النهاية لابن الأثير. . .)
فعجبت لهذا التصحيح في غير موضع للتصحيح.
وعجبت لتسمية هذا التصحيح تصحيحا لتفسيري أنا، مع أنني أروي عن القادياني فيما أقول.
فتصحيح التفسير كلمتان اثنتان ليس فيهما حرف واحد صحيح؛ لأنه لا تفسير لي أولا في تلك الكلمة المنقولة، ولأنه لا تصحيح هناك ولا موجب للتصحيح على وجه من الوجوه.
ولماذا يخطئ الذي يقول إن المحدث بفتح الدال هو الذي يسمع كلام الله؟
إن المحدث لغة هو الذي تتحدث إليه، وليس هذا هو المعنى المقصود بالكلمة في الحديث المنسوب إلى النبي عليه السلام، إذ لو كان هذا هو المعنى المقصود بها لكان كل إنسان من خلق الله محدثا بغير استثناء. ولم يكن ذلك شأن عمر بن الخطاب وحده أو شأن أمثاله من الملهمين. فما من أحد إلا وقد تحدث إليه أحد فهو محدث بهذا المعنى (اللغوي) الذي لا تمييز فيه.
فالمحدث المقصود إذن هو الذي يستمع حديثا من غير الناس أو يستمع حديثا من عالم الغيب. وكل حديثا من عالم الغيب فهو إما حديث من وحي الله وملائكته أو حديث من وحي إبليس وشياطينه. ولا تحتمل الكلمة معنى غير هذين المعنيين، بل لا تحتمل إلا معنى واحدا حين يكون الموصوف رجلا من القديسين وطلاب القداسة، وهو الاستماع إلى وحي الله، أو تلقي الإلهام من الله، ولا فرق بين القول بهذا أو القول بذاك.
فأين هو التصحيح إذن في التفسير كائنا من كان صاحب الكلام المفسر؟
ولماذا قال النبي عليه السلام (محدث) ولم يقل (ملهم) إذا كان من الخطأ أن نقول إن المحدث هو الذي يتلقى الحديث من عالم الغيب!
على أنني لم أنسى الإلهام في المقال نفسه لأنني ختمته بتلخيص كلام القادياني حيث يقول: (إن الإلهام درجات تبدأ بالحدس الصادق وتنتهي بعين اليقين وهو أعلى مراتب الملهمين، وأنه من الخطأ أن نخلط بين الإلهام الفني والإلهام الديني، لأن الإلهام الفني قد يكون في الشر كما يكون في الخير، وقد يقال إن اللص وهو يحاول سرقة المكان سنحت له خاطرة ملهمة - لتيسير السرقة ثم لتيسير الهرب من الحراس، وليس هذا من الإلهام الرباني في شيء، وإنما يكون إلهام الله في سبيل الحقائق العليا والكشف عن الأسرار الروحية، والنفاذ إلى لباب الخلق وبواطن الحكمة الإلهية، وهذه منزلة يرتقي إليها طلاب الوصول إلى الله، ومنهم ميرزا أحمد القادياني في رأيه وآراء مريديه؟)
فإذا كانت مادة (حدث) لا تقبل تفسيرا في المصطلح المقصود غير سماع الحديث من عالم الغيب، وكان الإلهام من المعاني التي ذكرناها في هذا السياق، فأين موضع التصحيح، وأين موضع التنبيه مرة بعد مرة إلى التصحيح؟ وهل حصل أو لم يحصل ولا يزال في حاجة إلى تحصيل؟
إن (المحدث) بفتح الدال لا تحتمل معنى واحدا حين يوصف بها الرجل الصالح غير سماع الحديث من وحي الله، وإنما الإلهام هو تفسير لهذا الحديث وليس هو بالتصحيح، - فليس الإلهام إلا أن تتلقى إشارة من الله أو من عالم الغيب، ومتى كانت - المادة مادة (الحديث) فالإشارة المقصودة هي الحديث أو ما فيه معنى الحديث، وإلا لكانت التخطئة لاستخدام الكلمة في هذا الموضع وليست للتفسير والتوضيح.
ومن طرائف هذه التصحيحات (تصحيحه) أخرى وقعنا عليها في رسالة عن (عبد الله فكري) للأستاذ محمد عبد الغني حسن وصلت إلي منذ أسابيع.
فنحن نعتقد أن عبد الله فكري باشا رحمه الله كان من أنبغ كتاب الدواوين في عصره، وقد كتبنا عن هذه المدرسة في مقالاتنا عن شعراء القرن التاسع عشر، فقلنا إن أشياع تلك المدرسة كانوا في تلك الفترة كثيرين ثم قلنا: (إن الذين بلغوا منهم جهارة الشأن قليلون ونريد جهارة الشأن في المنصب كما نريدها في الأدب، فإن قليلا من الديوانيين من ضارع عبد الله باشا فكري في صحة اللغة، وبراعة التركيب، وسلامة الفهم والتفكير)
أما الشعر فرأينا في الرجل أنه لم يكن من كبار الشعراء و (أن قصائده في الحكمة هي ألصق بوصايا المتأخرين ونصائحهم منها بالحكم المطبوعة التي كانت تتخلل قصائد الشعراء عفوا في أدب الجاهلية والخضرمة وفحول القرن الثالث والقرن الرابع. فهي بكلام المعلمين أشبه منها بكلام الشعراء، وبوصايا الآباء المحنكين أشبه منها بالخبرة المطبوعة التي تعبر عنها قرائح أهل الفنون، ومن ذلك قصيدته الرائية التي يقول فيها:
إذا نام غر في دجى الليل ... فاسهر وقم للمعالي والعوالي وشمر
ثم قلنا: (فهذه وأشباهها نصائح معلم وليست وحي شاعر، ولا نعرف بين كبار الشعراء في العالم كله واحدا صرف إليها شعره وجعلها من أغراض فنه)
وهذا كلام في رأي الأستاذ عبد الغني يحتاج إلى تصحيح لأنه لم يفهمه ولم يحاول فهمه، بل حاول تصحيحه ليكون من المصححين ولا يكون من الفاهمين.
فهو (أولا) يسأل مستهولا: (ما دخل كبار الشعراء في العالم كله في ميدان هو بشعراء العربية أشبه؟) ثم يقول (لقد نظم كثير من شعراء العربية مثل هذه القصيدة الفكرية في عصور مختلفة فما حط من شاعريتهم. ولقد أوردت أبياتا من قصيدة ابن سعيد المغربي تزكية لقضية أرى من الحق أن أدافع عنها. فإذا احتج محتج أن المغربي من شعراء العصور المتأخرة نسبيا، فإن الجواب عندنا حاضر عتيد، وهو أن بشاراً بن برد من شعراء القرن الثاني ترك لنا أبياتا في المواعظ والحكم فيها كثير من وحي الشاعر).
وهو (ثانيا) يقول ليصحح لا ليفهم (إن الحكمة سواء لبست ثوب النصيحة والموعظة أو ثوب الحكمة المطبوعة ليس من الضروري أن تكون وحيا شعريا. ولقد فرق النقاد قديما بين الشاعر والحكيم حتى قالوا إن المتنبي وأبا تمام حكيمان والشاعر البحتري. فالمقابلة بين نصائح المعلم ووحي الشاعر هي مقابلة في غير موضعها ولا بابها. وقد يكون المعترض على حق لو أنه قابل بين نصائح المعلم وحكمة الحكيم).
هكذا قلنا مصحّحين بفتح الحاء.
وهكذا قال السيد عبد الغني بكسر الحاء.
ويؤخذ من هذا وذاك بالبداهة أن التصحيح أيسر من الفهم الصحيح بكثير، وأن السيد عبد الغني يفضل (أن يصحح) على (أن يفهم) ولا جناح عليه في تفضيلاته وتصحيحاته، لأن الإنسان معذور في هذه الدنيا إذا هو عدل عن جانب العناء إلى جانب الرخاء.
ومن ثم وجب عليه أن يصحح بكسر الحاء ووجب علينا أن نصحح بفتح الحاء لأنه لا شأن لكبار الشعراء في الدنيا بتحقيق الملكة الشعرية وتمحيص الآداب العربية؛ فإن كبار الشعراء شيء، والآداب الشعرية شيء آخر لا يتصل به، ولا يستدل به عليه.
ووجب عليه أن يصحح بكسر الحاء، ووجب علينا أن نصحح بفتح الحاء إذا أنكرنا على أحد أن يكون شاعرا مطبوعا في أغراض الحكمة، بعد أن قال بشار بن برد في تلك الأغراض ما قال:
ووجب عليه أن يصحح بكسر الحاء، ووجب علينا أن نصحح بفتح الحاء إذا قلنا إن الملكة الشعرية غير المنظومات الحكمية ولم نقل إن التعليم غير حكمة الحكيم.
وقياسا على ذلك قد أصبحنا مصححين ناجحين، فنقول وعلى الله القبول: إن أشعر الشعراء طرا وأحكم الحكماء شعرا هو السيد أبو الفتح علي بن محمد البستي حيث قال:
زيادة المرء في دنياه نقصان ... وربحه غير محض الخير فقدان أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان إحسان
أقبل على النفس واستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
وحيث قال:
الدهر خداعة خلوب ... وصفوه بالقذى مشوب
وأكثر الناس فاعتزلهم ... قوالب ما لها قلوب
فلا تغرنَّك الليالي ... وبرقها الخلب الكذوب
ففي قفا أمنها كروب ... وفي حشا سلمها حروب
وأنه كان ينثر في الحكمة كما ينظم فلا تعوزه القافية ولا التحسين وإن أعوزته التفاعيل والموازين. ومن ذاك أنه قال: (حد العفاف الرضى بالكفاف) وأنه قال: (من سعادة جدك وقوفك عند حدك) وأنه قال (المنية تضحك من الأمنية). وأنه قال: (من أصلح فاسده أرغم حاسده) وأنه قال: (إذا بقى ما قاتك فلا تأس على ما فاتك) فلا جرم كان أشعر الشعراء وأحكم الحكماء، وحق له أن يقول في شمم وإباء وعزة وخيلاء:
يقولون ذكر المرء يحيى بنسله ... وليس له ذكر إذا لم يكن نسل
فقلت لهم نسلي بدائع حكمتي ... فإن فاتنا نسل فإنا بها نسلو
نعم وأصبحنا مصححين ناجحين غير فاهمين ولا متفهمين، لأننا رجعنا إلى الفوائد الفكرية، فوجدنا فيها هذه النصائح الحكمية: (وينبغي للولد أن لا يدخل المحل الذي تكون أمه واضعة فيه المأكولات مثل العسل والسمن والفاكهة وغير ذلك إلا بإذنها، ولا يمد يده لشيء يرفعه من مكانه إلا بعلمها، فأنه يتعب والدته المشفقة اللينة القلب عندما تطلب ذلك الشيء ولا تجده. فليحذر غاية الحذر من كل ما يؤدي إلى تعبها وتغير قلبها)
فلما رجعنا إلى الفوائد الفكرية ووجدنا فيها هذه النصائح الحكمية، قلنا هي ملكة شعرية لا تعوزها غير الأوزان العروضية لأنها تنظم في اللغة العربية، ولا تنظم بالإفرنجية في اللغات الأجنبية، وكله عند العرب صابون، كما يقول المصححون الذين يصححون ولا يفهمون، بل كل قول مليح، إذا عجز الإنسان عن الفهم وقدر على التصحيح.
عباس محمود العقاد