مجلة الرسالة/العدد 664/أعداؤنا الثلاثة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 664 أعداؤنا الثلاثة [[مؤلف:|]] |
كافور الإخشيدي ← |
بتاريخ: 25 - 03 - 1946 |
كانت (الرسالة) أول من حصر أعداؤنا الثلاثة في الجهل والفقر والمرض حين اقترحت على وزارة الشؤون الاجتماعية أن تحرر دستورها الإصلاحي تحت هذه العناوين، لأنها جُمّاع الملل التي يصدر عنها كل فساد وينجم منها كل شر؛ وقالت يومئذ: إن هذه الوزارة تجديد رسمي لدعوة النبوة، فملاك الأمر فيها الدرس والروية والمشورة والعزيمة والنفاذ، على أن يكون كل رأي في وجهه، وكل عمل في وقته، وكل أمر في أهله. ثم انتظرنا وانتظر الناس، فإذا هي وزارة كسائر الوزارات: مكاتب وكتاب، وسعاة وحجاب، وأوراق تفرق وتجمع، وأرزاق تقّدر وتوزّع، ثم علم من غير عمل، أو عمل من غير علم؛ وإذا نحن بعد ثماني سنوات من عمرها لا نزال من الأمية والفاقة والعلة في الموضع الذي كنا فيه إذا لم نكن تأخرنا عنه. ذلك لأنها وزعت جهدها الضئيل ومالها القليل على ما سلبت من اختصاص الوزارات فعجزت عن أداء ما خلقت له؛ وتعاقب عليها الوزراء والوكلاء تعاقب الظلال الخفاقة ثم يمهلوا حتى ينضجوا الرأي ويرسموا الخطة ويبتغوا الوسيلة. فإذا سنح لها خاطر في الإصلاح بدأته من آخره أو أخذته من طرفه فينتشر عليها الأمر وتلتبس أمامها الوجهة. فالأمل إذن في استعدائها على الجهل والفقر والمرض وهي مصابة بهن جميعاً أشبه الأشياء باستثمار الصفصاف واستيراد العقيم. ولكن علل الشقاء المصري كانت قد برزت في وعينا القومي بروز العقيدة الراسخة والضرورة الملحة، فهي تثب إلى العيون وثوب الحصى، وتقع في القلوب وقوع النبل، فمن حاول أن يفر منها أو يغضي عنها كان كالمصحر في وسط الزوبعة أنى اتجه وجد الرمل في وجهه والظلام في وجهته. وذلك مثل الذين تزعموا نهضة الأمة في مدى ربع قرن فقصروا الجهود وحصروا الأفكار في مكافحة العدو الرابع وهو الاحتلال. ولو كتب الله لهم التوفيق لشبوها على الأعداء الأربعة في وقت واحد؛ ولو مهد لهم سبيل الفوز لجعلوا الميدان الأول للعدو الأول وهو الجهل؛ لأنه هو الذي ولد الفقر والمرض ثم استعان بهما على سلب الاستقلال، وجلب الاحتلال، وقتل الروح القومية في الشعب، فلم يكن له رأي عام لنقص إدراكه، ولا خير مشترك لضعف إنتاجه، ولا كيان صحيح لوهن جسمه. ولكن زعماءنا اختاروا أسلم الميادين، ونهجوا أسهل الطرق، وابتغوا عرض الحياة، لأن محاربة الاحتلال لا تكلفهم غير تأليف المظاهرات وإنشاء المقالات وإلقاء الخطب، ثم تنتهي بهم وشيكاً إلى الحكم والثروة والجاه عن طريق الدستور أطال الله عمره وأعز نصره! أما محاربة الجهل والفقر والمرض، فجهاد لا يثبت له ولا يصبر عليه إلا أولوا العزم من المجاهدين المخلصين المضحين الذين يعملون ليرضى الله، ويشقون ليسعد الناس، ويموتون ليحيى الوطن!
على أن الزعيم الحكيم يستطيع أن يدرك من وراء السياسة والحكم رضا قلبه ورضا شعبه ورضا ربه إذا تأبّى على المطامع، وتعالى عن الشهوات، ووجّه قوى الحكومة والأمة كلها إلى هذا الجهاد المقدس. إنه إن أحسن التنبيه وأخلص التوجيه وأحكم القيادة، أبلى بلاء الرسل دون أن يتصدى لمخاطر الرسالة، وجوزي جزاء الملوك دون يتعرض لمكاره المُلك، فأجناده يضحون وهو يعيّد، وقواده يحاربون وهو ينتصر، وأنداده يفنون وهو يخلد!
ليت شعري هل كان يفكر في ذلك صاحب الدولة رئيس الحكومة
القائمة حين قطع العزم على أن يكون برنامجه في الحكم مفاوضة
الاحتلال في مصر والسودان على الجلاء، ومجاهدة الجهل والفقر
والمرض حتى الفناء؟!
نعم، طوى برنامجه السياسي على هذين المطلبين، ثم أخذ يهيأ لهما الأسباب ويرصد الأهب، فألف وفد المفاوضة من رجالات السياسة، وفي الوقت عينه ألف مجلساً أعلى لشؤون الطبقات الفقيرة من وزراء المعارف والشؤون والصحة والزراعة والتجارة، وجعل لنفسه الرياسة في الوفد المفاوض وفي المجلس الأعلى، ثم بدأ العمل في الميدانين على السواء. والذي يعنينا اليوم ذكره أن هذا المجلس الأعلى قرر القيام بطائفة من اضخم المشروعات الثقافية والاقتصادية والصحية، تحقق العدالة الاجتماعية، وترفع مستوى العيش لجمهور الشعب وهو صلب المجتمع وأداة إنتاجه وعدة دفاعه؛ ورأى تنفيذاً لتلك الأعمال الخطيرة أن يعقد لها قرضاً وطنياً بخمسين مليون جنيه يثمّر فيه عفو المال وفضلات الرزق فتجدي على صاحبها مرتين: مرة في نفسه، وأخرى في جنسه!
من تلك المشروعات العتيدة ما يعالج الجهل كإصلاح التعليم الإلزامي، ومحو الأمية فيمن شبوا عن الطوق وجاوزوا حد الإلزام. ومنها ما يعالج الفقر والمرض كتقسيم القطر إلى وحدات اجتماعية عامة، تنقسم كل منها إلى عشرة آلاف وحدة، تتمثل في كل وحدة جميع الوزارات المشتركة في هذا المجلس الأعلى فتكون سفيراً بين الحكومة والفلاح، وصلة بين العلم والزراعة، ورسولاً من الطب إلى المرضى، ووسيطاً بين التاجر والمنتج، وبرزخاً بين الناس والمعرفة؛ وتلك هي الأعمال التي أنشئت لها وزارة الشؤون فلم تستطع النهوض بها، ولم تصارح الناس بالعجز عنها؛ وظلت تعمل على هامش الحكومة: تصدر المجلة، وتعلن الموالد، وتسجل النقابات، وتزور المساجين، وتستقبل العمال، وتأخذ شيئاً من كل شيء، ولا تؤثر أبدا في أي شيء! وكان من وسائلها المرجوة لو رزقت ملكة الابتكار، أن تدبر المال والرجال بمثل ما يدبره اليوم رئيس الحكومة فتذلل العقبة التي وقفت دونها خائرة حائرة لا تعرف لأمرها قِبلة ولا دِبرة.
لقد عبأ رئيس الوزراء قوى الحكومة والشعب لمحاربة أعدائنا الأربعة، وليس في الأمة اليوم كما يقول شبابها ويردد كهولها من يضن بماله ونفسه على هذه الحرب، فهل آن لمصر السادرة في الخلاف والغي أن تدرك سر النهوض، وتعرف حقيقة الإصلاح، وتعلم أن الأمة لا تكون متمدنة إلا إذا امحت هذه الفروق المخيفة بين الخاصة والعامة، وبين المدينة والقرية؟ إنك ترى الفقير القروي في جسمه الضاوي وثوبه الخلق وجهله المطبق، ثم ترى الغني الحضري وعليه زهرة العيش ونضرة الصحة ونور العلم، فلا تصدق أن هذين الرجلين يرامهما وطن واحد، وترعاهما حكومة واحدة!
إن معرة الاحتلال العسكري تصيب المحتل في شرفه وضميره، لأنه يبرره بضعفنا ويؤيده بقوته؛ ولكن معرة الانحلال الفكري والجسدي والاجتماعي تصيب الشعب في كرامته ودينه، لأنه يرضاه وهو قادر على الإفلات من رقبته.
لذلك كنا أحياء أن نفكر بعض التفكير في عاقبة هذه الأمور؛ فأن الوزارة الصدقية محدودة الأجل بنتيجة المفاوضات، فإذا أخفقت مفاوضة الاحتلال، أو مال ميزان الانتخابات إلى الشمال، اعتزلت الوزارة الحكم لا محالة. وإذن يحق لنا أن نتساءل عن مصير العملين العظيمين اللذين بدأهما صدقي باشا؛ فأما المفاوضات السياسية فسيستأنفها وفد يتلوه وفد إلى أن يرث الله الجزر البريطانية ومن عليها، لأن هذا النوع من الجهاد كلام ونحن نجيده، وسلام ونحن نريده. وأما هذه الهبة الإصلاحية فأغلب الظن ألاَّ تستمر، لأنها بناء ونحن نحب الهدم، وعناء ونحن نؤثر الراحة، ومجد ونحن نكره أن يكون لغيرنا الإكرام! والله سبحانه وتعالى قادر على أن يخيب هذه الظنون. وأن يقول للشيء كن فيكون!
أحمد حسن الزيات