مجلة الرسالة/العدد 670/الجذام
→ القضايا الكبرى في الإسلام | مجلة الرسالة - العدد 670 الجذام [[مؤلف:|]] |
في كتاب: ← |
بتاريخ: 06 - 05 - 1946 |
للدكتور أصلي محمد باهي
لمحة تاريخية
إن من أخبث الأمراض التي مني بها الإنسان في هذه الدنيا هو (الجذام) أو (الأسد)؛ ويرجع تاريخ نشأته إلى العصور الخالية. وقد حاول بعض علماء أوربا أن يثبتوا أن مصر من عهد الفراعنة كانت مهد هذا الداء الوبيل مستشهدين على ذلك بما وجد من نقوش في هياكل لأناس لا بد أن يكونوا قد أصيبوا بهذا المرض وهم على قيد الحياة، وخلدوا إما لسمو مكانتهم أو لأغراض أخرى وخلدت معهم أمراضهم لا عن تعمد بل عن براعة في فن النحت في ذلك العصر الغابر. إلا إن هناك فريقاً آخر يقيم الحجة، ويؤكد أن الصين والهند وبطاح آسيا هي منبته الأصلي، وهو إنما جاء إلى مصر عن طريق العدوى بالتنقل والاختلاط. وأخيراً جمع الفريقان رأيهما في صعيد واحد وقالوا سواء أكانت مصر منبعه أم آسيا منبته، فمما لا مراء فيه إنه انتقل إلى أوربا من مصر في القرون الأخيرة قبل الميلاد، وقد ذكره الشاعر الفيلسوف: (تيتوس لو كيتيوس كاروس). (عاش من سنة 99 إلى سنة 55 ق. م) في شعره. ووصفه الطبيب الروماني (سلزوس) (عاش من سنة 53 ق. م إلى سنة 7 ق. م) وصفاً دقيقاً بيناً مما لا يدع شكاً في أنه مرض الجذام بعينه. وقد نعت في ذاك الوقت بداء (التفيل الإغريقي) وأثبت العالم الألماني (فون برجمان) أن هذا المرض انتشر في إسبانيا وسهول لومبارديا بشمالي إيطاليا وألمانيا وفرنسا في القرن الثاني بعد الميلاد. وجاء بعده زميله العالم الباتولوجي (فرشو) وذكر في مصنفاته أن أوربا أنشأت مئات الملاجئ للمجذومين في مختلف أنحائها وذلك في القرن السابع بعد الميلاد. وذلك يدحض الرأي الذي كان شائعاً قبلاً، وهو أن الجذام لم يغز أوربا إلا عقب الحروب الصليبية أي حوالي القرن العاشر للميلاد، ويقول الداحضون لهذا الرأي إن هذا المرض جاء إلى أوربا قبل فجر المسيحية، إلا أنه ازداد انتشاراً عقب الحروب الصليبية.
وما جاء القرن الثاني عشر حتى شمل الجذام إنجلترا والدانمارك والبلاد الاسكندنافية وسائر أرجاء أوربا، ثم استمر في الانتشار والازدياد حتى القرن الرابع عشر إذ بلغ إذ ذاك أوج ازدهاره، فلما أفاقت أوربا من غفوتها وأدركت خطره، ومن ثم أخذت في مكافحته، ابتدأ في الهبوط والزوال إلى أن جاء القرن السابع عشر فاختفى من بعض الأقطار تماماً، وهي تلك التي ضربت بسهم وافر في المدنية، وبقي منه النزر اليسير في تلك التي لم ترتق بها سبل الكفاح بعد إلى القدر المطلوب.
جوهره:
الجذام مرض مكروبي، أي أنه لا ينشأ إلا بالعدوى بجرثومته. وقد تكون العدوى عن طريق الاختلاط أو بالوراثة، أي أن يولد الطفل من أبوين مجذومين. ومكروب الجذام يشبه كثيراً مكروب السل، وهو صغير جداً ولا نقصد أنه صغير لعيننا المجردة؛ بل نقصد أنه صغير جداً بالنسبة لأنواع أخرى من المكروبات. ولأجل أن نعطي القارئ فكرة تقريبية عن حجم هذا المكروب نقول إنه إذا وضع من المكروب ألف واحد وضعاً طولياً بحيث يكون رأس الواحد بعد نهاية الآخر، وفي خط مستقيم على نمط عربات قطار السكة الحديد كان طول هذا الخط أربعة ملليمترات فقط. أما إذا وضعت الألف منه عرضياً أي كصف من الجند كان سمكه 3 ,. من الملليمتر، ومن ذلك يمكن للقارئ أن يصور لنفسه طول المكروب الواحد وعرضه.
ويعزى اكتشاف مكروب الجذام، إلى العالم النرويجي (أرماور هانزن) في عام 1873، وأما الذي درس حياته بالتفصيل، ووضع الأسس الحديثة لدراسته البكتريولوجية، فهو العالم الألماني (نايسر) وذلك سنة 1879، ومدة تفريخ المرض، أي الوقت الذي ينقضي من وقت دخول جرثومته في الجسم حتى تظهر أعراضه عليه، هي من 3 إلى 5 سنوات وقد تصل في بعض الحالات إلى 10 سنوات.
أعراضه:
هناك نوعان يتميز بهما المرض في نشأته ونموه ونهايته، وهذا يتوقف على الطريق الذي يسلكه المكروب بعد دخوله في الجسم، فمنه ما يلازم أعصاب الجسم ويسير معها أينما سارت ومنه ما يحاول النفاذ إلى الجسم عن طريق الأقنية اللمفاوية. وأهم أعراضه أورام تظهر على جسم المريض في مواضع مختلفة على شكل عقد متفاوتة في الحجم تثبت في مكانها؛ وتتجمد وتنمو بمرور الوقت، وقد تتقيح وتخرج منها إفرازات صديدية. وأكثر ما تظهر هذه الأورام في الأطارف والوجه، وقد تنتشر على طول الحاجبين والأنف والشفتين والخدين بحيث يتشوه الوجه، ويكتسب طابع وجه الأسد، ولذا سمي الجذام أيضا بمرض (الأسد) أو (التأسد).
وكثيراً ما تنتشر العقد الجذامية على طول أصابع اليدين والقدمين، فإذا ما أصابها التقيح أعقب ذلك عادة تنخر في عظام الأصابع فتسقط من نهايتها، وقد تكرر هذه العملية إذا سار المرض من تلقاء نفسه في هذا الاتجاه، فلا يلبث المريض أن يفقد أصابع يديه أو قدميه. وقد يجيء الوقت الذي لا ترى من يديه إلا الكفين بعد أن فقدتا أصابعهما العشر كذلك يكون الحال بالقدمين.
وبعد أن ينال المرض غايته من أجزاء الجسم الخارجية يحول طريقه إلى الأعضاء الداخلية فيصيب الكبد والطحال والكليتين والأعضاء التناسلية وهلم جرا كلا بدوره، ويحدث فيها من التشويهات ما شاء له، ويأكل خلاياها الحية ويترك مكانها أوراماً خبيثة ملآى بملايين الملايين من مكروبه تزحف بمرور الوقت إلى ما يجاورها من أجزاء الجسم السليمة أو تبعث برهط منها عن طريق الدورة الليمفاوية إلى أجزاء أخرى من الجسم بعيدة عنها، وتلك تنشئ مستعمرة لها في هذا الجزء الذي حلت به، وهكذا دواليك إلى أن يقضي المريض نحبه. وعلى ذلك فمريض الجذام شخص حكم عليه بالموت البطيء، لا بل هو شخص تعس حكم القدر عليه أن يرى جسمه يتساقط أجزاء ويأكله المكروب حياً كما تأكل الديدان رمة بالية. هذه صورة مصغرة لأعراض هذا المرض الوبيل، في بدئه ونهايته.
ولدراسة هذا المرض ومكافحته أجرى العلماء تجارب عدة على أنواع مختلفة من الحيوان، فحقنوا الفيران والماعز والقرود بمكروب الجذام، وفي كثير من الحالات ظهرت أعراض المرض عليها بعد ردح من الزمن. وقد وفق (آرننج) للحصول على إجازة من السلطات المختصة بجزيرة (هاواي) لعمل تجارب على قاتل يدعى (كينو) حكم عليه بالإعدام، وقد خفف هذا الحكم إلى السجن المؤبد لكي يحقنه (آرننج) بمكروب المرض، وبعد حقنه بعامين تقريباً ظهرت عليه أعراض الجذام المعروفة، وابتدأ جسم هذا الرجل الذي كان يتدفق قوة وبطشاً يتهدم شيئاً فشيئاً. وبعد سنتين أخريين كان (كينو) في أثنائهما يكافح المرض بقوة جسمه، قرر طبيب السجن إحالته إلى مستعمرة المجذومين (بمولكاي) بجزيرة (هاواي) حيث قضى المريض نحبه متأثراً من وطأة المرض.
مدى انتشاره في الأمم المختلفة:
سبق أن ذكرنا أن الجذام بعد أن كافحته أوربا تضائل وقل عدده حتى يمكن أن يقال إنه قارب الزوال من تلك القارة، وإذا تبسطنا في القول قلنا إنه تركز الآن في النرويج وروسيا وإسبانيا والبرتغال والبلقان وجزيرة ايسلنده. وهما يكن مجموع ما هو موجود منه اليوم في أوربا بالنسبة لعدد سكانها فإنه لا يعد شيئاً مذكوراً في عالم الوبائيات، ولا سيما بعد أن تتاح لنا فيما بعد فرصة للمقارنة بينه وبين ما هو موجود في بقاع أخرى من الكرة الأرضية. ويقدر الأخصائيون ما هو موجود الآن منه في أوربا بنحو 5000 حالة، وإذا علمنا أن عدد سكان الصين يعادل تقريباً عدد سكان القارة الأوربية اعترانا الدهش أو بالأحرى الذهول حينما يقال لنا إن بالصين ما يزيد عن مليون مجذوم، وهذا يوضح لنا مرة أخرى مبلغ تأثير المدينة في مكافحة المرض والقضاء عليه وكذلك استتبابه وتغلغله في تلك الأقطار التي لا تزال تغط في سبات عميق من التواكل والخمول. أليس من المزعج لا بل من المؤلم أيضا أن يكون المرض منتشراً في الصين بنسبة تعادل 200 ضعف قوة انتشاره في أوربا. . .!!؟
ويوجد في الهند نحو300. 000 مجذوم وفي مصر نحو10. 000 مصاب بهذا المرض، وأكثر بقاع الأرض إصابة به هي (كولومبيا) في أمريكا الوسطى وجزيرة (مدغشقر) بالمحيط الهندي، وهذه الجزيرة هي التي تحمل الرقم القياسي لهذا المرض. وليس أدل على ذلك من أن بتلك الجزيرة التي يزيد سكانها عن المليون نحو 8000 مريض بالجذام أو ما يعادل أضعاف قوة انتشاره في الصين وعشرة أضعاف قوة انتشاره بمصر. ولا داعي لأن نقارنه بقلة انتشاره في أوربا إذ ربما نصاب بدوار بالرأس أو ذهول.
كيف كافحته أوربا حتى قضت عليه:
لا مشاحة في أن الحضارة في العصور المختلفة هي التي تكيف حياة الفرد؛ بل حياة الأمة، والأمم التي تأخذ بأسبابها تطبعها بطابعها الخاص فتهديها إلى ما يجب عليها عمله في أمر من الأمور أو في مشكلة اجتماعية خاصة، وتنهاها عما لا يتفق وروح تلك الحضارة. وقوة تفكير الفرد مستمدة من ينبوع حضارته. وهذا مرض الجذام خير دليل على ما للمدنية من قوة فعالة للقضاء على الخبيث من الأمراض، وإسعاد الشعوب بإرشادها إلى ما يحميها مما يهدد كيانها أو ينغص عليها حياتها.
إن أول ما فعله الأوربيون في القرون الوسطى حينما انتشر المرض بين ظهرانيهم، ورأوا من ضحاياه الكثيرين في الشوارع والطرقات يسيرون هنا وهناك، أن اشمأزوا من رؤيتهم، وتأففوا من لمسهم وتجنبوا الاختلاط بهم أو التعامل معهم، وهذا هو العزل الفطري، عزل السليقة والإيحاء، وهو في تاريخ الطب الحجر الأول في نظام العزل الذي نعرفه اليوم (بالعزل أو الحجر الصحي). أزعجتهم في بادئ الأمر تلك التشويهات الخطيرة التي أحدثها المرض بأجسام ضحاياه، وبالرغم من أن جوهره وأسبابه كانت مجهولة لهم تماماً إذ لم يكونوا يعلمون من علم المكروبات شيئاً، إلا أنهم رأوا بالرغم من ذلك كله ضرورة إسكانهم في بيوت خاصة بهم ومنعزلة عن الأصحاء من أبناء جلدتهم، وقد اختيرت لهم في أغلب الأحيان بيوت واقعة خارج المدن لضمان عدم اختلاطهم بباقي السكان.
ولما كان عدد المجذومين في ذاك العهد كبيراً، وإيواؤهم ثم إطعامهم لا تقوى الحكومات إلى القيام به منفردة، انبرى أغنياؤهم إلى مد حكوماتهم بالإعانة والتبرع والإحسان، صرح للمجذومين فوق ذلك أن يجوبوا الطرقات للاستجداء ليساهموا هم أيضا إلى حد ما في سد نفقاتهم، إلا أنه فرض عليهم في نفس الوقت أن يرتدوا لباساً خاصاً، ويضعوا فوق رءوسهم غطاء معيناً ليراهم الجمهور من بعيد ويتميزهم. وإذا غفل عابر سبيل عن أن يرى مجذوماً مقبلاً عليه كان محتماً على المجذوم أن يرفع رداء نصفياً يغطيه حتى الذراعين بضع مرات متوالية في الهواء مؤدياً حركة تشبه طائراً يرفرف بجناحيه حتى يسترعي نظر من هو مقبل عليه ليحذره، ولا يصطدم به، والويل ثم الويل للمجذوم إذا هو غفل عن ذلك فإنه كان يعاقب إذا ذاك عقاباً صارماً.
أصلى محمد باهي