الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 672/إبليس والفن

مجلة الرسالة/العدد 672/إبليس والفن

بتاريخ: 20 - 05 - 1946


للأستاذ صلاح الدين المنجد

لا تظهر صورة الشيطان في العصور الأولى من تاريخ الكنيسة، وينبغي أن نبدأ من القرن السادس، لنرى التخيلات الأولى، للشيطان.

وأقدم هذه التمثيلات توجد الآن في مخطوط قديم عن أعمال القديس غريغوار. في المكتبة الوطنية بباريس.

فهذا المخطوط الذي يرجع عهده إلى القرن التاسع، يتضمن صوراً أقدم من هذا التاريخ بثلاثة قرون. فإحدى الصور، تمثل محاولة الشيطان فتنة أيوب، وفيها يظهر أيوب في قصره يفكر والشيطان بالقرب منه، حاملا في يده حقة طيب، تتأرج منها الروائح العطرة المسكرة، وكأنه يسخر من الحكيم ويهزأ به.

ولا يظهر الشيطان في هذه الصورة مخيفاً، بل ما يزال الملك المطرود، المتكبر، وهو هنا ذو جناحين طويلين منتشرين، وله وراء رأسه إكليل من النور، تذكر بأصله. ثم هو عاري الجسم حول خصره زنار من السيور، وليس في مخايله ما هو بعيد عن خلقة الإنسان، ولكن يديه ورجليه المعقوفة الأظافر، تميزه ميزة خاصة.

وفي هذه المخطوطة، صور أخرى للشيطان وكلها متماثلة. والظاهر أن الفن الإغريقي، والفن البيزنطي، لم يشاءا أن يشوها شكل الشيطان. والفنانون الشرقيون في بيزنطية كانوا ذوي شغف بالجمال، فلم يهتموا بتصوير هذا الشيطان، قرينا بالشر، المخيف المنظر والمخبر.

ولم يقل رجال الدين في الكنيسة قط، إنهم رأوا مثلا الشيطان يوما، بشكل شاب غرانق جميل، أو بشكل فتاة حسناء كاعب، ذات وجه ناضر. ولذلك كانوا يصورون الشيطان بالقبح، ويلونونه باللون المظلم القاتم، كالأسود أو لون البنفسج، فهذا ملك الليل الشرير.

وانتقلت هذه الصورة من بيزنطية إلى الغرب، فاتخذ الشيطان صورة البطل المغلوب المنهزم، أو صورة الملك المطرود، الذي ما زال يحفظ سمات الملائكة وصفاتهم.

ولم يلبث أن تبدلت هذه الصورة، فعندما أراد نحاتو الكنائس الرومانية أن يصوروا الشيطان، ملاك الشر تمثلوه بصورة أخرى.

وهناك أسباب عدة بعثت على هذا التبديل، الأول هو رغبة الكنيسة نفسها، إذ لا ينبغي أن ننسى أن الشيطان شيء خطر، فهو الخبيث، الذي لا هم له غير الإغواء والفتنة، ولا بد إذن من منحه صفات مخيفة راعبة، كي تنقش هذه الصورة الرهيبة في قلوب المؤمنين، فتحفظهم من إغوائه، وتبعدهم من فتنته.

ولا يجهل من جهة ثانية، أن أكثر المشاهد المنحوتة في الكنائس قد استوحيت من الصور أو من القصص الدينية الممثلة في أفنية الكنائس. ففي هذه الأقاصيص يظهر الشيطان محاطا بقناع منحط مزر. فمن هذا الإزراء والانحطاط، استوحى الفنانون تصورهم للشيطان.

وسبب آخر، هو أن الكنيسة كانت تتعمد أن يستخلص الرائي من صورة الشيطان عبرة وعظة؛ فكانت تجبر النحاتين أن يجعلوا الفرق شاسعاً بين الملك والشيطان، مع المحافظة على روح التصاوير البيزنطية.

وفي القرن الثاني عشر، كان الشيطان يصور في أغلب الأحايين كما يلي: شكل إنساني، ذو جسم وفخذين وذراعين. ولكنه تارة ضئيل الجسم كأنه القزم، وتارة بالعكس، عبل القد مستطيل القامة كأنه العملاق. وسواء أكان قزما أم عملاقا، فقد كانوا يجعلونه ذا هامة ضخمة، وعينين جاحظتين واسعتين، وأنف أفطس، وفم غريب الخلقة لا يشبه فم الآدميين، قريب إلى فم الكلب، وأسنان ضخام مخيفات، وشعور منفوشة، قائمة كأنها ألسنة اللهب. وقد اصطلح الفنانون على إلصاق هذه الشعور في رسومهم لكل من له صلة بالشيطان، وخاصة بالنساء.

أما هامة الشيطان فتستدعي الرنو والعجب لضخامتها. وأما جسمه فهو نحيف، والبشرة ذابلة جف ماؤها، ورجلاه وذراعاه عظام لا تكسوها لحم، وتنتهي بأظافر معقوفة جارحة. وعلى هذا الشكل صور الشيطان، في مواساك أوتين فزبلاي.

ويذهب نقتبس منه هذه المعلومات إلى أن الرهبان هم الذين كانوا يختلقون هذه الصورة.

وقد ساعدت القصص الدينية، وما في الإنجيل خاصة، على تمثيل الشيطان، فصوروه تصاوير مختلفات، تمثله مطرودا من الجنة كاسفا حزيناً، أو جالساً في الجحيم على عرش في وسط النار رجلاه على منصة، تدور حدقتا عينيه المخيفتين، أو ساعيا في إغواء المؤمنين المخلصين.

وفي القرن الثالث عشر، تظهر أكثر الصور التي كانت في القرن الذي قبله. على أن شكل الشيطان نفسه قد اختلف اختلافا محسوسا؛ لأن تخيلات الرهبان وأوهامهم صورته على شكل قزم قبيح في منتهى القبح، ولكنه أقل إرهابا. أما ملامحه فعادت كملامح الإنسان، هي قبيحة بلا شك؛ ولكنها أقل تشويها من الماضي. وتبدل مفهوم الشيطان، فهو لا يخيف كما كان يخيف من قبل؛ ولا شك أنه أضخم من الماضي أيضا؛ فلا ترى - إذا رأيت صورته - عظاما تخيف؛ فوقها جلد نحيف؛ ولكنه كان أملأ جسما. وقد يلاحظ أن بعض الصور، كانت تلصق به بعض الملامح الحيوانية، كأن يجعل له رأس قط كبير، أو كأنه القطة الكبيرة، كما في نوتردام دباري.

على أنه يلاحظ أمر، هو أنه كلما كان الفن يبتعد عن الدين كانت أشكال الشيطان تجنح عن إثارة الرعب. ففي القرن الخامس عشر كان يخيل للرائي أن الشيطان مخلوق مضحك. وكان يحافظ، في أكثر المشاهد التي يصور بها، على الملامح الإنسانية؛ أعني أنه كان له دائماً رأس وجسم وذراعان وفخذان.

وبالعكس عصر النهضة في فقد الشيطان هذه الصفة الآدمية. فنحن نلاحظ أنه بعد منتصف القرن الخامس عشر، والقرن السادس عشر، قد طرأ تبديل كبير على ملك الشر.

فلقد فهم رجال النهضة خطأ ما يرمز إليه الشيطان. ولا بد من التنويه بأن فكرة الشيطان لم تعرف في الديانات اليونانية والرومانية. ففي الديانة اليونانية كان للشياطين شأن أقل. فهي أرواح لا أثر لها، تذهب وتجيء أحايين بين الآلهة والأبطال. ووجودها في الديانة الرومانية أكثر غموضا أيضا. ولا بد من أن نذكر أن الآلهة في أثينا وروما كانت في آن معا، أرواح خير وشر، تضر من تشاء، وتنفع من تشاء على هواها. أما فكرة وجود ملك للشر يقابل ملك الخير التي كانت توجد لدى الفينيقيين والفرس والهند فلم تعرفها اليونان والرومان.

فليس من الغريب إذن إذا كان فن عصر النهضة تحت التأثير اليوناني الروماني قد أهمل بعض الإهمال تصاوير الشيطان التقليدية الموروثة، واستعيض عنها بتصوير آخر. فقد أصبح الشيطان يرمز رمزاً كبيراً إلى القبح الشديد، وهذا سر انقلابه حيوانا، له ملامح الحيوانات كلها؛ كالثور الوحشي، والخنزير والدب وغيرها. وتعددت الشياطين، فكثرت صورها أيضا. ولم يبق كم كان من قبل، صورة واحدة لشيطان واحد.

وفي عصر النهضة، من جهة أخرى، ظهرت موضوعات أخرى طريفة تمثل الشيطان، مثال ذلك أن صوروا الموت يخاطب الشيطان، لأن الموت كان قد بدئ بتصويره منذ القرن الخامس عشر بإيحاء من الكنيسة أيضا كي تخيف المؤمنين مما يعقبه من جحيم ونعيم وعذاب. وفي كتاب , لفيرارد، وهو مزوق مصور، تظهر صور كثيرة للشياطين، كلها ذات ملامح في أغلب الأحايين حيوانية؛ فقد جعل لها أذناب وقرون وحوافر وغير ذلك.

ويلاحظ أن الشيطان قد أصبح حيوانا عند فناني وادي أشباه ستيفان ومارتان وبعدهم عند البير دورر ومن جاراهم. ثم يلاحظ كلما تقدمنا في القرن السادس عشر، قلة تصوير الشيطان لأن (مجمع ترانت) عندما منع تصوير الشخوص المخيفة ونحتها ضرب الأقاصيص الدينية وشخوصها ضربة قاضية، فقل تصويره.

حتى إذا أقبل القرن التاسع عشر، ظهرت صورة جديدة للشيطان، فقد أثر ظهور فوست لغوته، وانتشارها الواسع في ذلك، ودفع الفنانين إلى تصوير هذا الشيطان الرجيم؛ فصوروه كما يلي:

ملك مطرود من رحمة الله، ترافقه فترة شقاء من قبح، والجناحان طويلان ينتشران حول الجسم المشوه. وجهه يمثل صورة جانبية مسنونة مضطربة، وقد تدثر بدثار. وهكذا صوره دلا كروا في فوست سنة 1828. وبقيت هذه الصورة شائعة بين الناس؛ وهي التي يلجأ إليها اليوم في تمثيل الشيطان.

(دمشق)

صلاح الدين المنجد