الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 667/قصة الذرة

مجلة الرسالة/العدد 667/قصة الذرة

بتاريخ: 15 - 04 - 1946


للأستاذ فوزي الشتوي

دوى اكتشاف آل كوري في العالم أجمع خواص الراديوم العجيبة الغريبة، وخلق مجالي حديث وبحث واسعي النطاق؛ فاحتضنه الأطباء لعلاج الأمراض المستعصية مثل السرطان، ولكنه أوجد صداعا دائما لعلماء العلوم الطبيعية الذين يريدون تفسير ظواهره وخواص وسر إشعاعاته وقوته البالغة.

أحسوا أن كل علومهم عن الطبيعية والمادة معلومات قليلة القيمة لا تزال في مهدها. فلم يعد أي عالم يستطيع الجهر بأنه يدرك شيئا عن سر المادة. فهل الذرة وحدة صماء لا تنقسم أم هي عالم آخر غير العالم الذي أدركوه وفكرة أخرى غير التفكير والمنطق الذي ساورا على هديه كل تلك السنين؟

وكان المعروف في أواخر القرن الماضي أن عناصر تتألف من سبعين عنصرا - وقد زادت الآن إلى 93 - مثل الأوكسجين والحديد والذهب وغيرها. فهل هذه العناصر هي الوحدات التي تتركب منها مواد الكون؟ أم أن الطبيعة تحتفظ بسر مازال مجهولا؟

كانت ظاهرة الإشعاع في الواقع أمراً يستدعي كثيراً من العلم والتجربة لتفسير خفاياها. وأحس العالم بحاجته الماسة إلى تجارب عظيمة متشبعة ليكشف نواحي الغموض التي تحيط بالإشعاع. فاندفاع العلماء بكل نشاط في هذا السبيل فخدمتهم المصادفة مرة وخدمتهم علومهم أخرى فتكللت أبحاثهم بالنجاح.

الذرة المعقدة

ولم يمضي وقت طويل حتى انغمر في أبحاث الذرة. فحتى تلك اللحظة كان العلماء يعتقدون أن الذرة أصغر الجسيمات فأثبتت أشعة إكس المجهولة، والنشاط الإشعاعي أن الذرة بناء شديد التعقيد مؤلف من جسيمات أصغر. وكان أول رواد هذا البحث السير تومسون أستاذ العلوم الطبيعية في كامبردج بإنجلترا. ولم يقتصر عمله على الأبحاث والنتائج التي وصل إليها بنفسه بل درب فريقا من الشبان ليواصلوا العمل وحدهم، ويكتسبوا الشهرة الدولية. ومنهم السير ارنست رذرفورد والبروفيسور ولسن والبروفيسور لنجفين الفرنسي.

بدأ تومسون تجاربه على أشعة إكس (المجهولة) ولكنه احتاج أن يعود إلى تجارب كروكس وأنبوبتا. وأنت تذكر أن سيالها الكهربائي كان ينحرف بالمغناطيس كما تذكر أن كروكس أطلق على الأشعة حالة رابعة للمادة سماها حالة الإشعاع. وقد أثبت تومسون أن دقائق هذه الأشعة أصغر من الذرة وسماها جسيمة ولكن العلماء أطلقوا عليها فيما بعد اسم الكهرب أي وحدة الكهرباء.

والمعرف أن الإيدروجين هو أخف العناصر الكيماوية، وأن ذرته هي أخف الذرات، وقد أدت تجارب تومسون إلى حقيقة غريبة محيرة؛ فإنه أثبت أن وزن كهربها يساوي واحد إلى 1800 من وزن ذرة الإيدروجين. فكان هذا الكشف أول فتح في مجاهل تركيب الذرة وبنائها. فمم يتألف باقي تكوينها؟

من الحقائق التي يسهل استنتاجها أن تلك الكهارب سالبة

الشحنة الكهربائية لأنها منبعثة من مهبط كروكس السالب.

وليس من شك أن الشحنة الكهربائية السالبة تحتاج إلى شحنة

موجبة تعادلها. فإن المواد في حالتها الطبيعية الساكنة يجب أن

تكون متعادلة الشحنات الكهربائية ولهذا استولى الشك فترة

على العلماء في حقيقة كشفهم للكهارب السالبة. ولكنهم لم

ييأسوا بل استمروا في طريقهم حتى يثبت ما يلغي نظريتهم

الأولى أو تستقر بكشف باقي تكوين الذرة. ألف باء الذرة

ولم تمض حتى وفق أنست رذرفورد أحد تلاميذ تومسون ومساعديه إلى تفسير معقول. فأجرى مجموعة كبيرة من التجارب البارعة لتحليل الأشعة المنبعثة من عنصر الراديوم. ومنها أثبت أنها تتألف من ثلاثة أنواع سماها على حروف الهجاء اليونانية وأولها ألفا والثانية بتا والثالثة جاما

وكانت طريقة التحليل بسيطة ولكنها كانت من أهم الأسباب في ذيوع اسم رذرفورد وأهلته فيما بعد لأن يحتل مركز أستاذه تومسون. وقد ذكرنا من قبل أن العلماء عرفوا ناحية واحدة من بناء الذرة وهي الكهارب السالبة التي يتحتم أن تتعادل بكهارب موجبة فأين هي هذه الكهارب الموجبة؟

فلو أتيت بكتلة من رصاص بها جحر عميق، ووضعت في هذا الجحر قطعة راديوم فإن الأشعة تخرج من الجحر مستقيمة ولكنك لو مررتها في مجال مغناطيسي فإنها تنقسم إلى ثلاث شعب تنحرف إحداها إلى اليمين، والثانية إلى اليسار، بينما يسير الثالثة في حط مستقيم. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن ندرك أن الأشعتين اللتين تنافرتا مختلفتا الشحنة. وقد سميت الموجبة منها بأشعة ألفا بينما سميت السالبة بأشعة بتا، أما الأشعة المتعادلة فأطلقوا عليها اسم جاما.

وثبت أن أشعتي ألفا وبتا تتألفان من جسيمات صغيرة تحمل الشحنات الكهربائية ولكن أشعة جاما ليست مكهربة وهي عبارة عن إشعاعات ضوئية وإن اختلفت عن أضوائنا الكهربائية في قصر موجتها.

وأثبت رذفورد أن أشعة جاما تشبه أشعة إكس في موجتها ولكنها اقصر، أما أشعة ألفا فقد بهرته كما بهرت العالم فقد وجدها ذات شحنة كهربائية موجبة. وكانت أثقل في الوزن من أشعة بتتا السالبة كما أن سرعتها المتدرجة الزيادة كانت أقل منها، وقد قاس رذرفورد سرعة هذه الأشعة فوجدها تنطلق بسرعة عشرين ألف ميل في الثانية.

حجر الفلاسفة يتحقق

واستولت الدهشة على رذرفورد حين حلل أشعة ألفا بالمرقب الطيفي فإنه وجدها تتحول إلى غاز هليوم. وبمعنى آخر إن ذرات الراديوم تفرز ذرات هليوم، وكان الكشف غريبا. ولكن ميوله كان أغرب فقد انتقل إلى التجارب على اليورانيوم فوجد أن استخلاص أشعة ألفا وبتا منه تحولانه بالتدريج إلى مادة أخف في وزنها الذري ثم تصبح راديوم فإذا والينا استخلاص الأشعتين منه تحول إلى معدن الرصاص. وبهذا الكشف تحقق حلم الأقدمين في تحويل المعادن إلى بعضها البعض، فقد كانوا يطمعون في تحويل المعادن الحسيسة مثل الرصاص والحديد إلى ذهب وفضة من المعادن الثمينة. وقد حقق رذرفورد حلمهم، ولكن بالعكس، فاكتشف أن اليورانيوم والراديوم يتحولان إلى هيليوم ورصاص.

وبهذا الكشف وضع رذرفورد العالم على المفتاح الذي أتاح للعالم اختراع القنبلة الذرية، والذي يرجى بعده استغلال الطاقة الذرية. ومن يدري، فمجال التكهن واسع الآفاق لم يعده قبلة من نهاية ولا مستحيل!

فوزي الشتوي