الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 677/الشاعران المتشابهان

مجلة الرسالة/العدد 677/الشاعران المتشابهان

بتاريخ: 24 - 06 - 1946


الشابي (التونسي) والتجاني (السوداني)

للأستاذ أبي القاسم محمد بدري

الشابي:

انحدر أبو القاسم الشابي من أسرة عريقة ذات مجد ودين، قبيلته الشابية، وبلدته توزر عاصمة الواحات التونسية. شدا طرفا من علوم الشريعة الإسلامية كالفقه والتوحيد والأصول، واخذ نصيباً من الثقافة العربية كالنحو والصرف والبيان والأدب. درس ذلك على الأساليب العتيقة، من متن وشرح وحاشية. وفاز بشهادة (التطويع) في جامع الزيتونة ثم التحق بمدرسة الحقوق، وحصل على إجازة الحقوق. ثم أصيب بداء الصدر الذي صده عن إتمام دراسته؛ فانقطع عن العلم والتفت إلى معالجة المرض العضال الذي ظل معه يغاديه ويراوحه، حتى اخترم حياته في ربيع شبابه.

التجاني:

أما التجاني يوسف بشير فهو شاب ينتمي إلى أسرة من كرائم الأسر السودانية سليلة أعرق القبائل العربية. تلقى تعليمه في المعهد العلمي بأم درمان. فاستلقى من نبعه الصافي علماً واسعاً وأدباً رائعاً، وأعانه ذوق مرهف وذكاء وقاد على فهم الحقائق العلمية، وتمييز الدقائق البيانية والاشتغال بها نع العلوم الدينية في زمن سادت معهده فيه أساليب التعليم العتيقة التي لم تعن بفن الأدب عنايتها بعلوم الدين. وأصيب أيضاً بداء الصدر العضال الذي غالبه حقبة من الزمن، ثم صرعه المرض وهو في سن باكرة نضج فيها إنتاجه، وبلغ ذروة الإتقان وموضع الافتنان. وافاه الأجل المحتوم وهو ناضر الصبا ريان الشباب في مقتبل حياته الأدبية، ومفتتح عبقريته الشعرية؛ وأمته وأسرته أحوج ما تكونان إليه، لأعواز العوض عنه وعظم الفجيعة فيه.

وجه الشبه في حياتهما:

نشا في بيئة دينية محافظة ونهلا من فيض الثقافة العربية الإسلامية العربية، ثم تأثراً بالأدب الغربي في قراءة الكتب المترجمة لأن كليهما لم يدرس لغة أجنبية وقد اتفق أن نظرتهما للحياة كانت متقاربة التقارب كله؛ وليس هذا يحدث إلا في النادر القليل. رغب كلاهما عن الحياة العابثة الماجنة، ونزعا نزعة التصوف والزهد وسخطا على عيشهما، وتبر ما بقومها، وتشاءما من حياتهما تشاؤماً، مبعثه حب الإصلاح وانتقاد ما يريان من أحوال وأعمال. وأودعا كل ذلك في شعر رائع زاخر يجيش ثورة واضطراما على التقاليد، ويفيض ناقماً على المنازعات والحزبيات، ثم يتدفق عذوبة ويتفجر إخلاصاً وحماسة في معالجة المشكلات وتقوية الأواصر والصلات بين المواطنين المخلصين وأبناء العروبة الغر الميامين.

وتشابها أيضاً في العلة فقد أصطلح عليهما داء الصدر الذي عاق نموها الجسمي وتقدمهما العقلي في العمل والتفكير؛ فماتا في عنفوان الشباب عندما تفتقت زهرتاهما عن أكمامها عبقتين فواحتين بأريج النضج والاكتمال، وشذى الإنتاج والإبداع. ومن غريب مصادفة القدر أن فقدهما حدث في زمنين متقاربين. مات الفقيدان طيب الله ثراهما وأخلد ذكراهما - بعد أن اقتطفا من متاع الحياة خمسة وعشرين ربيعاُ لم ينعما فيها بأطايب العيش ولذائذ الحياة، ولم يستكملا فيها مراحل تطورهما في النظم والتصوير، وابتكار النماذج العالية الخالدة في الأدب الشرقي والشعر العربي المستقى من الفن الغربي والمذهب الواقعي.

المشابهة في طريق النظم والتعبير:

من الواضح أن الشعر عمل فني يقوم على أشياء لا على شيء واحد. فلا بد له من الصورة الفنية والموسيقى الجميلة والخيال البارع. ومعلوم أن المقصود بالمشابهة في النظم والتصوير هو الشبه بينهما في لغة الشعر.

فما هي لغة الشعر إذن؟ هي أداة يستخدمها الشاعر في فنه قوامها الألفاظ والكلمات التي لا تخرج كثيراً عما يتحدث به الناس ويكتبونه به. وبهذه الأداة المألوفة يستطيع الشاعر أن يخرج فنا يفوق جميع الفنون.

وبما أن الشعر الصحيح ينبعث دائما من إحساس قوي ممتاز، فالشاعر ملزم حينئذ أن يتخذ للتعبير عنه لغة خاصة متجانسة مع هذا الإحساس. فليس المعنى وحده هو الذي يؤثر في النفوس؛ بل إن الألفاظ - التي هي منه بمثابة الجسد من الروح لها تأثيرها الخاص. ففي الشعر الرصين ينبغي للفظ: أولا: أن يتجانس مع المعنى فيكون رقيقا في مواضع الرقة، قويا عنيفا في مواضع العنف والقوة.

ثانيا: أن يكون اللفظ على قدر المعنى، فلا يكون هناك حشو ولا زيادة، ولا قصور في الدلالة على المعنى.

إذا أنعمنا النظر في شعر هذين الشاعرين نجد المشابهة قوية أخاذة ذات سحر وجلال ينفذان إلى شغاف القلوب ويؤثران في طوايا النفوس. قال الشابي يصف الجنة الضائعة: -

كم من عهود عذبة في عدوة الوادي النضير

كانت ارق من النسيم ومن أغاريد الطيور

والذ من سحر الصبا في بسمة الطفل الغرير

أيام كانت للحياة حلاوة الروض المطير

وطهارة الموج الجميل وسحر شاطئه المنير

ووداعة العصفور بين جداول الماء النمير

ففي الأبيات المتقدمات يسكب الشاعر ذوب نفسه وعصارة فكره؛ وهو يتشوف إلى العهود العذبة التي قضاها في الوادي النضير؛ ويتحسر على ضياعها، لأنها كانت تسمو على كل لذة من لذائذ الوجود وتفوق كل متاع من متع الحياة. ألم يقل إنها ارق من النسيم ومن أغاريد الطيور، والذ وأمتع للنفس من سحر الصبا وبسمة الطفل الغرير. وهل يوجد في الوجود شيء يعدل هاتين اللذتين في العذوبة والطهارة والوداعة والجمال.

ألا تسمع إلى رنين جرس العبارات وحلاوة الألفاظ والتعبيرات في الكلمات التالية. - سحر الصبا - بسمة الطفل - طهارة الموج - وداعة العصفور. أن الألفاظ فيها تجانس للمعنى وفيها رقة تسيل على القرطاس وتتفجر عن أنبل عاطفة واحساس. ثم إن اللفظ على قدر المعنى فلا حشو ولا زيادة مع اقتدار فيه على تأدية المعنى أداء بليغا مؤثرا.

ولنستمع إلى صاحبة التجاني يوسف بشير يناجي النيل في وقفة له شاعرية سمت بروحه إلى أعلى عليين حيث فاضت على السامعين من نبعها الصافي هذه الأبيات الخالدات في قصيدته (في محراب النيل). -

أنت يا نيل يا سليل الفراديس نبيل موقف في مسابك ملء اوفاضك الجلال فمرحى بالجلال المفيض من انسابك

حضنتك الأملاك في جنة الخلد ورفت على وضيء عبابك

وأمدت عليك أجنحة خضراً وأصفت ثيابها رحابك

ألي أن قال واصفاً مسير المياه.

يتوثبن في الضفاف خفافاً ثم يركضن في ممر شعابك

عجب أنت صاعداً بمراقيك لعمري أو هابطاً في اصبابك

اختار الشاعر النابغة احسن الألفاظ وقعاً في النفس وإثارة للعواطف، مما يناسب المعنى الذي تصدى لتوضيحيه وبيانه.

ألا تسمع إلى هذه الكلمات - نبيل موفق في مسابك، ثم المفيض من انسابك - ثم إلى يتوثبن - ثم إلى كلمتي خفافاً (ويركضن).

أنها ألفاظ تدعو إلى الفكر كل المعاني الجميلة التي تدانيه أو تمت إليه بسبب. فكلمة يتوثبن ترسم للذهن في أوضح صورة منظر الماء المنساب فوق الضفاف في سرعة وقوة حيث يغمر سطح الأرض ويفيض على روابيها العالية، ثم ينحسر عنها جاريا إلى المنخفضات والوديان، وهذا يتمثل في عبارة (يركضن في ممر شعابك) في قوة ووضوح. وكلمة أجنحة خضراً تدعو إلى ذهن السامع كل المعني الجميلة التي تلابسها، فيستعرض الذهن منظر الخضرة اليانعة والظل الوارف، والطير الصادح، وكل ما هو جميل مؤثر.

تصوير المرئيات والمناظر الطبيعية:

يقل في شعر هذين المفلقين وصف المرئيات - أو بعبارة أخرى رسم الصور لما يريان من الأشياء. بينما يزخر شعرهما بنفثات الصدور وخلجات النفوس، ومظاهر تأثيرهما بالأحداث والنكبات، واستهجانهما للتقاليد والعادات وتصويرهما الحقائق التي امتزج بها الخيال ولونتها العاطفة. ولكل هذه الموضوعات اثر في نفسيهما الثائرين، حيث يشتد الألم البالغ ويطغي الهيجان الفوار ويغلي الدم الحار، فتنطلق من الشفاه، همسة محزونة أو صرخة مدوية أو نفثة قوية تذهب في الناس مثلا سائراً وقولا مأثوراً أبقي على الزمن من الزمن.

افتن شاعرنا التجاني بمنظر الطبيعة الساحرة لما رأى جزيرة (توتي) تستيقظ في غلس الليل الدابر وتستقبل الصبح السافر كأنها روضة مفتنة حفها النيل وحتواها البر ففاح شذى زهورها وشدت على الأغصان طيورها، فطرب الشاعر وسكر، وعبر عن هذا الإحساس بلغة خيالها قوى ونغمها شجي، ومعانيها ساحرة. استمع إليه يقول: -

يا درة حفها النيل واحتواها البر

صحا الدجى وتغشاك في الأسرة فجر

كم ذا تمازج فن على يديك وسحر

يخور ثور وتثغو شاة وتنهق حمر

والبهم تمرح والزرع مونق مخضر

إلى إن قال: -

وذاب في الرمل أو ماج في الترائب تبر

هذا شراع مكر، وذا شراع مفر

يطوي وينشر الريح من هناك تسر

وزورق يتهادى وزورق يستحر

يرسي ويقلع والشاطئ هادئ مستقر

ورب قنواء للعصم والانوق مقر

أوفى على النيل فرع منها واشرف جزر

أتريد بعد هذا البيان بياناً يصور فيه الشاعر العبقري منظر الطبيعة الساحرة ويعطي صور كاملة العناصر موصولة الأواصر تنتقل فيها من خاطر إلى خاطر حتى تستوعب كل المعاني التي تكمل بها الصورة للناظر في أبيات هي السحر الساحر. ولقد أبدع التجاني أيما إبداع في رسم صورته؛ وفاق فيها المصور الماهر الذي يعمل في دائرة ضيقة حينما يرسم على لوحته حالة من حالات النفس أو صورة من صور الحس. على حين إن دائرة التجاني ارحب واوسع، لانه يستكمل تصوير منظره في أبيات متعددة إن عجز عن تعبيرها في بيت أو بيتين.

ولنستمع ألان إلى قصيدة مشابهة من قصائد الشابي التي يصور فيها صورة واضحة لما يحس من أشعة الوجود وألوان الطبيعة وعبر الحياة. يقول مخاطبا الحياة التي يريدها لشعبة في قصيدته (إرادة الحياة): -

وقال لي الغاب في رقة محجبة مثل خفق الوتر

يحل الشتاء: شتاء الضياء، شتاء الثلوج، شتاء المطر

فينطفئ السحر: سحر العيون، وسحر الثمار، وسحر الزهر

وتهوى الغصون وأوراقها وأزهارها عن جمال نضر

وتلهو بها الريح في كل واد ويدفنها السيل أنى عبر

لقد نقلك الشاعر الساحر إلى جو عبق زاهر فيه تحب الحياة ويحلو المتاع ويطيب النعيم. كيف يكون ذلك وهو يصف ذبولها ونحولها؟ انه يعطيك صور الحياة الممتعة بعرض صورها القاتمة وبضدها تتميز الأشياء. ويصور لك ما يغشاه من ظلام الشتاء، وانطفاء السحر والرواء، حينما تذوى الثمار وتذبل الأزهار، ويغيب النوار، وتسقط أوراق الأشجار التي تلعب بها النكباء في زمهرير الشتاء، ويدفنها السيل الدافق في أغوار المهاد والوهاد.

هذه صورة جميلة عبر بها الشاعر عن احساسات قوية وتاثرات عميقة رسمها باستخدام ألفاظ منتقاة مرتبة في أعذب الحان، واجمل موسيقى، وأقوى أشجان.

(البقية في العدد القادم)

أبو القاسم محمد بدري

مدرس بالمدرسة الثانوية بأم درمان (السودان)