الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 666/ألدوس هكسلي مؤرخ طبيعي للإنسانية

مجلة الرسالة/العدد 666/ألدوس هكسلي مؤرخ طبيعي للإنسانية

مجلة الرسالة - العدد 666
ألدوس هكسلي مؤرخ طبيعي للإنسانية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 08 - 04 - 1946


بقلم اسكندر هندرسون

مؤلف كتاب (تفسير لشخصية ألدوس هسكلي)

كان ألدوس هكسلي في وقت ما لا أدريا ولا ماديا، أما الآن فهو يؤمن بمعتقدات مستمدة من الفلسفة الدينية الهندية وهو في قصصه ومقالاته وقصائده يكشف عن شخصية شديدة التعقيد دقيقة على الفهم، ذات ميول متضاربة لا يوازن بينها إلا ذهن جبار مشغوف بالتأمل والتفكر.

فمنذ سبعة عشر عاماً، قال في كتابه (دراسات صحيحة (1927): لو ألزمت بتحديد موقفي لقلقت إنني أمرؤ مثقف يوجه اهتمامه الأكبر لدراسة العالم الخارج دون التأمل الباطني. . . وأنا أفهم التفسير المادي للحياة الباطنة.

ولكنه في سنة 1944 يقرر أن أركان عقيدته هي: (أن هناك لاهوتا، أساسا، براهما، ضوء مبينا ينير الفراغ، هو القانون غير الظاهر الذي يكمن وراء كل المظاهر؛ وان الأساس حال في الأشياء ومتجاوز لها في وقت معا؛ وأن في مقدور الإنسان أن يحب الأساس الإلهي، ويعرفه، ويتحد معه وحدة فعل بعد وحدة قوة؛ وأن البلوغ إلى هذه المعرفة الاتحادية باللاهوت هو القصد والهدف الأخير للوجود الإنساني).

ولقد كان هكسلي دائما يدرك العناصر المتضاربة في شخصيته وفي مجموعة مقالاته: (أعمل ما شئت (1929) وضع خلاصة لفلسفة (عبادة الحياة أو (الإفراط المعتدل بناها على الإيمان بمبدأ أساسي هو تعدد جوانب كل شخصية. قال: (إن عابد الحياة هو يقيني أحيانا، وصوفي أحيانا أخرى، لا أدري، ملئ بالسخرية، ومؤمن فياض بالإيمان. . . والخلاصة أنه يقبل كل نفس من نفوسه المتعددة، حين تظهر في عقله الظاهر، ويعتبرها إذ ذاك نفسه الحقة في تلك اللحظة. وهو يقبل كل نفس وجميع النفوس - حتى الخبيثة، حتى الوضيعة المعذبة، حتى العابدة للموت والمسيحية بطبعها، هو سيقبل كلا منها وسيعيش في كل منها عيشة مفرطة).

إن شخصية ألدوس هكسلي المعقدة، والقالب العلمي لذهنه، وأسلوبه النثري الجلي الساطع، يمكن اعتبارها ميزات ومواهب موروثة، فإن من سلفه الذين حملوا اسم هكسلي أف كانوا من جبابرة العقول في القرن التاسع عشر بإنكلترا.

ولد في 26 يوليه سنة 1894، وكان الابن الثالث لليونارد هكسلي وجوليا آرنولد. أما أبوه، الذي ولد سنة 1860، فكان ابن توماس هنري هكسلي العلم الذي بذل أعظم الجهد في تقريب مذهب داروين من عقول عامة الشعب. وأما أمه فكانت ابنة أخ ماثيو آرنولد، مؤلف (رستم وسهراب) وغيرها من القصائد الكثيرة، ومؤلف (الثقافة والفوضوية) وغيره من كتب الأدب النقدي الرائع. وكانت أيضا حفيدة توماس آرنولد القسيس والناظر المشهور لمدرس ركبي الذي أدخل إصلاحات كثيرة على نظام المدارس العامة الإنكليزية.

كانت البيئة التي نشأ فيها ألدوس هكسلي بيئة تهذيب وثقافة كما كان أجداده رجال تهذيب وثقافة. عين أبوه أستاذا مساعدا لليونانية في جامعة سنت أندروز ولما يتجاوز عمره الثالثة والعشرين ثم صار رئيسا لتحرير مجلة وهي من أبرز المجلات الإنكليزية. وقد احتفظ بهذا المنصب سنوات كثيرات، كما عين مستشارا أدبيا لشركة الطبع والنشر سميت والدر. وفي سنة 1872 تزوجت خالته ماري , غاستا آرنولد بالناقد والمحرر توماس همفري وارد، وكانت من أبرز كاتبات الروايات في عصرها. وروايتها (روبرت الزمير التي نشرت في سنة 1888، قد نالت الشهرة في كل أنحاء أوربا وأميركا.

وفي قصة (التاريخ الهزلي لرتشارد جرينو)، وهي من القصص الأولى لألدوس هكسلي، إشارة إلى تلك الرواية المشهورة التي كتبتها خالته، إذ يصف البطل بأنه (قد قرأ المجلدات الثلاثة لرواية روبرت إلزمير وابتلعها ابتلاعا وهو بعد في الثامنة من عمره). فقد استمرت المسز همفري وارد تكتب سنوات كثيرات، وظهرت روايتها الأخيرة في سنة 1920، وهي السنة التي توفيت فيها. وكان زوجها الناقد هو الذي خول ألدوس هكسلي فرصة نشر مقالاته النقدية الأولى، إذ طبعت في مجموعة منتخبات شعرية إنكليزية نشرها ت. هـ. وارد في سنة 1918.

هكذا ورث ألدوس هكسلي العلم عن أسرة والده والأدب عن أسرة والدته، فليس عجيبا أن يصير أديباً، ولا أن تتجلى الروح العلمية في أدبه بصور شتى. بل إنه حين كان صبيا أراد أن يتخذ العلم مهنته، مثل أخيه الأكبر جوليان، العالم البيولوجي العظيم. ولكن عينيه أصيبتا بمرض حال بينه وبين عمله العلمي ثلاث سنوات. وتلك السنوات الثلاثة أكسبته هذه النظرة المستقلة إلى الحياة التي تلاحظ في الكثير من كتاباته.

تعلم ألدوس هكسلي في إيتون، ثم ذهب كأبيه إلى كلية باليول بأكسفورد. وقد أحب كلا المعهدين. فهو يقول (إن ذهني من النوع الذي يحب التدريب المدرسي ويقبله قبولا تاما. فأنا ثقافي بولادتي، ذم ميل إلى الأفكار وصدوف عن النشاط العملي، ولذلك شعرت بالراحة والاطمئنان في الظلال المدرسية) وقد أحب أكسفورد حبا خاصا إذ تركت له هناك حريته الكاملة في أن يعمل كما يشاء، وكان معنى ذلك أنه أقبل على قراءة كل شيء، وفضل ذلك على مجرد تدوين الملاحظات أثناء سماع المحاضرات. فهو يقول (أما أنا فأني لم أستمع قط إلى أكثر من محاضرتين في الأسبوع).

أما في البيت فقد نشأ على حب شعر وردزورث وفلسفته، وآراء رسكن في الجمال والفن. يقول ألدوس: (لما تقوضت أركان الكثير من العقائد الدينية المتزمتة، صار الكثير من الأسرات الذكية ذات الفكر المتسامح يعتبر شعر وردزورث إنجيل ذلك النوع من الحلولية، ذلك الاعتقاد المبهم بوجود عالم روحي، الذي ملأ - إلى حد غير كاف - الفراغ الذي كانت تشغله العقائد القديمة. وحين كنا أطفالا ربينا على التقليد الوردزورثي، وغرس في قلوبنا الاعتقاد بان جولة بين التلال يوم الأحد تعادل بكيفية ما الذهاب إلى الكنيسة).

ومن قصتي هكسلي الأوليين، المليئتين بالتهكم والهزل، سنة 1920، سنة 1922، ومن روايته الأولى سنة 1921، يتبين رد فعل الذي قابل به جو الوقار الأخلاقي الرفيع الذي فيه نشأ. ففي شبابه كان بطبيعته الذهنية حذرا، متشككا، غير ميال إلى الغلو الأخلاقي، ولكنه تحت ظاهره المتهكم الساخر قد احتفظ دائما بعنصر جاد لا يقل وقارا ورصانة عن ماثيو آرنولد نفسه. وقد أخبرني مرة قائلا: (في قصصي المبكرة كنت أيضاً أرد على الناحية المتزمتة المتفيهقة من نفسي).

وكانت أهم المؤثرات في تطور أسلوبه المبكر كتابات الأدباء الفرنسيين في آخر القرن التاسع عشر وأول القرن العشرين، وخاصة رمبو، ولافورج، وأناتول فرانس، وقد أخبرني في سنة 1953 قائلا: (أظن أن لافورج ذو شأن للمراهق، ولكني حين قرأته من وقت قريب لم أشعر له بإعجاب زائد. وأناتول فرانس. . . لقد كنت في وقت ما أظن أن تهكمه هو قمة الذكاء والبراعة). وقد مال أيضا إلى كتابات ريمي دي جومون، وخاصة بسبب اهتمام ريمي بالتاريخ الطبيعي، وهو اهتمام ما انفك هكسلي يبديه، وخاصة في كتابه: (سنة 1928).

وفي أكسفورد نظم هكسلي قدرا كبيرا من الشعر، وهو دون كتاباته النثرية أهمية، ولكنه مع ذلك هام إذ يلقي ضوءا على مزاجه؛ لأنه يتجلى فيه شعور عاطفي خيالي ميال إلى المثل العليا، منهمك في الصراع بين العاطفة والعقل، ذلك الصراع الذي هو السبب في انقسام النفس، والذي تطور فيما بعد في كتابيه وسنة 1932. والقصائد المبكرة تنم أيضا عن رجل حي عزوف عن الاختلاط بغيره من الرجال والنساء، يفرج إذ ينجو من حقائق الصراع الإنساني إلى عزلة عالم الأفكار المبهمة. وأبحاثه الحاضرة في التصوف والفلسفة الدينية تثمل عودة إلى تفضيله المتأصل هذا للحياة الباطنة، هذا التفضيل الذي ظل كمينا زمنا ما إذا حكمنا بكتاباته اللاإرادية التي نشرها في العقد الثالث من القرن العشرين، وهو الزمن الذي تصادف أن كان زمن مادية وكلبية عامة في إنكلترا.

وقد ظل هكسلي عدة سنوات تحت التأثير الشخصي الشديد للروائي د. هـ. لورنس، مؤلف وغيرها من الروايات الفذة. وقد تقابلا أول مرة في سنة 1915، ولكنهما لم يكثرا من رؤية أحدهما الآخر حتى السنوات من 1926 إلى سنة وفاة لورنس. وقد كتب هكسلي 1927 قائلا: (إن لورنس من الأفراد القلائل الذين أشعر نحوهم بتقدير وإعجاب حقيقي. فالأشخاص البارزون الآخرون الذين قابلتهم أشعر بأنني على أية حال أنتمي إلى نفس الجنس الذي ينتمون إليه. أما هذا الرجل فإن به شيئا مختلفا، وهو شيء أسمى في النوع لا في القدر).

وفي سنة 1919 تزوج هكسلي بماريا نانز، وهي بلجيكية؛ وله ابن واحد. وقد قضى قسما كبيرا من حياته خارج إنكلترا؛ عاش في فرنسا وإيطاليا وقام بأسفار واسعة في الهند وبورما (التي كتب عنها وصفا ممتعا في في سنة 1926)، وفي المكسيك وغواتيمالا وهندوراس وجزائر الهند الغربية (اقرأ كتابه سنة 1934). وهو منذ قبيل الحرب التي وضعت اليوم أوزارها يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة في كاليفورنيا.

وهكسلي في مظهره إنكليزي صميم، فهو طويل القامة رمادي العين، وشعره الكثيف مرتب إلى الوراء من الجبهة. وهو ذو أدب جذاب ساحر، والمرء في حضرته يلاحظ أولا صوته الجميل ويديه الطويلتين اللينتين، وهو مشغوف بعقدهما حول ركبته حين يجلس ويتحدث، وبين حين وآخر يكتسي فمه بابتسامة هادئة تهكمية، ولكنها في العادة ذات مسحة حزينة.

(عن مجلة الأدب والفن الإنجليزية)

اسكندر هندرسون