مجلة الرسالة/العدد 669/يوم ولا كالأيام!
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 669 يوم ولا كالأيام! [[مؤلف:|]] |
أيام العروبة تبدأ في سورية! ← |
بتاريخ: 29 - 04 - 1946 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
كان يوم الاثنين الماضي في مصر يوم شم النسيم.
وشم النسيم في مصر يوم ولا كالأيام أو عيد ولا كالأعياد.
لأن العالم كله لا يعرف يوماً من أيام المواسم تلاقي فيه من المراسم والشعائر وتراث الأديان الباقية والبائدة ما تلاقي في هذا اليوم.
ففيه من شعائر الأديان البائدة أنه يوافق عيد الحصاد أو عيد الربيع، ويحتفل به الناس كما كانوا يحتفلون بعيد الخليقة قبل آلاف السنين.
وفيه من شعائر الدين الإسرائيلي أنه يوافق عيد الفصح، أو عيد الخروج من مصر مع موسى الكليم.
وفيه من شعائر المسيحية أنه يأتي يوم أثنين ولا يأتي يوم أحد، ليقترن بعيد القيامة ولا يختلط به في احتفال واحد.
والغربيون يذكرون عيد القيامة بأسماء تدل على بعض هذه التواريخ من جوانب متعددة.
فاسم (أيستر) الذي يعرف به في اللغة الإنكليزية مأخوذ من استر أو اشتار، أي عشتروت ربة الربيع.
واسم باك الفرنسي وباسكا الإيطالي مأخوذان من كلمة باسكا اليونانية وهي مصحفة من كلمة فسح العبرية وتكتب بالحروف اللاتينية، وهي في العبرية تقارب معنى فسح في العربية بمعنى الإفساح والتسريح، إشارة إلى اقتران العيد بانطلاق الإسرائيليين من أسر فرعون.
فالربيع الفصح والقيامة وشم النسيم موسم واحد متفق الموعد مختلف المراجع والأصول.
ولكل شعيرة من شعائر هذا الموسم سبب جديد وسبب قديم، أو تعليل يقول به مفسرو الأديان، وتعليل يقول به التاريخ.
فالإسرائيليون كانوا يذبحون فيه الحملان ويأكلون فيه فطيراً غير مخمر، ويقولون في تعليل ذلك إن ملك النقمة الذي ضرب أبناء المصريين بالموت كان ينظر إلى الأبواب فإن رأى فيها أثر الدم من الضحية تركها، وإن لم يره دخل البيت وأهلك أول أبنائه، وه علامة للتفرقة بين بيوت المصريين وبيوت الإسرائيليين.
ولما هب بنو إسرائيل للفرار من أرض مصر، اعجلوا عن انتظار العجين حتى يختمر فأكلوا خبزهم في ذلك اليوم فطيراً، فهم يحيون تلك الذكرى بأكل الفطير في مثل ذلك اليوم من كل عام.
أما مراجع التاريخ فتقول أن ذبح الحملان وأكل الفطير من أقدم شعائر الرعاة على سبيل القربان والاحتفال بالخير الجديد. فيتقربون إلى إله الزرع بذبح حمل مولود في عامه ويأكلون الحب الجديد غير مخلوط بخميرة من محصول قديم. وقد شاع أكل الفطير في المراسم الدينية تقرباً إلى الآلهة بين أتباع الأديان التي تعرف بأديان الأمومة، ويراد بها الأديان التي يعبد فيها الإله وأمه معاً، ويقال عن أمه في معتقداتهم إنها هي مصدر الخصب والولادة والنماء.
وقد كان المصريون الأقدمون يحتفلون بعيد الربيع في موسم قريب من موسم الفصح أو موسم القيامة بعد ذلك، وكانوا يرمزون فيه للخصب والولادة بأكل البيض لأن البيضة رمز كل ميلاد، ويرمزون فيه للمحصول الجديد بما يأكلونه من البقل الأخضر والبصل الأخضر كما نفعل في هذه الأيام.
فأخذ الإسرائيليون شيئاً من مراسم هذا الموسم، وجاء المسيحيون فمزجوا بين عيد الربيع الذي تبعث فيه الأرض وعيد القيامة الذي يبعث فيه السيد المسيح، واعتقد بعض شراحهم أن السيد المسيح حوكم وقضي عليه بالموت في يوم احتفال اليهود بعيد الفصح وهو اليوم الرابع عشر من شهر نيسان، وعدل فريق منهم عن هذا الموعد إلى الاحتفال بعيد القيامة في يوم الأحد الأول بعد أول قمر كامل يلي موعد الاعتدال الربيعي، أو موعد دخول الربيع.
ويأتي شم النسيم في الاثنين التالي لعيد القيامة، فهو يوم ولا كالأيام، لأنه من أيام الطبيعة وأيام العقيدة وأيام التاريخ، وفيه بيان ولا ككل بيان لمبلغ الاتصال بين الأديان من قديم وحديث، ولو تقصينا فروعه وشعابه في تاريخ كل زمرة وشعائر كل نحلة لما وسعه سفر كبير.
ولم يكن هذا العيد معروفاً باسم شم النسيم في العصور التاريخية القديمة، ولكنه سمي بذلك بعد شيوع اللغة العربية في البلاد المصرية، ولا يذكر على التحقق سبب هذه التسمية ولكننا قد نفهمه من مصطلحاتنا التي نجري عليها اليوم في الدلالة على معناه.
فالمصري يسمي الرياضة فسحة أو شم هواء، وليس أقرب من تحويل عيد (الفسحة) أو عيد الفصح إلى عيد شم الهواء أو شم النسيم، ولا سيما في الموسم الذي تستطاب فيه النسمات، وتضيق فيه الصدور برياح الخماسين.
وقد شاع بين المصريين المحدثين أن (شم النسيم) يوم تختلس فيه النسمات فجراً، وتباكر فيه الحدائق والبساتين قبل امتلاء الفضاء بأشعة النهار، ومن لزم منهم المساكن ولم يخرج للنزهة في ظلال الأشجار فالرأي عندهم في الاستمتاع بطيب الهواء خلال ذلك اليوم أن يغلقوا عليهم النوافذ من الصباح ليحفظوا في البيوت بقية من هواء الليل الرطيب قبل أن تلهبه حرارة الشمس بأنفاس الطريق.
وتذكرنا هذه العادة بطريفة من طرائف الزعيم الكبير سعد زغلول رحمه الله، وقد تحدث إليه بعضهم عن حصافة (ذوي الرأي) في البلاد، وكان الموعد كموعد هذه الأيام.
قال رحمه الله: إني محدثكم عن حصافة ذوي الرأي هؤلاء، ولا أعفي نفسي مما يصيبهم في هذه الأحدوثة، فقد اتفقنا قبل يوم من أيام شم النسيم أن نقضيه في دار صديق من أصدقائنا، ونحن جماعة من ذوي الرأي كما تسمونهم سامحكم الله، وكان فينا العالم والكاتب والفقيه والمنطيق ومن يشار إليهم بالبنان في كل معضلة من معضلات الزمان.
وتوقعنا حرارة الجو المعهودة في موسم شم النسيم فاتفقنا على أن نتقيها بإغلاق النوافذ والأبواب منذ الصباح، ثم أغلقناها كما اتفقنا وقضينا سويعات من بكرة النهار في هواء رطيب محتمل، ونحن نغبط أنفسنا على هذه الحيطة ونرثي لمن فاتهم أن ينعموا بهواء البيوت وخرجوا إلى القيظ في الخلاء.
غير أن الحجرة ضاقت بأنفاس من فيها، وزادهم ضيقاً على ضيق كثرة المدخنين من نزلائها، وجعلوا يقولون فيما بينهم أنه قدر أهون من قدر، وأن احتمال الدخان خير من التلظي بنار الجو المحترق الذي قد يلفحنا بشواظه من وراء النوافذ والأبواب، لو فتحت النوافذ والأبواب.
واختنقنا ضيقاً ونحن على هذا الاعتقاد، وتفصّدنا عرقاً ونحن على هذا الاعتقاد، ومضى نصف النهار ونحن على هذا الاعتقاد.
ثم قدم إلينا قادم من أصدقائنا ففتحنا له الباب اضطراراً؛ فأوشك أن يرجع أدراجه لحبسة الهواء في داخل الدار.
قال متعجبا: ما بالكم تسجنون أنفسكم هذا السجن الثقيل في هذا اليوم البديع؟
قلنا: قدر أهون من قدر أليست حبست الهواء هنا أهون من نار الفضاء خارج الدار؟
فضحك وهو يقول: أي نار فضاء؟ إن الفضاء ليخفق بالنسيم الجميل، وإنه كما يقولون ليشفي العليل.
وتقدم إلى النافذة ففتحها، وتقدم غيره إلى نافذة غيرها ففتحها، فإذا بالنسيم كما وصفه جميل يشفي العليل!
ونظر بعضنا إلى بعض متضاحكين، وفاتنا ونحن خلاصة ذوي الرأي أن نجازف بالتجربة، فنغنم نصف النهار ونستريح من كل ذلك العذاب.
وطرافة القصة كلها فيما ساقه فيها الزعيم الكبير من العبرة وأحاطه بها من التهكم والفكاهة، ولكنه قد جار على نفسه هنا وجار على أصحابه بعض الجور لأخذهم بجانب الخطأ وحرمانهم جانب الانتفاع بحق (الرأفة) في الحكم أو بحق الصواب.
فلو اتفق أن الهواء كان على عادته من الحرارة والغبار في تلك الآونة لما كان بقاؤهم وراء النوافذ المغلقة خلواً من الرأي السديد أو بعيداً كل البعد عن وجه الصواب.
ونحسب بعد هذا أن الخروج من شم النسيم بأضحوكة واحدة أو بمفارقة واحدة فريضة لا فكاك منها لتحية العيد الذي يسمى بعيد الربيع وعيد الشباب والحب والجمال. وهل يستحق الربيع اسمه إذا تنزهت فيه الدنيا عن الأضاحيك والمفارقات؟
ربما كان من مفارقاته الخالدة أننا نحن المصريين احتفلنا به زمناً إذ كان الاحتفال به - بين ظهرانينا - احتفالا بالنجاة منا والخروج من بلادنا. وأننا قد وصلنا به ما تقدم من تأريخنا العريق كأنما كانت فترة بني إسرائيل عارضاً بين فصول الرواية الأبدية لا يدخل في حساب المؤلف الخالد مؤلف التواريخ والأحقاب، وقد كانت لتلك الفترة العارضة صفحة متجاوبة الأصداء، لا يخفت دويها المتتابع مع الزمن في مسامع بني آدم وحواء.
عباس محمود العقاد