مجلة الرسالة/العدد 673/شيخ في مرقص!
→ في مقالين: حل حاسم لمشكلة الأزهر، ومستقبل | مجلة الرسالة - العدد 673 شيخ في مرقص! [[مؤلف:|]] |
الإنسان، هذا المجهول. . ← |
بتاريخ: 27 - 05 - 1946 |
للأستاذ على الطنطاوي
- 1 -
كنت أصلي أمس في مسجد العباس، فلما قضيت الصلاة وتلفت للسلام لمحت (فلاناً) فكذبت بصري وعدت إليه أتثبته فإذا هو بلحمه ودمه، وإذا هو يصلي صلاة خاشع لله متبتل أواب، وكان آخر عهدي به أنه ركب في طريق الغواية رأسه، وأقدم إقدام الفرس الشموس، فحب في الضلال ووضع، وأغار ونجد، ثم انتهى به الخبط إلى الهاوية، فوقع (على أم رأسه) في اشتهاء راقصة مشهورة، وحسب هذا الاشتهاء حباً كالذي قرأ وصفه في الروايات فصنع مثلما يصنع المحبون: نسى عقله ودينه، وجاد بقلبه وماله، وعرفت منه الفاجرة هذه الحماقة، فاستنزفت دم (جيبه) وماء قلبه، ثم لم توصله إلى إربه ولم تمتعه بحبه. . . وكان له ضمير يناديه فأعرض عن نداء ضميره، وكان له إخوان ينصحونه فسد أذنيه عن نصح إخوانه، فلما يئسوا منه ومن صلاحه انصرفوا عنه وتركوه لنفسه وللراقصة ولإبليس، ثم للمرض والفقر وجهنم!
. . . فلما رأيته في المسجد عجبت وانتظرته حتى فرغ، فأقبلت فسلمت عليه وسألته، فقال: إن حديثي عجب، وإني لا أحب أن أتحدث به في بيت الله فتعال معي إلى بيتي تسمع حديثي. . .
وحدثني فقال:
إن الفضل علي فيما رأيت من توبتي لله ثم للشيخ صلاح الدين أحسن الله إليه، فلقد هداني الله به وهدى أقواماً بعد إذ كانوا ضالين. ولقد عرفت رجالاً شجعاناً أولي عزم وإقدام، وسمعت أخبار العلماء الذين واجهوا الملوك بما يكرهون، وأحاديث أهل الجراءة والصدع بالحق؛ ولا والله ما سمعت ولا عرفت بأجرأ من هذا الشيخ، ولا أثبت منه جناناً. . .
قلت: إذ صنع ماذا؟
قال: إذ وعظ في المرقص! أما سمعت الحكاية؟ لقد استفاض خبرها وتناقلته الصحف، وكان حديث السوامر أياماً طوالاً. . . وذلك أنه نظر فرأى طلاب العلم لا يزالون ينقصون، ورأى الناس ينصرفون عن المساجد فلا يحضرها إلا الكهول والعجز، وما يحتاج هؤلاء الوعظ إنما يحتاجه الشباب. وسأل أين الشباب؟ فأجلوه عن أن يخبروه، ثم قالوا: إن الشباب في السينمات والمراقص ونوادي القمار. . . قال: وما السينمات والمراقص؟ لم يكن الشيخ يدري ما هي، ولم يكن يعرف من الدنيا إلا مسجده وداره، ولا يسمع إلا حديث العلم، وقال المصنف، وذكر الشارح وعقب عليه المحشي. . .
قالوا: إن المراقص أبهاء واسعة تمتلئ بالناس وفي صدرها منصات عالية لها ستر ترتفع وتنسدل، يقوم عليها نسوة عاريات إلا من خرق لا تكاد تستر من أجسادهن شيئاً، يقفزن ويلعبن ويحركن أيديهن وأرجلهن. . .
قال: حسبكم، حسبكم! إنا لله وإنا إليه راجعون! نساء يلعبن أمام أعين الرجال الأجانب؟! ما ظننت أن مثل هذا يكون في دار الإسلام، قوموا بنا إلى المرقص!
قالوا: إلى المرقص يا مولانا؟!
قال: نعم. نتقى مثل لعنة داود وعيسى بن مريم، ونغير هذا المنكر بألسنتنا إذ قد قعدت بالحكام رقة دينهم عن أن يغيروه بأيديهم.
قالوا: يا مولانا، إنهم يسخرون منا ويؤذوننا، ولا يصغون لمقالنا.
قال: ما نحن بأفضل من الأنبياء، وما نفوسنا بأكرم علينا من نفوسهم. ولقد سخر منهم وأوذوا في سبيل الله فما ضعفوا ولا استكانوا، وإنما علينا البلاغ والهدى هدى الله.
قالوا: إن المدارس قد ابتدعوا فيها هذه الأيام بدعة جديدة من أخزى البدع وأرضاها لإبليس، وهي أن تبرز البنات سافرات حاسرات فيلعبن أمام الرجال، فلنبدأ بالمدارس قبل المراقص فأنهم سيقتلون فيها الأخلاق، باسم الرياضة والصحة والفن!
قال الشيخ: بل نبدأ بالمراقص إن شاء الله.
فلما رأوا منه الجد والإصرار، قالوا: أمهلنا يا مولانا حتى نعد لك مكاناً فيه تعظ من الناس.
وذهبوا إلى (مرقص أبي نؤاس) فسألوا صاحبه أن يؤجرهم المسرح ربع ساعة ما بين الفصلين، ليجئ الشيخ فيعظ فيه الناس. فنظر الرجل فيهم لعله يبصر تحت معاطفهم المسروقة ثياب المستشفى التي فروا بها من (القصير) وابتعد عنهم خشية أن تعاود أحدهم جنته فيثب على عنقه فيخنقه أو يشج رأسه بحديدة يخفيها في كمه، ودعا أعواناً له لينقذوه من هؤلاء المجانين الذين يريدون أن يجيئوا بشيخهم ليعظ الناس على مسرح التياترو. . .
ولكن القوم قطعوا عليه ما هو فيه وجروه من رسنه فانقاد ذليلاً طيعاً، حتى عرضوا عليه في هذا ال (الربع من الساعة) نصف ما يكسبه في الليلة كلها، وقبل منهم وشيعهم إلى الباب، ولكنه لم ينس أن يقبض المبلغ منهم قبل أن يغلقه دونهم.
وفرح الرجل بهذا الإعلان الجديد عن مرقصه، وأمل أن يغلب به (مرقص مطيع بن أياس) الذي يقوم إلى جنبه يزاحمه ويقاسمه قصاده، وانتظر أن (يمثل) الشيخ (مهزلة) تكون (رواية الموسم)، وذهب فطبع (إعلانات) ضخمة عن (المفاجأة المدهشة) التي ستروع الناس، وجاء الناس يرون هذه المفاجأة وما يقع في وهم أبعدهم خيالاً، إلا أنها راقصة جديدة، أو أنها رقصة مبتكرة، وماذا يكون في المرقص إلا الرقص؟!
وكنت تلك الليلة هناك، ورقصت (فلانة) رقصة عبقرية مبدعة عرضت فيها من فنونها وفتونها عجباً ما رأى الراءون مثله، وجننت الحاضرين حتى ما يدرون من الفتنة ما يصنعون، وحتى دميت الأكف من التصفيح والتصفيق، وبحت الحناجر من الهتاف والصراخ، وأرخى الستار على الراقصة وهي أحب إلى كل واحد منهم من زوجه وولده، وما واحد منهم إلا ويبذل في ساعة منها ماله وشرفه ودينه، وجعلوا ينادون باسمها، يريدون أن يمتعوا أبصارهم برؤيتها كرة أخرى، فلما تمادى غيابها أقبلوا يرددون أسمها في إلحاح واتصال، ويقرعون الأرض بأقدامهم فعل الصبيان، ورواد الملاهي. لهم عقول كعقول الصبيان، فارتفع الستار ونظروا. . .
نظروا فإذا هم يرون مكان ذلك الجسم الحبيب المشتهى، وذلك العرى المغري الفتان، شيخاً جالساً بعمامته ولحيته وجبته، شيخاً حقيقياً لا تمثال مكسواً ثياب المشايخ، ولا شيخاً مزوراً من شيوخ (التمثيل)!
وبدأ الشيخ درسه بحمد الله والصلاة على رسول الله؛ وربطت الدهشة ألسنة الحاضرين لحظة، فكانت سكتة شاملة، ثم صحوا فجأة، فكان الانفجار. . .
إن كل محاولة لوصف هذا الانفجار إنما هي إفساد وتشويه لصورته في نفس السامع، وإنك تعرف هؤلاء الناس وإن فيهم كل ماجن خبيث، وجبار فاجر، وفيهم السكران وفيهم الحشاش، وقد جاءهم هذا الشيخ في الساعة التي اكتملت فيها نشوتهم، وطغت (براح الراقصة) سكرتهم، ليتلو عليهم حديث التقى والصلاح من فوق منصة المرقص، وليقول لهم دعوا هذه المرأة فأنها رجس، وغضوا عنها أبصاركم فأنها عورة، وانصرفوا عن هذه البقعة فأنها دار دنس وإثم، وقد طلع عليهم وهم يرتقبون طلعة الغادة العارية المغناج. . . فتصور ماذا يكون منهم!
لقد صفروا له وسخروا، ورموه بكل قبيح في القول، وسألوه أن يتجرد فيرقص لهم ويريهم غنجه، وعرضوا عليه كؤوس الخمر مترعة، وهو ماض في كلامه كأنما هؤلاء ذباب يحوم حوله من بعيد، بل أن الرجل ليحفل بالذباب وهو لم يحفلهم ولم يبال بهم. وتعب الشاغبون ومل الساخرون، وكان في القوم من يعرف الشيخ، فصاحوا بهم أن اسكتوا ويلكم نسمع ما يقول، وكانت سكته أخرى، وهي كل ما كان يتمنى الشيخ فتمكن فيها من آذانهم ونفذ إلى قلوبهم، فأصغوا ثم اطمئنوا، ثم خشعوا، ثم انقادوا إليه وتعلقوا به، وحل من قلوبهم محل (تلك)، ولكن حبهم إياها كان حباً سفلياً، وهذا حب طاهر مقدس. . . فلما انتهى كلامه، وقام ليخرج، قاموا معه وخرجوا وراءه، وتركوا المرقص لصاحبه وللشيطان. . . ولازمته أنا من ذلك اليوم كما لازمه كثير ممن كان هناك. . .
قلت: ألم تحفظ شيئاً من كلامه؟
قال: هيهات إنه تكلم بكلام علوي، كنا نحس به ينصب في القلوب انصباباً فتستشرفه وتتسامى إليه، ومازال يقول وهي ترتفع حتى خلصت من هذه الحمأة الدنسة التي كانت غارقة فيها، إلى الفضاء الأرحب وإلى الجو الطهور. إنه لم يتكلم كما أتكلم أنا وأنت، ولا كما كان (هو) يتكلم، فقد سمعته قبل ذلك اليوم، فما سمعت منه مثل هذا، وإني لأظن أن ملكاً نطق بلسانه فمن هنالك خرج الكلام نورانياً سماوياً.
قلت: مثل ماذا؟
قال: أنا رجل عامي، فإذا أعدته عليك لم آت به من ذهني الكليل إلا أرضياً منطفئاً، كالشهاب المنير إذا روته الأرض لم يكن على لسانها إلا صخرة باردة جامدة. . . أفتحب أن أرد عليك ما حفظت منه من ذهني أنا لا من ذهنه، وبلساني لا بلسانه؟
قلت: نعم.
قال: إن مما حفظت منه قوله. . .
(البقية تأتي) علي الطنطاوي