مجلة الرسالة/العدد 674/شعراؤنا المؤرخون
→ العصبية المعهدية | مجلة الرسالة - العدد 674 شعراؤنا المؤرخون [[مؤلف:|]] |
الأدب في سير أعلام: ← |
بتاريخ: 03 - 06 - 1946 |
كيف نرتب دواوينهم ونقرؤها
للأستاذ محمود عزت عرفة
قد يستسيغ قارئ الأدب منا أن يطالع شعر ابن أبي ربيعه مثلاً في غير ما ترتيب ولا تبويب - كم هو الشأن في ديوانه المطبوع - فلا يفرق بين أوائل شعره وأواخره؛ ولا يتدرج في المطالعة من شعر صباه وشبابه، إلى شعر رجولته واكتهاله، ثم إلى شعره وهو يدب هوناً إلى الثمانين. . .
قد نستسيغ ذلك لأن ابن أبي ربيعه وأمثاله من الشعراء العاطفيين لا يصدرون في أقوالهم إلا عن بواعث نفسية وموحيات خاصة، لا ترتبط عند القارئ، ولا عند الشاعر في أكثر الأحايين، بزمان محدود أو مكان معلوم.
ولكن الشأن يختلف في ذلك كثيراً مع شعرائنا الاجتماعيين من أمثال المتنبي والنواسي والبحتري وأبى تمام والشريف ومهيار والسري وصردر؛ أولئك الذين سجلوا في شعرهم صوراً كاملة من أحداث عصورهم، وجروا في حلبة التاريخ أشواطاً تختلف طولاً وقصراً باختلاف سني أعمارهم. فارتبط شعرهم بحوادث تاريخية مشهورة، محدود زمانها ومكانها؛ وتجلت من أجل ذلك أهمية الترتيب والتبويب في مطالعة إنتاجهم، ترتيباً وتبويباً ليس منهما في شيء مراعاة أبجدية القوافي، ولا الاكتفاء بملاحظة أغراض الشعر المختلفة، كما هو الشأن في معظم الدواوين المطبوعة اليوم، وفي أصولها المخطوطة من قديم.
ولنضرب هنا المثل بشاعر كالبحتري؛ فهو قد ولد في أوائل عهد المأمون، وتوفي - عام 284 هـ - في خلافة المعتضد. وبذا يكون قد عاصر عشرة من خلفاء بني العباس اتصل بستة منهم اتصالاً وثيقاً، هم على ترتيب عهودهم: المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد؛ وله في كل منهم مدائح أو أهاج تكشف عن مدى اتصاله بالحياة السياسية على عهده وانغماسه في تيار الحوادث الجارف خلال هذه الحقبة الطويلة الهامة من حكم العباسيين. وإذا نحن نظرنا إلى هؤلاء الأعلام الستة كنجوم لوامع نيرات في أفق ديوانه تحدد لنا أهم اتجاهاته، كان لنا أن نتخذ من سائر الأعلام المنبثة فيه نجوماً أو كواكب أقل التماعاً نملأ بها الفجوات الفسيحة فيما بين ذلك؛ فنخرج من شعر البحتري بصورة تاريخية مشرقة المعالم واضحة التعابير، لحمتها حقائق التاريخ وسداها الفن الرفيع والأدب المعجب. . . ذلك أننا نجد إلى جانب ما قاله في أولئك الخلفاء قصائد ومقطعات أخرى تبلغ المئات عدداً من مدائح وأهاج ومعاتبات ومراث ومداعبات، ومن سائر ما يدور بين المتعاصرين - كلها تتعلق بشخصيات تاريخية هامة من الوزراء والقواد والولاة والسرة والأدباء والأعيان وغيرهم؛ وأكثرها يسجل معالم واضحة دقيقة لأسر خطيرة الذكر على هذا العهد من أمثال آل طاهر وآل المدبر وآل حميد، وآل مخلد وسهل ووهب وخاقان ونيبخت وبسطام. . . وغير هؤلاء
ومثل ذلك يمكن أن يقال عن أبي تمام الذي مدح المأمون والمعتصم والواثق من الخلفاء - وتوفي قبل الأخير بعامين - ثم التمعت في ثنايا ديوانه الحافل بالأعلام، أسماء آل دواد ووهب وسهل ورجاء وحميد ومزيد الشيباني وطوق التغلبي ويوسف الطائي. . . الخ يمكن أن نقول ذلك عن كل شاعر اجتماعي من أمثال من أشرنا إليهم، فترتيب شعر هؤلاء وفق أبجدية القوافي أو أغراض الشعر كما هو متبع إلى اليوم، تشويه لعرض إنتاجهم ليس بعده تشويه، وإعراض عن ناحية هامة كان ينبغي أن تتجه إليها العناية منذ بعيد، تلك هي الناحية الاجتماعية التاريخية من هذه النفائس الخالدة.
وإن عذر القدماء لواضح في لزوم هذه الطريقة الفجة في جمع الدواوين، إذ كان الأمر في ذلك موكولاً إلى جماعة الرواة منهم والحافظين، والغاية منه حفظ هذه الكنوز من الضياع، ثم مساعدة المتأدبين والأدباء على اقتناء مجموعات شعرية وافية تسهل مراجعتها واستخراج البيت منها أو الأبيات بأيسر المجهود، لتذوق ما فيها من شاعرية، أو لدراستها دراسة لغوية لا تخرج عن دائرة النحو والبلاغة والعروض وما إليها. أما هذه الناحية التاريخية التي نشير إليها فلم تكن مما يخطر للقوم على بال؛ وإنما هي غرض يتجدد ويزداد شعورنا بالحاجة إليه كلما تطاول الزمن على هذه القصائد فاكتسبت صفة السجلات التاريخية الوثيقة.
وإن تحقيق هذا الغرض ليقتضينا أن نرتب كل ديوان ترتيباً تاريخياً نراعي فيه تسلسل الحوادث المختلفة التي يسجلها الشاعر، وتاريخ حياة كل من الأشخاص الذين يتحدث عنهم. وليس يطعن في صدق هذا التاريخ الأدبي أو ينتقص من قدره ما قد يتجه إلى الشعراء عامة من الريبة في صحة أحكامهم لأنهم كمؤرخين معاصرين للحوادث التي يوردونها، يمتازون من الخبرة وسعة الاطلاع بما لا يتأتى لغيرهم ممن سجلوا هذه الحوادث بعد انطواء أزمانها. وأي وصف لخيانة الأفشين للمعتصم أصدق عبارة مما سجله أبو تمام في قصيدته: الحق أبلج والسيوف عوار؟. . بل أي تسجيل لحوادث فتح عمورية أبلغ أثراً في النفس مما تقرؤه في بائيته: السيف أصدق أنباء من الكتب؟
والأمثلة على ذلك كثيرة نومئ إلى بعضها فيما يلي:
1 - رحلت عن الربع المحيل فعودي: لأبي العتاهية في عقد الرشيد العهد لأبنائه الثلاثة في ذي الحجة عام 186 هـ
2 - شغلان من عذل ومن تفنيد: للبحتري فيعقد المتوكل البيعة لأبنائه المنتصر والمعتز والمؤيد في ذي الحجة عام 235 هـ
3 - قل للسحاب إذا حدته الشمأل: للبحتري في وفود الروم على المتوكل، ومفاداته الأسرى (في شوال عام 241 هـ)
4 - ذاد عن مقلتي لذيذ المنام: لابن الرومي في إيقاع صاحب الزنج بأهل البصرة أيام المعتمد (شوال 257 هـ)
5 - عواذل ذات الخال في حواسد: للمتنبي في حروب خرشنة على عهد سيف الدولة عام 340 هـ.
6 - فتوحك ردت بهجة الملك سرمداً: للسرى الرفاء في الغرض السابق.
7 - فتح أعز الإسلام صاحبه: للسرى الرفاء في هزيمة الدمستق وبناء قلعة الحدث عام 343 هـ.
8 - على قدر أهل العزم تأتي العزائم: للمتنبي في الغرض السابق
وينبغي بعد ألا يفوتنا النص على أن هؤلاء الشعراء كانوا من حزب الخلافة في أكثر أمرهم، فلهجتهم هي الرسمية، ووجهة نظرهم هي الوجهة العامة الغالبة. وكتب التاريخ التي ننحني أمام صدقها لا ينظر أكثرها إلى الحوادث السائرة إلا من هذه الزاوية. فهؤلاء الشعراء في تسجيلهم لحوادث التاريخ العامة لم يكونوا إلا لساناً ينطق برأي الهيئة الحاكمة، ولا يخالف كثيراً - إن لم يمثل تماماً - رأي الهيئة المحكومة من عامة الشعوب الإسلامية.
هذا، ولم تكن الأطماع التي تعتلج في نفوسهم، والتي يحتمل معها الشك في صدق أحكامهم، بالأطماع الجريئة بعيدة الغور التي قد تتشوه بها الحقائق ويختل معها ميزان الأحكام. فهم مع انجذابهم في تيار السياسة لم يكونوا من رجالها بالمعنى المفهوم، وإنما أهل فن وأدب: مطلبهم العيش الرغيد وأمنيتهم الحياة السهلة الوادعة؛ يفتنهم جمال الحق، ويعجبهم الانضواء تحت لوائه والقيام بنصرته. وإنهم لأقل الناس انحرافاً، وأقلهم تبعاً لذلك تشويهاً للحقائق بزيادة فيها أو نقصان.
وكبار المؤرخين أنفسهم يتجه إليهم من النقد شيء كثير، ويؤخذ عليهم من المآخذ ما يكفي أقله لأن يودي بقدر مؤلفاتهم التي نعتمد عليها الاعتماد كله، ونستنبط منها حقائق التاريخ - فيما نزعم - جلية ناصعة.
جاء في (ضحى الإسلام) عند الحديث عن مؤرخي العصر العباسي الأول:
(قد يكون في عمل هؤلاء المؤرخين بعض مآخذ كتلوين التاريخ ببعض العقائد أحياناً، وكبنائهم التاريخ حول الخلفاء لا حول الشعوب، وإهمالهم كثيراً من وصف النواحي الاجتماعية وغلبة النزعة الدينية فيما يعرضون له من أحداث، وضعف النقد وإيجازه وسذاجته. . . الخ).
ونقول إنه لن يكون نصيب الشعراء من أمثال هذه المآخذ أكثر من نصيب المؤرخين، مع ما ينبغي الاعتراف به دائماً من وفرة حظ الأولين من الصراحة وصدق التعبير، وقلة تعلق أكثرهم بالماديات تعلقاً يدفعهم إلى اعتساف سبيل التحيز أو التحيف.
على أنه ينبغي لنا ندرك الفرق بين مذاهب الشعراء ومذاهب المؤرخين؛ فلا نجشم الشعراء طريقاً غير طريقهم. . . وإنهم لأصحاب الإغراق والإسراف والمبالغة والتهويل. . . تلك الهالات المونقة التي تزين جبين الشعر، والتي لا يصعب على المتفرس أن يتعرف إلى وجه الحقيقة من ورائها. ثم هم بعد ذلك يتفردون بالإبداع في تصوير نفوس الأفراد والجماعات والتعمق في تحليل الشخصيات التاريخية التي يعاصرونها إلى الحد الذي لا يتأتى لكثير من المؤرخين. ورب أبيات قصيرة يصف بها الشاعر حالة من حالات خليفة أو أمير في مجلس سمر أو ساحة قنص أو محفل مناظرة أو مقام مشاورة - تكشف لنا من خلجات هذه النفسية التاريخية ونوازعها ما يعلل الكثير من الأحداث الهامة التي يكتفي المؤرخون بسردها، ثم هم يتخبطون في مجاهل الغيب إن تطاولوا إلى ما فوق ذلك بتعليل بواعثها.
ولتحديد موقف الشعراء من المؤرخين، وبيان مدى الاعتماد على الشعر كمصدر من مصادر التاريخ نورد ما ذكره الدكتور طه حسين بك في كتابه (مع المتنبي)، وهو يتحدث عن وصف الشاعر لحروب سيف الدولة، قال: (قد يقال إن المتنبي أغرق وأسرف، وعظم من أمر هذه المواقع أكثر مما ينبغي، وأضاف إليها من الخطر أكثر مما تستحق، وأعرض عن تصوير الهزيمة، ولم يعن إلا بتصوير الانتصار. ولكن يجب أن نتفق، فلم يكن المتنبي مؤرخاً ولا محققاً، وإنما كان شاعراً، وشاعراً ليس غير. أستغفر الله، بل كان شاعراً يشترك في الجهاد، يذوق لذته ويشقى بآلامه. فالذين يطالبون هذا الشاعر بالتاريخ وتصوير الحق كما وقع يسرفون عليه، ويسرفون على أنفسهم، ويسرفون على الشعر نفسه. وأين كانت تقع حرب طروادة التي وصفت الإلياذة طوراً من أطوارها من هذه الحروب التي شهدها المتنبي ووصفها تسعة أعوام كاملة. أفيعاب شعراء الإلياذة بأنهم لم يصفوا التاريخ كما كان، أم يحمد من هؤلاء الشعراء أنهم صوروا نفوس الجماعات والأفراد التي اشتركت في هذه الحرب أبدع تصوير وأروعه؟).
ثم يعتذر صاحب الكتاب مع المتنبي عن تهويل الشاعر في وصف وقائع سيف الدولة فيقول: (كلا إنه لا يتجاوز الحق، ولا يفسد التاريخ بالقياس إلى الذين لا يحسنون استنباط التاريخ من الشعر، ولا يفرقون بين مذاهب الشعراء ومذاهب المؤرخين) هـ.
وإذا كنا قد أطلنا الحديث عن الناحية التاريخية من الشعر، فحسبنا أن نجتزئ بالإشارة العابرة إلى ناحية أخرى تتعلق بعلم الجغرافيا. وخير من الإطناب في هذا المقام أن ننقل للقارئ فقرة موجزة من كتاب (امرئ القيس) للدكتور محمد صبري حيث يقول: (قد جرى امرؤ القيس في معظم قصائده، وتبعه في ذلك جميع شعراء العرب من جاهلين وإسلاميين، على سنة تحديد الأماكن وذكرها، ولا نبالغ إذا قلنا إنه لولا هذه السنة التي سنها الشاعر لضاعت نصف جغرافية بلاد العرب، إذ من المعلوم أن معجم ياقوت ومعجم البكري كان الشعر مرجعهما الأول لوصف بلدان كثيرة. على أنهما لم يستوعبا كل شيء ولا تزال العناية بدراسة شعراء كالمتنبي والبحتري وأبي تمام مثلاً من شأنها أن تساعد على تصحيح أسماء بلدان كانت معروفة في العصر العباسي، ولكنها وردت مغلوطة في تواريخ الطبري، وابن الأثير) هـ.
وبعد، فهاتان ناحيتان من الشعر طالت غفلة النقاد عنهما قروناً. ويبدو أن أول خطوة عملية ينبغي لنا اتباعها هي أن نضيف إلى كل (ديوان تاريخي) بعد ترتيب قصائده ملحقاً بتراجم أشهر الأعلام التي ورد ذكرها فيه، ثم معجماً لأهم البلدان التي نوه فيه بذكرها. . .
وكيفما كان أمر شعرائنا أو القول فيهم، فإن من اليسير أن نستقري ما خالف من شعرهم، ثم نلتقي على ظلمته ضوءاً من حقائق التاريخ الثابتة بعد أن ندرج كل قصيدة في موضعها من مجموعتها حتى تتصل بما قبلها وبما بعدها من شعر، اتصالاً قوياً وثيقاً تبتهج له نفوس طلاب الحقائق، وتكتسب به الدواوين حرارة وحيوية يبدو معهما كل شاعر إنساناً حياً، لا شبحاً باهت الظل متخيل الوجود. بل تكتسب المعاني والحوادث المسرودة نفسها قوة لم تكن لها من قبل، وتنطبع في الأذهان بهيئة لا يدرك تناسقها وروعة جمالها إلا من تهيأ له - في مرة أو أكثر. . . أن يمارس هذا الترتيب بين القصائد، فيرى كيف تنطق الحقيقة الجافة بلسان الخيال الرطيب، ويشهد كيف يتواطأ التاريخ الدقيق والأدب الرقيق معاً على غزو العقول بسحر جمالها؛ وكيف يتجليان في مرايا العقول كالفرقدين، تنزلا من أفق واحد، ليشرقا على دنيا واحدة.
محمود عزت عرفة