مجلة الرسالة/العدد 667/الإسلام والحكمة
→ الأدب في سير أعلامه: | مجلة الرسالة - العدد 667 الإسلام والحكمة [[مؤلف:|]] |
في كتاب البخلاء (طبعة وزارة المعارف) ← |
بتاريخ: 15 - 04 - 1946 |
للأستاذ عبد المتعالي الصعيدي
لا يزال هناك فريق من الناس ينفر من الحكمة وعلومها، ولا يعلمون ما للحكمة من شأن عظيم في الإسلام، وأن القرآن نوه كثيراً بشأنها، وذكر أن من فضل الله على بعض الأنبياء أنه أوتيها، وجمع بينها وبين النبوة، من أولئك الأنبياء الذين جمعوا بينهما، نبينا محمد ﷺ، وفضله في ذلك يربو على الفضل كل الأنبياء. ولا غرو فهو الذي أخرج من تلك الصحراء القاحلة، أمة كانت ترتع في البداوة والجهالة، فجعلها خير أمة أخرجت للناس، شأن العلم عندها أرفع شأن، تحمل مصباحه بيمينها لتضئ به العالم شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، لا تبغي بذلك إلا وجه العلم، ولا تقصد من ورائه مغنما من مغانم الدنيا، ولا تجعله وسيلة لحكم الشعوب وإذلالها، ولا تحتكر لمصلحتها، ولا تكتمه عن الشعوب لئلا ينتفعوا به كما تنتفع به، وكان العلم مشاعا في عصرها بين كل الأمم، وكان العلماء في عهدها موضع التجلية على اختلاف شعوبهم وأديانهم، وكان علمهم موضوع التقدير والاحترام، وتشد إليه الرحال في سائر الأقطار، وتبذل نفائس الأموال في الحصول على كتبه من بلاد الروم، ومن بلاد غيرهم من الأمم السابقة في الحضارة، فلم يكن هناك حواجز من دين أو غيره بين العلماء، ولم يكن هناك حواجز من دين أو غيره بين العلماء والملوك، فأجتمع العلماء إخوانا في مجالس العلم، لا فرق بين مسلم ونصراني، ويهودي ومجوسي، وصائبي ووثني، وقد أزالت رابطة العلم ما بينهم من فوارق، وغمرتهم بفيض عظيم من التسامح، إذ كان شعار هذه الأمة التي جمعت بينهم، أن الحكمة ضالة المؤمن يطلبها أن وجدها، وأن العلم غاية المسلمين يطلبونه ولو بالصين، وأن فضل العالم على العابد كفضل النبي ﷺ على أدنى رجل من المسلمين.
ولم يكن هذا كله إلا لأن القرآن الكريم رفع شأن العلم والحكمة على كل شأن، وجعل تعليم الحكمة من الأغراض التي بعث من اجلها الأنبياء، ليقضوا بها على الجهل والطغيان، ويجعلوا مقام العلماء فوق كل مقام، فتصلح الدنيا بعلمهم وحكمتهم، ويسعد الناس بهد يهم وإرشادهم.
وقد جاء تنويه القرآن الكريم بالحكمة على وجوه شتى، فمرة ينوه بشأنها في ذاتها، كما جاء في الآية - 269 - من سورة البقرة (يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا ألوا الألباب).
ومرة يعقد سورة باسم حكيم من الحكماء وهو لقمان بن باعورار الحكيم القديم، وقد ذكر الله في هذه السورة ممتناً ما آتاه من الحكمة، فقال في الآية - 12 - من آياتها (ولقد أتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد).
ومرة يجعل الحكمة مما تفضل به على بعض أنبيائه، فيذكر أنه تفضل بها على إبراهيم وآله، في الآية - 54 - من سورة النساء (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما).
ويذكر أنه تفضل بها على داود، في الآية - 20 - من سورة ص (وشددنا ملكه وآتينا الحكمة وفصل الخطاب).
ويذكر أنه تفضل بها على عيسى ابن مريم في آيات كثيرة، فيقول في الآية - 48 - من سورة آل عمران (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) ويقول في الآية - 110 - من سورة المائدة (إذ قال يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وأذ علمتك الكتاب والحكمة) الآية.
ويذكر أنه تفضل بها على نبينا محمد ﷺ، وأنه بعثه في أمة أمية لينقلها بتعليم الدين والحكمة، من الأمية إلى العلم، ومن البداوة إلى الحضارة، فيقول في الآية - 129 - من سورة البقرة (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم، يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم) ويقول في الآية - 164 - من سورة آل عمران (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يتلو عليه آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كان من قبل لفي ضلال مبين)، ويقول في الآية - 2 - من سورة الجمعة (هو الذي بعث في الأميين رسولا، منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وقد جاء بعد هذه الآية أية لها شأن نبينه فيما يأتي، وهي قوله تعالى (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم)
وقد اضطرب المفسرون في بيان معنى الحكمة اضطراباً كبيراً، فذهب فريق منهم إلى أن المراد بها السنة، وهي ما ورد عن النبي ﷺ. وذهب فريق منهم إلى أن المراد بها المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له. وذهب فريق منهم إلى أن المراد بها العلم بأحكام الله تعالى، التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول ﷺ، والمعرفة بها منه. وذهب فريق منه إلى أن المراد بها الفصل بين الحق والباطل، وذهب فريق منهم إلى أن المراد بها معرفة الأحكام والقضاء، وذهب فريق منهم إلى أن بها العقل والفهم، وذهب فريق منهم إلى أن المراد بها كل كلمة وعظتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نهتك عن قبيح.
ولقد تهيب هؤلاء المفسرون أن يحملوا الحكمة على معناها الشائع عند العرب وغيرهم، لأن كلمة الحكمة عند العرب ترادف كلمة الفلسفة عند اليونان، وتنطق عندهم (فيلاسوفيا) وفيلا معناها الإيثار، وسوفيا معناها الحكمة، وقد اشتق العرب من ذلك كلمة الفلسفة بمعنى الحكمة، كما اشتقوا كلمة الفيلسوف من (فيلوسوفوس) بمعنى الحكيم، وهو في الأصل بمعنى المؤثر للحكمة.
ثم جاء بعد هؤلاء المفسرين لم يتهيب ما تهيبوه، من حمل الحكمة على معناها الشائع عند العرب وغيرهم، فذهب إلى أن المراد بالحكمة معرفة الأشياء بحقائقها، وهو بعينه ما يقوله العلماء في تعريف الفلسفة، من أنها العلم بحقائق الأشياء بقدر الطاقة البشرية، وعلى هذا يكون تعليم الكتاب إشارة إلى العلوم العقلية، ويكون تعليم الحكمة إشارة إلى العلوم العقلية، وهي العلوم التي تدخل تحت كلمة الحكمة أو الفلسفة، وتشمل ما يشمله اسم الفلسفة النظرية والعلمية.
ولا يراد من تعليم النبي ﷺ ذلك لأمته إلا أن يهيئها له، بأن يعلمها الدين الصحيح، ويعمل على محو الأمية فيها، بتعليمها القراءة والكتابة، ويحبب إليها النظر في العلوم على اختلاف أنواعها، ويرشدها إلى الاستفادة ممن سبقها ممن الأمم إلى درس العلوم، لتبنى على أساسها، وتقوم بقسطها في النهوض بها، فتؤدي زكاة العقل في رفع منار العلم، والوصول به إلى ما تصل إليه الأمم قبلها، ولا تقف به عند الحد الذي وصل إليه قبل أن تتناوله. فلا يتم ذلك إلا بالتدريج، وهو سنة الله في الترقي والنهوض، وهذا هو الذي تشير إليه الآية السابقة في سورة الجمعة (وآخرين منهم لم يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم) فقد قيل إن المراد بالآخرين الفرس، ويؤيده ما روى عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي ﷺ، إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها، فلما بلغ (وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) قال رجل: يا رسول الله، من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا، قال - وسلمان الفارسي فينا - فوضع رسول الله ﷺ يده على سلمان، وقال: والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان بالثريا، لتناوله رجال هؤلاء.
وقيل أن المراد بهم التابعيون، وقيل هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي يﷺ، إلى يوم القيامة. وقد كان أن تلك الحركة العلمية الإسلامية أخذت في التدرج إلى أن دخل الفرس في الإسلام، وهم قوم لهم سابقة في العلم والحضارة، فوصلت بهم الحركة العلمية الإسلامية إلى ذروتها، ودونت عهدهم العلوم الدينية، ونقلت علوم الحكمة إلى اللغة العربية، فدرسها المسلمون، وبدوا فيها من تناولها قبلهم من السابقين، وحققوا بذلك ما وعد الله من تعليمهم الكتاب والحكمة، وما كان الله تعالى ليخلف وعده.
وما أخطأ المسلمون حين أخذوا علوم الحكمة عمن سبقهم إليها من الأولين، لأن الله قد حثنا على النظر في الآية - 185 - من سورة الأعراف (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد أقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون) فهذا حث على النظر في جميع الموجدات والتأمل فيما أودعه الله فيها من عجائب وأسرار، لاستنباط العلوم والمعارف التي تدل على عظيم قدرته، وتشهد ببديع حكمته.
فإذا وجدنا نظراً لمن كان قبلنا في جميع الموجدات، ووجدنا لهم علوما تعنى ببحثها وكشف أسرارها، وجب علينا أن ننظر في تلك العلوم، وأن ننقل ما ألف فيها من كتب إلى لغتنا، لنستعين بها فيما أمرنا الله به من النظر في الموجدات، ولا نضيع زمناً في بحث ما سبقونا إلى بحثه فيها، فما كان فيها موافقاً للحق قبلناه منهم، وما كان غير موافق للحق صححناه لهم، ولا يصح أن يمنعنا خطؤهم من الانتفاع بصوابها، كما لا يصح أن يمنعنا من النظر فيها أن يضل بعضنا به، لنقص في فطرته أو لغيره ذلك من الأسباب، لأن هذا الضرر إنما يلحقها بالعرض لا بالذات، ولا يصح أن يترك ما يكون نافعاً بطبعه لضرر يوجد بالعرض فيه، وشأنها في ذلك شأن العسل، حين أمر النبي ﷺ بعض أصحابه أن يسبقه أخاه، فزاد إسهال به، فلما شكا ذلك إليه قال له: صدق الله وكذب بطن أخيك. يعني صدقه تعالى في قوله في الآية - 66 - من سورة النحل (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء الناس).
وليست هذه العلوم وحدها هي التي عرض لبعض أصحابها ذلك الضرر، فقد عرض مثله لكثير من العلوم، كعلم الفقه الذي يعد من أمهات العلوم الدينية، فكم من فقيه كان الفقه سبباً لقلة تورعه، وخوضه في الدنيا، مع أن صناعته تقتضي بالذات الفضيلة العملية.
ولقد حوى القرآن الكريم كثيراً من مسائل تلك العلوم، ولاسيما مسائل الحكمة العملية، لأن الدعوة إليها هي الأهم، أما الحكمة النظرية فليس من شأن الأنبياء تقرير مسائلها، وليس من شأن الكتب المنزلة شرح علومها، وإنما يوجه الأنبياء الناس إليها توجيها، وتشير الكتب المنزلة إلى بعض مسائلها إشارة مجملة.
وقد جاء ما يمكن أن يعد فصلا من الحكمة العملية في سورة الإسراء، وذلك من قوله تعالى في الآية - 23 - (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما، فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريماً) إلى قوله تعالى في الآية - 39 - (ذلك مما أوحي إليك ربك من الحكمة، ولا تجعل مع الله إلها آخر، فتلقى في جهنم ملوما مدحورا).
ولقد حوت السنة النبوية كذلك كثيرا من مسائل الحكمة العلمية، كما حوت كثيراً من مسائل الحكمة النظرية، كالطب وغيره، وكان من طبه ﷺ ما يسمى الطب النبوي، وقد وضع العلماء فيه كتبا أثبتوا فيها ما ورد عن النبي ﷺ، في هذا العلم، وقد شهد له المقوقس أمير مصر بهذه الحكمة، وذلك حين أرسل إليه يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه هدايا فيها طبيب، فقبل النبي صلى الله عليه هداياه، وقال الطبيب: أرجع إلى اهلك، نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع. وقيل إن رسول النبي ﷺ، هو الذي قال ذلك للمقوقس، فقال له: أنت حكيم جئت من عند الحكيم.
وكان في عهد النبي ﷺ حكيم يقال له الحارث ابن كلدة، رحل إلى مدرسة جند يسابور، فتلقى علوم الحكمة من الطب وغيره على فلاسفتها، ثم رجع إلى بلاد العرب فاشتغل فيها بعلاج المرضى، وكان النبي ﷺ، يأمر أصحابه بالعلاج عنده.
ولما فتح عمرو بن العاص مصر وجد من فلاسفتها يوحنا النحوي فقربه عمرو من مجلسه، وكان يصغي إليه ويستمع إلى حكمته، ويعجب بما يسمعه منها، ويكثر من الثناء عليه.
وكذلك فعل الملك الصالح عمر بن عبد العزيز مع حكماء عصره وكان في ذلك كله تمهيد للنهضة العملية الكبرى، التي حصلت في عهد العباسي، فزخرت بها البلاد الإسلامية علماء وحكمة، وصار المسلمون في ذلك العهد حكماء العالم، والفضل في ذلك النبي الحكيم، الذي قضى على تلك الأمية، ومهد لمن جاء بعده طريق الحكمة.
عبد المتعال الصعيدي