مجلة الرسالة/العدد 666/يوم من أيام مصر الخالدة بأنقرة
→ إلى مشيخة الأزهر ووزارة المعارف: | مجلة الرسالة - العدد 666 يوم من أيام مصر الخالدة بأنقرة [[مؤلف:|]] |
أين الأقلام؟ ← |
بتاريخ: 08 - 04 - 1946 |
الغازي مصطفى كمال
بدار المفوضية الملكية المصرية
للأستاذ أحمد رمزي
في مساء يوم الأحد 26 مارس سنة 1933 شرف أتاتورك أو الغازي مصطفى كمال رئيس الجمهورية التركية وزعيم تركيا بزيارته دار المفوضية الملكية المصرية بأنقرة، وكان ذلك في منتصف الليل تماماً حين دقت الساعة الثانية عشر، وحدث هذا في الحفلة التي أقامتها المفوضية بمناسبة عيد ميلاد المغفور له الملك أحمد فؤاد الأول طيب الله ثراه. ولما دخل وقف المدعوون من رجال الحكومة وأعضاء السلك السياسي وغيرهم، وقد تملكتهم الدهشة، لأنها كانت أول مرة يزور فيها الرئيس الغازي دار مفوضية أجنبية، إذ لم يسبق حدوث شيء من ذلك للسفارات أو المفوضيات التي يتولاها السفراء والوزراء المفوضون، فما بالك بزيارته لمفوضية على رأسها قائم بالأعمال!
وكتبت في مذكراتي اليومية عن أثر هذه المفاجأة وقت دخوله ما يأتي: (كنت ترى في عينيه بريقاً يشع من القوة المعنوية الهائلة التي تعتمد على إدارة راسخة فعالة، وتلمس من نظرته الحادة قدرة وثقة في النفس يدعمها إيمان ثابت وعقيدة لا تلين في الرسالة التي سلمتها الأقدار إليه لخدمة بلاده وأمته)!
كان يوماً لا ككل الأيام التي عشتها لا أدري كيف أبتدأ، ولا أشعر متى أنتهي حتى مطلع الفجر، إذ كان يحمل اليّ في كل ساعة مفاجأة، فقد أصبحنا كعادتنا لم نغير موعداً للقيام، ولكن المفوضية كانت في حركة دائمة منذ الصباح المبكر، إذ حضر (العتالون) فاخذوا ينقلون كل شيء من مكاتبنا، ويجيء الخدم بعدهم لترتيب الحجرات وتنسيقها لحفلة المساء. وفي الساعة الحادي عشر من صباح ذلك اليوم زارنا مدير المراسم أو التشريفات أو البروتوكول سمها كما شئت، وكان اسمه شوكت فؤاد بك، جاء لابساً بدلة (البونجور)، وفي يده قبعته العالية، ومعه قفازه، حضر ليعرب لحضرة توحيد السلحدار بك القائم بأعمال المفوضية الملكية المصرية عن تهاني حكومة الجمهورية التركية وأمانيها الطيبة لج ملك مصر المعظم ولشعب مصر، وقد أفرغت هذه الزيارة في قالب خاص من الود الصميم والمجاملة، فكانت خير ما يعبر عن العواطف الودية الأكيدة التي تشعر بها تركيا نحو مصر، ولما تناول القهوة والمرطبات أنصرف مشيعاً بالاحترام اللائق.
وأمضينا اليوم قياماً لا نملك وقتاً يتسع لطعام أو راحة، إذ المخابرات التلفونية لم تنقطع مع استنبول، والخدم في حركة وذهاب وإياب بين المحطة والمفوضية، وبينهما وبين المدينة لاستكمال ما يلزم لمأدبة العشاء التي سيحضرها رئيس الوزراء والوزراء، والتي ستعقبها حفلة ساهرة لمئات المدعوين.
وكنت مأخوذاً ذات اليمين وذات الشمال أتنقل بين الطابقين، ولما وجدت برهة أخلو فيها لنفسي أخذت أرتب ملابس السهرة وكانت الساعة السادسة مساء، فإذا بجرس التليفون يدق ويدعوني بسرعة إلى المستشفى العسكري، لأن القائم بالأعمال الأستاذ توحيد السلحدار بك قد أصيب في حادث تصادم وقع بين سيارته وعربة نقل محملة بالرمال. فتركت ما بين يدي، وخرجت مسرعاً إلى الطريق العام، وما لمحت سيارة أجرة من نوع فورد الخشبية، وهي التي تحمل أربعة أو خمسة من الركاب يشتركون فيها، حتى أشرت إليها بالوقف وقفزت فيها، وكان الأتراك يطلقون عليها اسم (قابتي قاشتي)، وأهل أنقرة ينطقون الكاف قافاً، ومعنى ذلك أخذ وهرب، أي أستلم وأسلم رجليه للريح. وذهبت إلى المستشفى وأدخلت فوراً إلى غرفة العمليات، فوجدت توحيد بك هناك والدم قد غمر بدلته وقميصه، ورأيت طبيب الغازي يعني به ويضمد جرحاً كبيراً في جبهته، ويعالج ذلك برفق وتؤدة، وقد بدا بعض الاصفرار على وجه الجريح، ولكنه لم يفقد شيئا من ثباته وهدوءه ورباطة جأشه. ولما أراد الطبيب أن يستعمل مخدراً يخفف من ألم الجرح وشدة وقع الصدمة رفض ذلك، إذ تمثلت رجولته في شجاعته وصموده واحتماله لما يشكو منه في رأسه ويده، فدهش من حضر لما رأوه يقظاً واعياً يحادثهم والطبيب يلازم عمله في خياطة جرح الجبهة.
وكان معنا في الحجرة نعمان رفعت بك وكيل الخارجية، وقائد الحرس الجمهوري، وهو ضابط يجمع في شخصيته مظاهر الجندية التركية التي خلدتها المعارك والحروب الدائمة والأخطار المزمنة، وكان شديداً فأطلقنا عليه (صاحب الضبط والربط)، قال: (إنه حضر بأمر عال من فخامة رئيس الجمهورية، وأن الأمر الصادر إليه يلزمه إلا يترك توحيد بك لحظة واحدة حتى يستعيد قواه، وأن يتصل بالغازي مباشرة لأي حادث يطرأ. فشكره توحيد بك على هذه الالتفاته، وطلب إليه أن يرفع للرئيس شكر المفوضية وتقدير مصر قاطبة. ولما أتم الطبيب عمله وقام توحيد بك، التفت إليه وأعلمه بأن واجبه كطبيب يحتم عليه أن ينصحه بأن يستريح هذه الليلة ولا ينهك نفسه بالعمل). فأجابه بغير تردد: (كيف أقبل الراحة وقد دعوت الناس لحفلة مليكي؟ إن إخلاصي يملي عليّ أن أحضر الحفلة، أما الألم فشيء هين يسهل عليّ احتماله في سبيل قيامي بواجبي نحو بلادي، وقد اعتادت هذه الرأس أن تتحمل وتحمل الكثير). ثم التفت إلى قائد الحرس، وإلى وكيل الخارجية، وقد أبديا كلاهما ضرورة الرفق بصحته والعودة للراحة. فقال: (أبلغا الغازي والحكومة التركية أنني بخير والحمد لله، وأني لعاجز عن التعبير عن شكري لهذا الاهتمام الفائق الذي لا أعتبره موجها لشخصي، بل لمليكي وبلادي). وترك المستشفى مستنداً على ذراعي الطبيب وقائد الحرس، وركبنا سيارة أوصلتنا إلى منزله، وأستأذن وكيل الخارجية والقائد، وبقى معنا الطبيب لا يتركه حتى بدل ملابسه ولبس ثياب السهرة ووضع أوسمته، واتجهنا إلى دار المفوضية المصرية، وقد استعدت لحفلة الليلة كأن لم يحصل شيء، وكأن التصادم أمر كان لأيام مضت، ولم يظهر على توحيد بك غير رباط الجرح واليد.
وكان الوقت قد أزف لحفلة العشاء التي تبدأ في الثامنة، وأخذ المدعوون من علية القوم يحضرون ويأخذون أماكنهم، وفي مقدمتهم رئيس الوزارة التركية عصمت باشا، وهو الرئيس الحالي للجمهورية، وقبيل انتهاء المأدبة أخذ المدعوون للسهرة يفدون، وهم من كبار رجال الدولة والسلك السياسي بأكمله المكون من ثلاثين هيئة بين سفارة ومفوضية، وقد توزعوا في أركان الدار وحجراتها، وقد بدت تتألق في رونقها وحلتها.
وكان الجميع يهنئون بالعيد، ويستفسرون عن صحة توحيد بك، ويبدون إعجابهم بعزيمته، وقالت قرينة وزير النرويج: (لا أقدر أن أطيل النظر إليه وهو على هذه الحالة، فأرجو أن تنصحه ليعود إلى منزله فيستريح، إذ أخشى أن ينفتح الجرح في أي وقت فيسبب له نزيفاً). فقلت لها: (كيف يحصل هذا وطبيب الغازي يلازمه ملازمة الظل لا يتركه لحظة واحدة؟!)
وفي منتصف الليل تماماً، والناس في شغل بأنفسهم، وهم جماعات متفرقة، بعضهم يرقص على نغمات الموسيقى، وبعضهم يلعب الورق، والمقصف عامر، دخل الغازي فاستقبلته الفرقة بالنشيد الجمهوري، ثم بنشيد مصر، واتجه بخطوات ثابتة نحو القائم بالأعمال، فعانقه على مرأى من الحاضرين، وهنأه على رباطة جأشه وقال: نه يحضر إلى بيت مصر كما يحضر إلى بيته، فهو صاحب الدار، وأن مجيئه إلى المفوضية هو تحية منه للشعب المصري في عيد مليكه المعظم، فبلغ مصر ذلك، كما أنه تقدير مني لشخصك. ثم اتجه إلى ركن صغير بإحدى الصالات فجلس ومعه توحيد بك، ووزير الخارجية توفيق رشدي بك، وانضم إليه صاحب السمو الملكي الأمير زيد وزير العراق المفوض بأنقرة، فأجلسه الغازي إلى شماله على نفس المقعد، وجلس الكونت دي شامبران سفير فرنسا، ودارت في تلك الجلسة أحاديث تناولت الكثير من الشؤون، ولم يأتي الوقت بعد لإذاعتها وفي الساعة الثالثة صباحا طلب الغازي من توحيد بك أن يستريح وألح عليه في ذلك وقال له: إنني معجب بموقفك وتصميمك، وأفهم ما يمليه عليك الواجب، ولكني أنا (مصطفى كامل) سأنوب عنك في الترحيب بضيوفك. ونزل توحيد بك على إشارته، ولازمته حتى ركب إلى منزله. ولما رجعت من توديعه، إذا بوكيل الخارجية يدعوني إلى الركن الجالس فيه الغازي، وكان قد أنضم إلى الجماعة وزير المجر، وها أنا أعطي صورة من بعض ما دار من الحديث:
استؤنف الكلام بشأن المجر، فذكر وزيرهم ما نزل بهم من الظلم وما حاق بهم من الاضطهاد، وكأنه شعر بألم عميق، أو أراد أن يستعطف الغازي على وطنه، إذ ضرب مثلا لأنواع إرهاق التي يلاقيها، فقال وقد اغرورقت عيناه: (قد أصبح والدي تشيكوسلوفاكيا وصارت جدتي رومانية ليحافظا على أملاكنا ومزارعنا في البقاع التي انتزعت من وطننا، وهكذا تشتت أسرتنا وأصبحت مجريا وحدي. فنظر إليه الغازي محدقا وقال: (إنما أنت رب عائلة، ومواطن طيب القلب، ولكنك بعيد عن أن تكون رجل سياسة. انظر إلي تجدني لست بصاحب عائلة، ولم أشغل نفسي بطلب البنين، وذلك لأكرس حياتي منذ نشأت لخدمة بلادي). وكان الجنرال ناجي باشا، وهو أستاذ الغازي في الكلية الحربية، قد أنضم إلى الجماعة فعقب على ذلك بقوله: (لك سبعة عشر مليونا من الأولاد هم أبناؤك الترك). وهنا قال وزير المجر كلمة لم تعجب القارئ وهي: (أنك تستطيع أن تدفع العدوان عن بلادك، لأنك في الأناضول، أما بلادي فهي بين الأعداء المحيطين بها من كل جانب). فسأله الغازي مسترسلا: (إلى أي عنصر تنتسب؟) فأجاب بغير تردد: (إلى العنصر التركي كأهل المجر جميعاً) فضحك الغازي وأجابه: (لا تنسى إنكم ضللتم قرونا حتى نهاية الحرب الماضية (14 ـ 1918) كان كل رأس مالكم وفخركم اللذين تترقبون بهما إلى شعوب أوربا وحكومتها وسياستها هو أنكم أعداء الترك الألداء، وإنكم كنتم أول من تحرر من تحت نيرهم، فأنتم كما ترى تدفعون ثمن الكفارة غاليا الآن).
ثم التفت إلى سفير فرنسا، وقد دنا الكونت استرودوج سكرتير السفارة الفرنسية من المجلس بإشارة من الغازي، فقال فخامته: قل له أن يحضر ورقاً وقلماً، وأريد أن أملي عليه شيئاً ولما أحضر الورق أملاه ما يأتي: (لا أتستطيع بحال أن أقول للترك إن فرنسا صديقة لهم، إذ كيف أصل لاقناعهم بذلك؟ إن هذا لن يكون إلا بعمل ظاهر، وهي لا تفعل شيئاً من ذلك، حتى المعاهدة التي عقدناها أخيراً لم تصادق مجالسها النيابية عليها للآن).
وأنتقل الحديث إلى ذكر جنيف وتخفيض السلاح ومشروع اتفاق الدول الأربعة العظمى: بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وهو المشروع الذي أطلق عليه اسم (الديركتوار الرباعي) إحياء لنظام المحالفة المقدسة بعد حروب (نابليون). وهذا مشروع يبغضه الغازي، فتحمس كل التحمس وقال: (ما معنى الدول العظمى؟) وأشار إلى السفير أن يكلف استرورج بأن يكتب مرة أخرى ما سيمليه، وأن ينقل ذلك إلى دولته فيما يلي: (إن فرنسا لن تكون عليها سيطرة على تركيا، وان تركيا لن تذعن لشيء تقرره فرنسا مع تلك الدول ما دمت أنا على قيد الحياة، ولو فرضنا أن الحكومة قبلت ذلك ووافقها المجلس الوطني الكبير، فإني لن أقبل ذلك، ولو أحوجنا الأمر لوجدتم الشعب التركي بأكمله ورائي يشد أزري، ويبذل أقصى جهده، وأنه لجهد لو تعلمون عظيم، وقد سبق أن برهن على ذلك مرة للعالم، وأني مستعد أن أقوده ثانية ليبرهن لكم مرة أخرى!)
هذه صورة خاطفة لبعض ما كان يدور في أحاديثه العديدة التي حرصت على جمعها وصيانتها توفراً مني على رغبتي يوماً في نشرها، وكنت كلما أتاحت لي الظروف لقياه، وقفت أتأمل هذه القوة الدافعة المجسمة فيه، وأجب بسوقه للحديث ومجانبته الانزلاق وتوجيهه المخاطب للناحية التي يرمي الوصول إليها، فكنت أغبط نفسي على كل دقيقة أقضيها معه، وكان يعرف ذلك عني، ويفهم روحي، ويعلم أنني أعرف بالتفاصيل كل حادث مهم مر به في حياته، وإني أداوم على قراءة خطابه التاريخي بالتركية وباللغات الأخرى. وفي أثناء جلوسي أمامه مر الخادم النوبي الذي يخدم توحيد بك، وهو يلبس ملابس الحفلات بمصر، وعلى رأسه الطربوش، ليقوم ببعض الخدمة للجالسين ولما أتم عمله وتراجع صاح به الغازي بالعربية قائلا: تعال هون اخلع طربوشك فخلعه، ثم قال البسه فلبسه وانصرف. وكنا على مقربة من حادث الطربوش المشهور الذي وقع في 29 أكتوبر سنة 1932، إذ لم تمض على وقوعه خمسة شهور، وهنا أتجه الحاضرون إلي، وكانت وظيفتي ومركزي لا يسمحان لي بمواجهته بالخطاب، فإذا هو يقول لي: متى تخلعون الطربوش؟ وهنا وقفت متردداً كيف أجيب، وأخيراً فتح الله عليّ بكلمة قلتها في تلك الليلة هي: (يا فخامة الرئيس، إن الطربوش غطاء الرأس عندنا، كما كان يوما ما عندكم، وها نحن لا نزال في الدور البدائي من كفاحنا وجهدنا في سبيل تحريرنا وتحقيق مثلنا العليا التي تتمثل في مواجهة الحضارة الحالية وأخذها والاستفادة منها، ألا ترى إن الطربوش رمز يذكرنا بعصر نعيش فيه لنخرج منه إلى عصر جديد؟ وإنه عصر هام يذكي روح العمل لدينا؟ ويذكرنا كل يوم وكل ساعة بالواجب المحتم علينا وبالسعي في خلاص البلاد؟ ولا شك أنك لم تخلع القالباق أو الطربوش إلا حينما تخلصك بلادك من قيودها وانتصرت في عراكها وكفاحها، إننا في اليوم الذي نتخلص فيه من قيودنا ونتغلب على العقبات التي أمامنا نفكر في خلعه واستبداله، ويكون ذلك بوحي إرادتنا وحدها، ولكن قبل أن نصل إلى أهدافنا الكبرى، وننقلها من عالم الخيال إلى عالم الحقائق، لا توجد إرادة في العالم تفرض علينا أو تجبرنا على رفعه، ذلك لأنه يذكرنا كل يوم بعراكنا الدائم المستمر، وبان أمامنا واجباً نعمله وأعباء نحملها وعقبات نقتحمها ومصاعب نتغلب عليها).
ولم يكن الغازي ينتظر ذلك، فتلألأ وجهه وأدناني منه، وقال كلاماً كثيراًً عن مبادئ الثورة الكمالية ويقظة الشعب التركي وآماله، وهنا تحدث الزعيم الخالد عن أدوار حياته الأولى في البلاد العربية، والتفت إلى سمو الأمير زيد ووجه إليه عبارة رقيقة، وتكلم عن عرش سوريا وما يقال بشأنه، ثم عرض لحادث الطربوش المشهور، وقال كلاماً لا تسمح الظروف لي بنشره الآن، ثم قال: (كنت أقود الأتراك في داخل حدودهم وأراضيهم، وكنت أكتفي بذلك، أما اليوم، فسمعت صوتاً جديداً، ونغمة حلوة، جعلاني أشعر بان هناك خارج حدودنا من يفكر مثل تفكيري، ومن يأخذ نفسه بالعمل الصالح لخدم بلاده). وكان الجمع قد ازداد حولنا، إذ وصل الغازي إلى القمة في أحاديثه، فأخذ يعبر عن روحه وإيمانه، وقد ارتسمت على وجهه عظمة الخالدين، وازداد إشعاع العينين من قوته الدافعة المؤمنة، وكان الفجر قد أخذ يبدو وراء الشفق والتلول التي تحيط بأنقرة، وأمامه شباك بعرض الحائط، وقد بدأت شمس يوم الاثنين 27 مارس 1933 تقدم علينا، فنظر إلى العدد المحتشدين من الأتراك وممثلي الدول الأجنبية، وحدقّ في وجوههم واحداً واحداً ثم قال: (إن نهضة تركيا شاملة، وهي ستعم ما حولها من الأمم، إذ ليس بالتهويش والوعود تحيا الأمم، بل بالإخلاص والعمل الصالح، وإني لألمس نهضة الشرق وشعوبه وأراها قادمة لا ريب فيها، كما أرى فجر هذا اليوم وقدوم شمسه إلينا. . . انظروا إلى ضوء الشفق يحمل إلينا الشمس من الشرق مطلع سراج الدنيا، إن العالم ينتظر بعثاً جديداً، وسيعود الشرق - كما بدا - قوياً عظيماً). . . ثم نظر يميناً وشمالاً وقال: (إن الذي يتكلم هو مصطفى كمال، لا رئيس الجمهورية التركية، مصطفى كمال التركي: إنني أشعر بأن الأمم في الشرق ستتخلص من نكباتها وويلاتها، وان أول ما تشكو منه هو الاستعمار، فهذا لن يعيش ولن يبقى حينما تبدأ يقظتها ووعيها واتجاهها للحقائق بدل الأوهام والأحلام
(إن أكبر دعائم الاستعمار هم رجال السياسة المحترفين الذين تستعملهم الدول الأجنبية لأغراضها. لقد تأكدت مما رأيت في بلد من البلاد - ولا داعي لذكر اسمه - إن تسعين في المائة من المتصدين للمسائل العامة عملاء للدول الأجنبية، يخدمون مصالحها على حساب أمتهم).
وكانت الشمس قد أشرقت، فقال: (انظروا إلى طلوع الشمس، انه يمثل لنا نهضة الشرق وأممه!)
وقام الغازي من مكانه، وقد وضع يده بيدي، وسرت معه إلى الباب الخارجي ومنه إلى سيارته، حيث ركب ومعه ناجي باشا وقال: (إنه يذهب لتناول طعام الفطور لدى أستاذه الجنرال ناجي باشا). وانتهت ليلة من ليالي مصر الخالدة بأنقرة!
كثر التحدث عن تلك الليلة، وما دار فيها من أحاديث، وعلّق الكثيرون من أهل الرأي ورجال السياسة والممثلين الأجانب عليها، وكان لها صدى في الشرق والغرب ولدى الحكومة التركية والمفوضيات الأجنبية، إلا في مصر، وهي التي قصدت بهذه الزيارة وأكرمت بها، لم يكن لها أي اثر ولا صدى ولا حماس، ولا ما يشبه الحماس فيها، وسنعرض لهذا كله في حديث لاحق.
أحمد رمزي
القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان