مجلة الرسالة/العدد 668/مقابلات بين أقوال جحا وأقوال الشعراء والكتاب
→ على هامش النقد: | مجلة الرسالة - العدد 668 مقابلات بين أقوال جحا وأقوال الشعراء والكتاب [[مؤلف:|]] |
الأدب في سير أعلامه: ← |
بتاريخ: 22 - 04 - 1946 |
للأستاذ كامل كيلاني
(بقية المنشور في العدد 666)
5 - صغار الأشياء
يقول شيخنا المعري:
العمل - وإن قل - يستكثر، إذا اتصل ودام، لو نطقت كل يوم لفظة سوء، لاسودت صحيفتك في رأس العام.
ولو كسبت كل يوم حسنة، عددت - بعد زمن - من الأبرار.
إن اليوم ائتلف من الساع، والشهر اجتمع من الأيام، والسنة من الشهور، والعمر يستكمل بالسنين. .
الرجل مع الرجال عصبة، والشعرة مع الشعرة ذؤابة (وهي الضفيرة المرسلة من الشعر) والحجر فوق الحجر جدار، والنخلة إلى النخلة حائش (جماعة من النخل).
ويقول بعض شعراء أوربة.
(قطرات المياه منها محيط ... وصغار الحصى تكوّن أرضاً
ودقيقاتنا تؤلف جيلا ... بعد جيل في إثره يتقضى
وقليل الحنان والحب مما ... يجعل الأرض جنة الخلد خفضاً)
فكيف يعبر صاحبنا عن هذه المعاني بأسلوبه الجحوي الفاتن:
6 - برميل العسل
يقول:
(كان والينا الجديد - فيما سمعت وسمع غيري من الناس - مما ترامى إلينا من أخباره يحب العسل حباً شديداً، ويؤثره على غيره من ألوان الحلوى ولذائذ الفاكهة جميعا.
وقد احتشدنا لاستقباله وتأهبنا للاحتفاء بمقدمه بعد أن اجتمع رأينا على أن نهدي إليه برميلاً كبيراً نملأه بأحب الطعام إليه وهو العسل.
وتعاهدنا على أن يسهم كل واحد منا في تلك الهدية بأيسر نصيب. فيلقى في ذ الكبير بمقدار فنجان صغير.
وخطر ببالي - حينئذ - خاطر عجيب فقد سولت لي نفسي أن أهرب من أداء هذا الواجب اليسير الذي لا يكلفني شيئاً. وقلت في نفسي، والنفس أمارة بالسوء:
إن مئات غيري من الناس، سيقومون بأداء هذا الواجب عني. ولن تقدم هديتي شيئا ولن تؤخر. فلو ملأت الفنجان ماء أو عسلا لما نقصت الهدية شيئا ولا زادت، ولما شعر أحد بتقصيري.
ولكن شد ما دهشت حين فتح الوالي برميل العسل أمامنا. فوجده مملوء ماء كله. وليس فيه قطرة واحدة من العسل.
لعلكما أدركتما السر في ذلك - يا ولدي - فإن تلك الفكرة الخاطئة التي مرت على بالي ودفعتني إليها الأثرة والأنانية إلى إنفاذها قد مرت على بال كل واحد من أصحابي المئين الذين اجتمعوا لتكريم الوالي.
وهكذا كانت هديتنا إليه برميل ماء لا برميل عسل. وقد تركت الهدية في نفس الوالي بعد ذلك أسوأ الأثر، وكانت سيرته معنا كما كانت سيرتنا معه من أقبح السير.
وكان هذا أبلغ درس وعيته في شبابي، وأدركت مغزاه، فلم أنسه طول حياتي.
7 - دولاب الزمن
يتمثل بعض الشعراء، فيما يتمثلون من أخيلتهم البارعة؟ أن الزمن بحر، ونحن راكبوه على سفائن - من أعمارنا - لا تلبث أن تحطمها الأمواج المصطخبة الثائرة. وفي هذا يقول شيخ المعرة:
(ركبنا على الأعمار والدهر لجة ... فما صبرت للموج تلك الصفائن)
ثم يتمثل شاعر آخر أن سفينة الحياة تخيل لرائيها أنها واقفة على حين يجري بها الزمان، وفي هذا يقول (مهيار الديلمي):
وإنا لفي الدنيا كركب سفينة ... نُظَنُّ وقوفا والزمان بنا يجري)
ثم يتمنى شاعر ثالث لو استطاع أن يلقى بمراسي هذه السفينة في ذلكم البحر الزمني، لتقف ولو يوما واحدا، فيقول الشاعر المبدع (لامرتين) في قصيدته البحيرة وهو من المعاني التي افتن الشعراء فيها وأبدعوا في صوغها وتصويرها إبداعا: (هكذا وأبدا، نظل مدفوعين إلى سواحل جديدة من الحياة في ليل الأبدية المظلم، لا رجع ولا عود. فهل يتاح لنا أن نلقى مراسي سفينتنا فوق أوقيانوس الزمن؟ وهل يقر قرارنا يوما واحدا؟)
وقد أبدع البحتري - قبل لامرتين - في هذا المعنى أي إبداع حين قال:
(ليت أن الأيام قام عليها ... من إذا ما مضى زمان يعيده)
ومن قبلهما التفت (امرؤ القيس) إلى طول الليل التفاته فريدة، فتمثله خياله المبدع الوثاب، كأنه واقف لا يتحرك، بعد أن شدت نجومه - إلى جبل يَذبَلَ - بأوثق الأسباب، وأمتن الحبال لتمنع الليل عن الحركة وتعوقه عن الانتقال. فقال في معلقته الخالدة:
(فيالك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل)
ثم جاء المعري فمثل لنا العاشق الولهان يود لو استطاع أن يديم ظلام الليل فلا ينتهي، ويتمنى لو يزيد في سواده سواد قلبه وسواد عينه ليطيله قليلا. فقال:
(يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر)
وقال صَرَّدر:
(يا ليت عمر الفتى يُمَدُّ له ... ما امتدُ منه الرجاء والأمل)
وقال:
(فليت الفتى كالبدر جدد عمره ... يعود هلالا كلما فنى الشهر)
ثم جاء (ابن الفارض) فقال:
(يا ليل طل، يا نوم زل ... يا صبح قف: لا تطلع)
ولو شئنا أن نتقصى ما قاله الشعراء في هذا الباب لامتد بنا نفس القول دون أن نبلغ من ذلكم مداه. ولكن حسبنا أن نشير إلى قول الشريف الرضي:
(يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء بالسحر)
وقوله:
(ردوا عليّ ليالي التي سلفت ... لم أنهن ولا بالعيش من قدم)
وقول مالك بن الريب:
(فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه ... وليت الغضا ماشي الركاب لياليا) وقول الشريف أيضا:
(ولو قال لي الغادرون ما أنت مشته ... غداة جزعنا الرمل: قلت أعود).
يحسبنا هذا القدر على وجازته. وقديما قالوا:
(حسبك من القلادة ما أحاط العنق).
فلننتقل إلى الدعابة الجحوية لنرى كيف تعبر في سذاجة نادرة عن هذه الأعماق والدقائق المعنوية، التي صاغها المبدعون في دورة الفلك ودولاب الزمن:
يسأل جحا وهو صغير:
(أيكما أكبر: أنت أم أخوك؟)
فيقول:
(أخي يكبرني بعام واحد، فإذا جاء العالم القابل تساوينا في العمر).
ويسأل وهو كبير:
(كم سنك يا جحا؟).
فيقول: (أربعون عاما!).
فيقول له بعض سامعيه:
(ألم تقل لنا ذلك منذ سبعة أعوام؟).
فيجيب جحا في غير تلعثم ولا ارتباك:
(وهل يغير الحر كلامه؟).
فأنت ترى في القصة الأولى: تدفعه الرغبة المفكرة، أو التفكير الراغب إلى أن يتمثل: أن دولاب الزمن قد وقف بأخيه عاما ليدركه جحا.
فإذا كبر: دفعته الرغبة أن يتمثل قدرته على وقف دورة الفلك عند سن الأربعين لأنه لا يريد أن يتخطى هذه السن أبدا. وحسبه أن يعيش على هذه الأمنية ما دام في تخيلها سعادته.
ورحم الله الشاعر الذي يقول:
(مُني إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا)
8 - المرأة والسن ومن بديع لفتاته حين رأى صديقا له مكتئبا حزينا، فسأله عما يحزنه، فقال:
(لقد نشب بين زوجي وأختها عراك عنيف لا أدري كيف ينتهي، وقد جئت لأستعين بك على فض ذلك النزاع بحكمتك وكياستك).
فسأله جحا: (أتراهما تشاجرتا لاختلافهما على عمريهما؟)
فقال له: (كلا يا صاحبي لم يدر لهما هذا المعنى على بال).
فقال جحا: (عد إلى بيتك مطمئنا فلن يطول شجارهما يا صاحبي).
9 - الإسراف والاعتدال
يقول الشاعر:
(يتمنى المرء في الصيف الشتا ... فإذا جاء الشتا أنكرهُ
ليس يَرضَى المرء حالا واحدا ... قتل الإنسان ما أكفرهُ)
ويستمع صاحبنا جحا إلى رجل يشكو زمهرير الشتاء ويلعن برده القارس، وينبري للشاكي أحد المتحذلقين فيعنفه على شكواه، ويقول له: (لقد كنت تشكو في الصيف الماضي وقدة الحر، وعنف القيظ، فما لك تبرم بالشتاء إذا جاء؟
فيعجز الشاكي وأصحابه عن الإجابة، ويلتفت جحا التفاته رائعة. فيقول:
(لقد طالما شكا الناس زمهرير الشتاء، وقيظ الصيف، فهل رأيت أحدا يشكو: اعتدال الربيع؟).
وكأنما أوحى بهذه الإجابة البارعة إلى ابن الوردي قوله في ذم الإسراف والغلو:
بين تبذير وبخلَ رتبة ... وكلا هذين، إن زاد قتل
10 - مناجاة النفس
ويقولون: إنهم سمعوا جحا يتحدث في غرفته وليس معه أحد، وكأنما يحدث شخصا آخر؛ فلما فتحوا باب الغرفة ليتعرفوا جلية الأمر وجدوه يحدث نفسه. فسألوه (كيف تحدث نفسك يا جحا؟).
فقال: (لقد برمت بغباء الناس وضيق عقولهم، وعجزهم عن فهم الدقائق التي تقصر أفهامهم عن بلوغها. واشتقت إلى محادثة بارع فطن ذكي يفهمني وأفهمه، فلم أجد غير نفسي، فرحت أناجيها وأفضي إليها بدخلتي).
ألا تذكرنا هذه القصة بقول الشاعر الأندلسي المبدع (ابن حمديس).
(سواي من يعتد من أنسه ... ما نال من حظ ومن كأسه
وحق مثلي أن يرى خاليا ... بنفسه يبحث عن نفسه)
وقد نسبت هذه القصة إلى الساحر المبدع (برناردشو، كما نسبت إلى جحا من قبله. ولعلها من مختلقات الرواة؛ فإذا صحت نسبتها إليه أيضا فهي من توارد الخواطر، وما أكثر ما تلتقي العقول الكبيرة كما التقت عقول جحا وبرنارد شو وابن خفاجة الأندلسي.
كامل كيلاني