مجلة الرسالة/العدد 67/في الأدب الدرامي
→ من ذكريات لبنان | مجلة الرسالة - العدد 67 في الأدب الدرامي [[مؤلف:|]] |
في المعلقات أيضا ← |
بتاريخ: 15 - 10 - 1934 |
10 - الرواية المسرحية في التاريخ والفن
بقلم احمد حسن الزيات
الملهاة في خلال القرون
أول ما نال الملهاة الإغريقية من العناية كان في صقلية. وكانت يومئذ مقصورة على تصوير العادات العامة دون تلميح إلى السياسة. وكان عميدها في هذا القطر أبيكارم (450ق م) فأما انتقلت إلى أثينا تقلب بها الزمن. فمر بها على أدوار ثلاثة: دور الملهاة القديمة، دور الملهاة الوسطى، ودور الملهاة الحديثة. فالقديمة تمتاز بكثرة النقد الشخصي الصريح، فتسمى الأشخاص وتعين الحوادث. وكانت تسمد موضوعاتها من الواقع اليومية. وتتمتع بالحرية المطلقة في مهاجمة العظماء. والوسطى ظلت كتلك تهاجم أشخاصاً معينين، ولكنها عفت عن ذكر أسمائهم، وأخذت تمثل أنماطاً من الناس وصوراً من الأخلاق، وأما الحديثة فلم تطلب الجاذبية والتشويق في الحوادث اليومية والأهاجي الشخصية، وإنما طلبتهما في تعقيد العمل الروائي، وتصوير الأخلاق العامة. واشهر من عالج الملهاة القديمة أرسطفان (450 - 387 ق. م) وقد كان معروفاً بصفاء الأسلوب، ومرارة الهزل، وشدة الوطنية. غير ان مناظره كانت خليعة فاحشة. أما الملهاة الوسطى والحديثة فلم يؤثر منهما غير قطع منثورة مشتتة، حتى سنة 1907م، فعثروا على ملهاة تكاد تكون كاملة، وهي ملهاة التحكيم لميناندر.
وكان للملهاة عند الرومان من العناية والحظ ما لم يكن للمأساة، فقد نبغ فيها كثير منهم أشهرهم (بلوت 227 - 183ق. م) وقد سار على نهج أبيكارم، إلا أنه عرف بسرعة العمل الروائي، ونشاط الحوار، دون تصوير للمادة، ولا تحقيق للخلق. ثم (تيرانس) (192 - 159ق. م)، وقد قلد منيناندر، في هزله بالحرارة والأناقة والأدب وتنويع الأخلاق والصدق في وصفها.
ثم هجرت الملهاة في القرون الوسطى، وخلفتها في الشهرة والذيوع الرواية الرمزية الخلقية والملهاة العامية والأحموقة فلم يدب فيها دبيب الحياة إلا في القرن السادس عشر. فعادت إلى الظهور في ثوب الملاهي الإغريقية والرومانية، غير أنها كانت مصبوغة باللون الحديث، مطبوعة بالطابع الفرنسي. ومازالت الملهاة تتردد بين الكساد والنفوق، وتترجح بين الهبوط والصعود، حتى جاءها موليير (1622 - 1673) فأقرها في نصابها، وشرع السبيل إلى كتابتها، وطبعها بطابع الملاحظة القومية والحرارة القلبية والذوق السليم. وقد عالج موليير أنواع الملهاة المختلفة بالنظم والنثر: فلهو غير الملاهي المجونية والاشكالية، ملاهي اجتماعية: كالمتحذلقات السخيفات، والنساء العوالم، والحضري الشريف؛ وملاه خلقية: كترتوف، دون جوان، والمتوحش، والبخيل.
كان موليير يتناول العيب أو الحمق وهو في عنفوانه، فيصور منه مناظر طبيعية صادقة، ثم ينتهي من هذا التصوير ببيان عواقبه الوبيلة على صاحبه وعلى المتصلين به فتصوير العيوب هو أكثر ما في ملاهي موليير. أما التعقيد الروائي فهو ضعيف، والحل في جملته يعوزه الإمكان والمنطق، إذ ليس نتيجة طبيعية لحوادث العمل. ثم ذهب موليير وأعقبه رنيار (1655 - 1709) فكتب طائفة من الملاهي الإشكالية كالمقامر والذاهل، ولكن أخلاق أشخاصه ليست محددة الرسوم، وإنما ملئها بالنكات المضحكة، حتى قال فيه (جوبير) (رنيار يهزل هزل الخدم، وموليير يمزح مزاح السادة) ومر القرن السابع عشر، ولم يشتهر في الملهاة غير هذين الكاتبين. ولما جاء القرن الثامن عشر ظهرت فيه طائفة من الملاهي الجيدة. كملهاة تركاريه أو المالي، الكاتب لساج (1698 - 1747) فضح بها حديثي النعمة من المثرين، وحلاق اشبيلية، وزواج الفيجارو لبومارئيه (1732 - 1799) وهما ملهاتان قويتان إلا أنهما لم تراعيا حقوق الأسرة. ثم المسارات الباطلة، والوصية، والتجربة، لمارسيفو (1688 - 1763) وهي ملاهي عني فيها كاتبها بتفصيل الدلال، وتحليل الحب، دون العناية بتصوير الأخلاق ووصف العادات. ثم أشتهرالقرن التاسع عشر بنخبه من الملاهي القيمة لطائفة من نوابغ الكتاب. كبيار (1769 - 1828)، وسكريب (1791 - 1861)، ولأبيش (1815 - 1888)، واوجيه (1820 - 1889)، وأسكندر دوماس الصغير (1824 - 1896)، وفيكتوريان ساردو (1831 - 1908). وقد كان النوع الغالب على هؤلاء الكتاب هو الملهاة الاجتماعية مشوبة بالمذهب الطبيعي، فقد أخذ أوجييه ودوماس يقللان فيها من تعقيد أسكريب وجاء هنري بيك (1837 - 1899) مؤلف (الغربان) فمحا التعقيد وتوخى بساطة العمل وسذاجة الأسلوب. ثم أنقلب المذهب الطبيعي من هؤلاء إلى مذهب المسرح الحر، وهو مذهب سطحي الفكرة خامد الحركة، يهزأ بالقواعد المسرحية، ولا بتقيد بالعمل الروائي، وغنما يكتفي بتكثير المناظر المضحكة، وتصريف الحوار في مختلف النكات المستطرفة الحديثة. ولم يدم هذا المذهب الخليع إلا قليلاً، ثم أودى به إسرافه وتهوره. وظلت الملهاة الاجتماعية أو الجدية أو المبكية تسير مع الزمن، وتتطور مع أهله ونظمه، حتى حلت محل الدراسة الابتداعية وأصبحت اليوم موضوع المسرح الحديث كما سنبينه عند الكلام في الدراسة.
تلك حال الملهاة في فرنسا. أما حالها في إيطاليا فقد ظلت خافتة الصوت ضعيفة الأثر قليلة النجاح حتى القرن الثامن عشر. فما كان يظهر منها قبل ذلك العهد إلا نوع غير مسطور، يرتجله الممثلون تبعاً لخطة مرسومة من قبل. فلما نبغ الكاتب (جولوديني) (1707 - 1793) وهو عند الإيطاليين كموليير عند الفرنسيين، أسس قواعد الملهاة ونهج سبيلها لبنى قومه: وأما في أسبانيا فملهاتها الوطنية كانت ملهاة المعطف والسيف وهي نوع من الرواية المنزلية، بطلها دعي من أدعياء الشجاعة الذين يسمونهم ماتامور (أي قاتل العرب) لأن الرجل من هؤلاء كان يملأ ماضغيه فخراً بكثرة ما قتل من العرب كذباً وادعاء وكانت عنايتهم في هذا النوع لتعقيد الحوادث أشد من عنايتهم بتصوير الأخلاق. وأشهر تلك الملاهي: الطاحون، وكلب البستاني، للوبي دي فيجا (1562 - 1635)؛ وساخراً أشبيلة، ونديم بطرس، لجبريل تلز؛ والحقيقة المريبة لرويز دالر كون (1639) وهي التي أستمد منها موليير أخلاق ملهاة (الكذب).
وأما في إنجلترا فلم بنبغ في الملهاة غير شكسبير (1564 - 1616) فقد كتب: (ثرثارات وندسون الفرحات)، وجعجعة ولا طحن وتيمون الخ، وهذا كل ما تجده من الملهاة الأصيلة في الأدب الإنجليزي.
أما غيره فقدا أكتفى باقتباس الملاهي الفرنسية أو تقليدها. وأما في ألمانيا فلم ينفق فيها غير الملهاة العامية في العاب (المرفع)، وهو نوع من التمثيل المضحك البذيء. أما الملهاة الأدبية فلم يؤثر عن الألمان منها إلا شيء قليل القيمة عديم الأثر، على رغم كوتزبيو وأمرمان، وبلوم، وبينديكس، وهكلندر من الفوز.
تحليل موجز لأشهر ملاهي موليير
كانت الملهاة قبل موليير تعتمد على قوة المواقف بدلاً من تصوير العواطف، وعلى المضحكات الخيالية بدلاً من المضحكات الطبيعية، وعلى أسماء الأشخاص، وعلى العمل الخارق المستحيل بدلاً من العمل الواقعي الممكن. فكانت خليطاً مهما من الأسماء، ومكارم ساقطة من السماء، عفواً في موضع الانتقام، ومزيجاً غريباُ من التقاليد الإغريقية والرومانية والأسبانية والإيطالية. فجاء الملهاة الفنية الحقيقة لجميع العالم، ولذلك نكتفي بان نحلل بعض ملاهيه نموذجاً لبناء الملهاة، وتقسيم فصولها، وتدبير عملها، وتدريج جاذبيتها.
صورة لرجل طريم غالي في الصراحة والتشدد حتى كان موضع الهزء والسخرية، وهي من الملاهي الخلقية التي لا وجود للعمل الروائي فيها. أهم أشخاصها: ألست المتوحش، وهو خطيب سليمين، وفيلنت صديق ألست، وهو رجل لطيف المعاشر، إلا انه مفرط المزاح، وسليمين فتاة أرملة تسعى إلى الإعجاب من طريق الزهو والصلف، وأورنت حبيب آخر لسليمين، وليانت بنت عم سيليمن، وآكاست وكلتياندر مركيزان، وارسيونية صديقة سليمين. وقد وقعت حوادثها في باريس في قصر سليمين.
الفصل الأول:
السست وصديقه فيلنت في قصر سيلمين ينتظران خروجهما عليهما، وفي أثناء، ذلك يؤنب ألست صديقة فيلنت على أنه لقي رجلاً في عرض الشارع لا يكاد يعرفه، فبالغ تحيته وإكرامه. فهو يقول له: إن مثل هذا العمل لا يزكو بالحر ولا يتسع له العذر. فيلنت يجيبه في مداعبة ورفق: إن المرء مادام في الناس مقضى عليه أن يسايرهم بالمصانعة، وبعاشرهم بالموادعة، والحياة تحب التظرف، والعقل يكره التطرف. ولكن الست مسرف في بغض الناس فلا يستمع له، حتى أن له قضية منظورة في المحكمة لا يفكر فيها ولا يشغل باله بها إعتماداً على ظهور حقه، بل يتمنى أن يخسرها لتهيئ له أسباب السخط والحفيظة على ظلم الإنسان. على انه بالغرم من انقباضه واستحياشه يحب الفتاة أرملة تدعى سليمين، ولكنه يعترف بدلالها وخلاعتها، وبأسف لأنها تستقبل في بيتها كثيراُ من الخطاب والأحباب، وهو لذلك يريد أن يستطلع رأيها في الموضوع. ويدخل على الصديقين في الساعة أورنت - وهو خطيب آخر لسليمين مولع بقرض الشعر - فينتظر معهما. وهو أثناء ذلك يرجو منهما أن ينشدهما قصيدة من نظمه، فيستحسنهما فيلنت ويستهجنها ألست، ولكنه يمسك على ما في نفسه منها، ثم يلمح بما فيها من المآخذ، وينتهي به الأمر إلى التصريح بأنها سخيفة ركيكة، فيخرج الشاعر غضبان بتوعد. ويقول فيلنت لصديقه وهو يحاوره: هاك خصومة جديدة جلبتها على نفسك بإفراطك في الصدق وغلوك في الصراحة.
الفصل الثاني:
(بهو سليمين والغيبة). يلقى الست سليمين فيلومها على خلاعتها، ويريدها ان تصرح له بحقيقة حبها ورغبته قلبها، فينقطع عليها الحديث قدوم (آكاست) و (كليتاندر)، ثم (اليانت) و (فلينت) فيأخذون مجالسهم، ويخوضون في أعراض الناس، وتجيد سليمين وصف النفوس اللئيمة، فيعجبون بها ويصفقون لها ولكن الست ينكر ذلك منها، ولا يجرؤ على مجابهتها بالإنكار، فتنفجر مراجل غضبه على المراكيز لتصويبهم رأيها. فإذا ما تساير الغضب عن وجهه عاد إلى سليمين يسألها ان تعلن من اختارته من الخطاب، ولكن شرطياً يقتحم الباب فجأة ويدعوه إلى المحكمة للفصل في الخصومة التي بينه وبين أورنت.
الفصل الثالث:
(خبث الرياء وعبث الدلال) كذلك المركيزان آكاست وكليتاندر يريدام سليمين على أن تعلن من اختارته منهما، وتقبل (ارسيونيه) صديقة سليمين فيخرج المركيزان وتختلى الصديقتان فتتبادلان السباب في أسلوب المناصحة: تحكى أرسيونيه لسليمين في لهجة مرة ما يرميان به الناس في الأندية والمجامع من الخلاعة والتهتك؛ وتحكى سليمين لأرسيونية ما بتقوله الناس عليها من المراءاة بالحشمة وهي داعرة. ويدخل عليهما ألست فتخرج سليمين لتكتب رسالة وتتركه مع أرسيونيه فتنتهز هذه الفرصة لإيعاز صدر ألست على سليمين فتريه أنه مخدوع وأنها خادعة، وتعده أن تقيم له على خيانتها إياه الدليل.
الفصل الرابع:
(رسالة سليمين) يأتى فيلنت فيعلن أن الخصومة بين ألست وأورنت قد انتهت بالصلح، ويدخل من بعده ألست وهو ينتفض من الغضب، وفي يده كتاب غرام من سليمين إلى أورنت جاءته به أرسيونيه دليلاً على خيانة خطيبته فيقول: آه! لقد خاب الرجاء، وضاع الأمل، وظهرت الخديعة، وبان الغدر؟ فتترضاه سليمين بالدهاء، وتفثأ غضبه بالملاطفة، ويجري بينهما الحديث، ولكن خادمه يأتي مسرعاً إليه ينبهه إلى أن شرطياً جاء يقبض عليه في خصومة.
الفصل الخامس:
(المقاطعة) يخسر ألسست قضيته التي أهملها فينحى باللوم والسخط على فساد الحياة ولؤم الناس، ويعثر أكاست وكليتاندا على رسائل لسليمين فيقرآنها على ألسست ويستيقنون جميعاً بأنها تخونهم وتخدعهم وينصرف عنها المركيزان ويبقى ألسست مقيداً بسلاسل هواهها، فيعدها بالعفو عن ما سلف إذا رضيته زوجاً وعاشت معه في خلوة الريف، فترفض طلبه. فييأس المستوحش ويعتزل الناس وهو يقول:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متعزل
ملحوظات عن الرواية:
الفصل الأول أية من آيات الفن، فقد عرض فيه المؤلف في حوار قوي على لسان فيلنت وألسست أسماء الأشخاص الأصليين وأخلاقهم وذكر غضب ألسست وغرامه، وبرودة قلب فيلنت، وخلاعة سليمين، واخلاص اليانت، ورياء أرسيونيه الخ.
أما التعقيد فيؤخذ عليه ضعفه وبطؤه، إلا أن العمل كاف وبسط الأخلاق متدرج. والحل يعيبه بعض النقاد بالنقص من غير حق. فإن سيليمين جوزيت على خلاعتها وخبها بأن هجرها خطابها جميعاً. والسست أعتزل العالم، والمركيزان ذهبا يعرضان زهوهما الأجوف في مكان آخر، وفيلنت واليانت يستعدان لحفلة الزفاف.
يتبع
(الزيات)