مجلة الرسالة/العدد 664/طبيعة البلاد العربية
→ من غَزل الفقهاء | مجلة الرسالة - العدد 664 طبيعة البلاد العربية [[مؤلف:|]] |
الأدب في سير أعلامه: ← |
بتاريخ: 25 - 03 - 1946 |
للدكتور جواد علي
على الرغم من الموقع الممتاز الذي تشغله البلاد العربية في وجه الكرة الأرضية، وعلى الرغم من الأهمية العسكرية التي تتمتع بها هذه البلاد باعتبارها قنطرة عظيمة تصل بين قارات ثلاث هي قارات العالم القديم، فإنها كانت ولا تزال قليلة السكان جداً بالنسبة إلى سعة مساحتها واتساع أرضها، وفيها بقعة كبيرة تكاد تكون خالية من السكان تتغلب عليها الطبيعة الصحراوية، هي البقعة المعروفة بالربع الخالي، وحولها منطقة واسعة قليلة السكان كذلك. ويغلب على هذه المناطق الجفاف والتغير السريع في درجات الحرارة بين الليل والنهار تغيراً يؤثر في طبيعة المكان تأثيراً كبيراً، فيصعب على الإنسان والأجسام الحية تحمله.
على أن في الروايات اليونانية القديمة وفي المصادر السريانية والعربية ما يشير إلى أن بعض هذه المناطق الصحراوية الجرداء في الوقت الحاضر لم تكن في السابق على ما هي عليه الآن، بل كانت مخصبة معشبة كثيرة الكلأ والماء، معتدلة نوعاً ما في درجات الحرارة. ولم يكون هناك بطبيعة الحال فروق كبيرة بين الحرارة والبرودة في الليل والنهار، وإنها كانت عامرة توجد فيها المدن المأهولة والقرى.
وتلاحظ في الوقت الحاضر آثار أنهار وعيون ونبات وواحات لا بد وأنها كانت مأهولة معمورة، ثم تغير الطقس فيها وحدثت فيها كوارث طبيعية دعت إلى هجرة سكانها عنها وإلى تحولها إلى تربة صحراوية. ولما جاء الإسلام كانت هذه الأراضي نسياً منسياً، فتصور الناس أنها من أعمال قوم عاد أو من أعمال الجن.
وقد عرف أكثر الرواة العرب مثل تلك الانقلابات الطبيعية والتقلبات الجيولوجية، فأشاروا إليها فقالوا إنما حدث ما حدث انتقاما من تلك الأقوام القديمة والشعوب التي أجابت داعي الهوى وكفرت بأنعم الله فأذاقها الله سوء العذاب.
وفي القرآن الكريم ـوهو أصدق مرجع بين أيديناـ إشارات كثيرة إلى تلك الأقوام التي عاشت في الأيام الخالية في شبه جزيرة العرب تؤيد هذا الرأي وتقويه. ففي كتاب الله آيات مفصلة عن عاد وأرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها البلاد وقوم ثمود الذين جابوا الصخ بالواد. وعن الأيكة. وردت عرضاً على سبيل القصة والموعظة.
وقد عرض المفسرون لهذه الآيات وأطنبوا في وصف تلك الأماكن والمحلات وذكروا شيئاً مما كان قد رسخ في مخيلتهم عن تلك الأقوام. وهي صورة وإن كان رواء الوضع يتغلب عليها، ومادة الخيال فيها خصبة، إلا أنها صورة مهما قيل فيها فأنها مستمدة من واقع قديم تؤيده الآثار والتجارب العلمية الحديثة.
وكانت عناية الأهالي بالسدود عظيمة على ما يظهر من آثارها في هذا اليوم. فعلى تلك السدود التي كانت تحافظ على مياه الأمطار أو مياه الأنهار والعيون كانت تتوقف حياة الأرض والسكان. والظاهر أن الناس في ذلك الوقت كانوا على علم بأصول خزن المياه كالذي نشاهده من آثار سد مأرب، ومن آثار السدود الأخرى في اليمن أو قرب يثرب في الحجاز (المدينة) وفي أرض بني سليم. وكانت تعرف بأسماء مختلفة تختلف باختلاف القبائل ولهجاتها فتعرف باسم (مسك للماء) أو (مسد) أو سد أو مساك للماء.
ولم تخل البلاد العربية الشمالية من السدود. وقد استمر العرب على إنشاء السدود حتى بعد تدهورهم في العصور الجاهلية التي سبقت الإسلام واتصلت به بل حتى في العصور الإسلامية كالعصر الأموي.
وامتازت منطقة يثرب بكثرة ما أنشئ فيها من النواظم والسدود والترع الفنية. ففي وادي بطحان وهو واد من أودية المدينة سد للماء. وفي وادي العقيق سد آخر عند جبل شوران وثالث في وادي محزول وقد كان حتى زمن الرسول ثم سد رابع هو سد معونة قرب الأرحاضية جنوب المدينة، وخامس في وادي أظم.
وحتى نجد لم تكن لتخلو من هذه السدود. وقد وجدت السدود بكثرة في جنوب الحجاز، وفي أراضي قبائل هذيل وبني سليم. وقد حافظت أراضي بني سليم على خصبها وإنباتها حتى العصر العباسي. ولما أهمل أمرها في هذا العهد بسبب الفتن والكوارث السياسية تحولت منذ هذا الوقت إلى أرض قاحلة صحراوية غادرها الناس وعافوها حتى غدت اليوم من المناطق المظلمة المقفرة التي لا تزار.
وقد اشتهرت بنو سليم على ما يظهر بنشاطها وبذكائها الخارق، فابتكرت ولا شك طرقاً فنية لاستنباط الماء ولخزنه إلى وقت الحاجة. فلما أراد الحجاج حفر آبار على طريق الحج لم يجد من يحسن حفر الآبار واستخراج الماء غير رجال هذه القبيلة.
وطبيعي أن يكون للعرب علم خاص بطرق استنباط الماء وإقامة الحواجز، وكيفية حفر الآبار والتعرف على نوع الأراضي التي يمكن استخراج الماء منها وإلا فكيف يعقل أن تنشأ هذه الحواجز وأن تحفر تلك الآبار لو لم يكن لهم علم بذلك؟ ثم إن النصوص اليمانية التي عثر عليها حتى الآن وهي قليلة تؤيد هذا الرأي وتدعمه.
وقد انتقل هذا الفن إلى المسلمين فظهر نفر من العلماء في العصرين الأموي والعباسي نظموا صرف المياه وكيفية السيطرة عليها وتوزيعه. وألف بعضهم في (كتب المياه) وفي إحياء الأراضي (الموات) وقد أضافوا إلى معلوماتهم العربية الخالصة ما أخذوه عن الأعاجم من آراء ونظريات وما قرءوه في كتبهم من أبحاث.
على أننا نسمع في نفس الوقت أصواتاً ترتفع من جوف البلاد العربية ومن مختلف الأنحاء تشكو الجفاف وتتألم من تراكم الأتربة في مجاري الأنهار. ومن جفاف مياه الواحات فجأة ومن موت النباتات والأشجار وتحول الأرض إلى صحار رملية، وقد استمرت تلك الشكاوي بدون انقطاع حتى القرن التاسع عشر.
وقد تكون من بين أسباب هذا الجفاف وتحول المياه أسباب سياسية نشأت عن تضعضع مركز الخلافة والثورات والانقلابات العسكرية الكثيرة التي كانت تدبرها الأسر الشريفة أو أصحاب القوة والبسطة من الأعاجم وأصحاب العساكر والأتباع. فلم يعد في وسع الحكومة الاهتمام بشؤون الزراعة والري وسائر الشؤون الأخرى. وقد تكون عوامل طبيعية وقتية أو طوارئ طبيعية فجائية سببت انحباس الأمطار وإلى غور المياه إلى الأعماق. على كل فهي كوارث مزعجة حولت تلك الأماكن المنبتة المأهولة إلى أماكن صحراوية رملية لا يمكن لأحد النزول بها لعدم ملاءمتها لشروط الحياة.
وقد خلقت هذه الكوارث الطبيعية والتقلبات الجيولوجية التي حدثت في الأزمنة التي سبقت الإسلام قصصاً مختلفة وحكايات توارثها الناس جيلاً بعد جيل عن هلاك تلك الأقوام وتبدل وجه المعمورة وتحول الأرض المأنوسة إلى أرض موحشة. وقد تردد صداها في الكتب العربية؛ ففي كتب الأدب والتأريخ سيل من هذه الأخبار من عاد وثمود وطسم وجديس ووبار.
تكون الكوارث الطبيعية في بعض الأوقات على صورة انحباس مياه الأمطار مدة طويلة مقرونة برياح شديدة جافة حادة تحرق المزروعات، وتجفف الأرض. وقد يعقب ذلك هزات أرضية لا تترك شيئاً في تلك البقعة التي تتحول عندئذ إلى صحراء جرداء يتركها سكانها إلى منطقة أخرى تصلح للزراعة والرعي والعيش.
يقول المستشرق موريتس لا بد وأن تكون هنالك حقيقة تاريخية فيما يروي عن هلاك قوم عاد وثمود. فإذا عرفنا أن منطقة الحجر كانت منطقة ثمود، وأن هذه المنطقة هي منطقة بركانية كثيراً ما كانت تثور وتلقى بحممها على ما جاورها وأن (الحرات) هي فوهات تلك البراكين وأماكن حممها عرفنا لِمَ هلكت ثمود وزالت معظم آثارها من عالم الوجود.
والحرّات هي مناطق بركانية خمدت براكينها وبقيت حممها وموادها التي كانت تقذفها، وقد بردت منذ مدة قبل ظهور الإسلام، إلا أن الدخان كان لا يزال يخرج من بعضها حتى في العصور الإسلامية. فقد ذكروا أن النيران كانت تخرج من حرة النار في جنوب شرقي المدينة، وكانت تشاهد في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. وتحدث الناس عن نشاط بركاني ظهر فجأة في الحرة الكبرى التي تقع على مقربة من المدينة سنة 1256م. وقد دام ذلك عدة أسابيع، وذكروا أن حمم هذه الحرة أخذت تسيل وتزحف نحو المدينة حتى أصبحت على مسافة كيلومترات قليلة من المدينة التي لم تنج منه إلا بمعجزة.
ولم نعد نسمع بحوادث بركانية مهمة منذ سنة 1253 للميلاد في أكثر أنحاء شبه جزيرة العرب غير ما ذكرناه آنفاً. ففي هذه السنة حدث انفجار بركاني عظيم في منطقة عدن ثم خفت صوت البراكين منذ ذلك الحين ولم نعد نسمع بحوادث حرات تخرب وتدمر كما كانت تفعل في السابق. ومعنى هذا أن تطوراً جيولوجياً عظيماً حدث في هذه المنطقة بدون شك.
وقد بحث العلماء في طبيعة البلاد العربية من حيث الوجهة الجيولوجية ورأوا أن هذه البلاد قد جابهت عدة انقلابات وتطورات أرضية حدثت فيها منذ العصور الجيولوجية حتى الآن. ورأى الجوابون آثارا صدفية ومحاراً في الربع الخالي استدلوا منه على إن هذه المنطقة كانت مغطاة بالمياه ويجوز أنها كانت تحت مياه البحر.
وبنى المستشرقون على هذه الفرضيات العلمية نظرياتهم عن الأصل السامي وعن موطن الأصل السامي وهجرات الساميين. كما بحثوا عن موطن العرب الشماليين، ووطنهم الأصلي هل كان في اليمن أو شمال اليمن، وهل كانت الكوارث الطبيعية هي العوامل الأساسية في الهجرة أو عوامل أخرى.
تتحدث الكتب عن حادثة انفجار سد مأرب وكيف أن هذا الانفجار سبب جفاف منطقة كبيرة من أرض اليمن كانت تتغذى منه وكيف تمزق الناس أيدي سبأ وكيف هاجرت القبائل من الجنوب نحو الشمال.
وقد أدى ذلك الجفاف والتحول إلى تبدي القبائل المستقرة وتنقلها من مكان إلى مكان على سنة الإعراب. وهي ظاهرة تحدث كثيراً في شبه الجزيرة، فتتنقل على أثرها العشائر المتحضرة إلى البادية حيث تتخذ عيشة البدو الرحل. وقد حدث مثل هذا التطور في العصور الإسلامية أيضاً ولا سيما في الأوقات التي تردت فيها الحالة السياسية وضعف فيها نفوذ الحكومة فلم يعد في إمكانها صيانة الأمن ولا السيطرة على النظم الاقتصادية؛ فكانت القبائل المتحضرة أو النصف متحضرة تضطر لحماية نفسها إلى الالتجاء إلى الصحراء حيث لا تصل إليها لهيب الحروب السياسية والثورات وحيث لا تضطر إلى الاشتراك في حروب لا نفع لها منها ولا ضرر.
ويشاهد السواح في الوقت الحاضر آثار بيوت ومنازل في أمكنة قاحلة رملية لا يمكن أن يستقر بها الإنسان في مثل هذه الظروف بأي حال من الأحوال. وقد كانت مأهولة فيما مضى كما يظهر ذلك من هذه الآثار. فكيف حل فيها هذا الخراب وحوّلها هذا التحول!
وفي المصادر اليونانية أسماء مدن وقرى رآها الكتبة اليونانيون وحلوا بها وقد أعجب بها هؤلاء. إلا أنها اندثرت فيما بعد ولم يبق منها أي أثر حتى عند ظهور الرسول الكريم. وفي المصادر العربية مثل هذه الأسماء أيضاً زالت من عالم الوجود. وقد أنشأ المسلمون عدداً من المدن والقرى لم يبق منها اليوم أي أثر. وقد حدث مثل هذا الحادث في العصور الحديثة كذلك.
إن الجفاف هو أعظم عدو هدد البلاد العربية وحارب الحضارة والعمران في شبه جزيرة العرب. وهو الذي حول الجزيرة العربية إلى صحار رملية لا تصلح للإنبات ولا للسكنى. وللجفاف عوامل مساعدة هي الشمس والتغير السريع في درجات الحرارة وهبوب الرياح وتبدل مجاري المياه.
وقد بحث عن هذا العامل العالم المستشرق كيتاني فتوصل إلى هذه النتيجة، وهو أن جو بلاد العرب قد تغير وتبدل، ولما حل به الجفاف لم يعد في إمكان الإنسان ولا الأجسام الحية البقاء. فتركت تلك الأراضي التي تحولت إلى صحراء مقفرة.
والظاهر أن جو بلاد العرب كان مشبعاً في الأزمنة القديمة التي سبقت الإسلام بالرطوبة وكانت الأرض مخصبة منبتة لوجود المياه ثم جف الجو وتوسعت منطقة الجفاف هذه وارتحل عنها السكان.
جواد علي