الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 662/الفتح الإسلامي

مجلة الرسالة/العدد 662/الفتح الإسلامي

بتاريخ: 11 - 03 - 1946


للأستاذ علي الطنطاوي

لما وثب الألمان تلك الوثبة، فطحنوا جيوشاً، ودّوخوا ممالك، وطمسوا في مصور أورّبة حدوداً ومحوا دولا، وأخذتهم العزة بالإثم والعدوان فقال فرعونهم: أنا ربكم الأعلى!. . .

وقام من بعدهم اليابان فقفزوا كالجنّ على جزر المحيط، وحازوا أطراف المشرق، وتمَّ ذلك في اللمحة الخاطفة كأنه حلم نائم أو كأنه سحر ساحر. . .

. . . أذاع مذيع (عربي. . .) من محطة لست اسّميها، يمجد هذا النصر، ويفرغ فيه كل ما يملأ رأس الضعيف من الإعجاب ببطولة القوىّ، وكان مما وسوس له به شيطانه أن قال: (هذا هو الفتح، لا فتوحاتنا التي لم نملَّ من الفخر بها وقد مضى عليها ألف وثلاثمائة سنة)!

وقالوا: رد عليه، وَضعْ في فمه حجراً. قلت: لا! إنه لم َيئنِ أوان الردّ عليه، فانتظروا، فأنها ستردّ عليه الأيام.

وها هي ذي الأيام قد قالت فأبلغت، وردّت فأفحمت، ولكن أين ذلك المذيع ليستمع ويفكر، فيرى فتوح هتلر كفتوح تيمورلنك، عاصفة عاتية مدمرة، تهب على الكون فتقتلع الأشجار، وتهدم البنى، وتدحرج الصخور، ثم تضعف العاصفة وتضمحل، ولا تدع وراءها إلا الموت والخراب والفوضى! وما أسهل الهدم، وما أهون القتل! إن كلباً عقوراً يقتل أعظم نابغة في الدنيا. وأكبر عالم في الأرض لا يستطيع أن يخلق ذبابة. والبناء الفخم الذي ينشئه مائة مهندس بارع، يهدمه اللص بقنبلة واحدة، أو يحرقه بعود كبريت. . . والسفينة المدرعة العظيمة التي يجتمع على إنشائها الآلاف، ويمضي العمر، يغرقها مجنون في ساعة. . . كذلك كان فتح تيمورلنك وهتلر. . . وأين اليوم هتلر وتيمور ومن كان بينهما من فاتحين وغزاة مظفرين؟ وأين من كان قبلهما؟ لقد طواهم الزمان، فلم يبقى منهم إلا قبور تحتها رفات رميم، أو صحائف فيها مجد ميت، وربما أغرقهم النسيان في لجته، فلم يمنحهم قبرا على الأرض، ولا ذكراً في التاريخ. . . وكذلك الفتوح التي تفخر بها الأمم، ويشغل بها الطلاب في المدارس، كلها فتوح قوة وتغلب، فإذا ضعف القوىّ، أو قوي الضعيف، عاد الغالب مغلوباً، والمغلوب غالبا.

أما (الفتح الإسلامي) فنسيج وحده في تاريخ البشر، لا يشبهه فتح ولا يدانيه ولا يقاس به. إن هذا (المذيع) رأى جانباً واحداً منه، وخفيت عنه جوانب: رأى الظفر في المعارك والغلبة في الميادين، فقاسها على أشباهها ونظائرها، وتحكم فيها بما أوصله إليه عقله، وما دفعه إليه هواه. . . أما الجوانب التي لم يرها، فقد وصفها الإمام العبقري ابن تيمية بكلمة جامعة، لو كان إعجاز بعد القرآن، لقلت إنها من معجزات البيان، هي: (إن المسلمين الأولين لم ينقلوا الإسلام إلى الأمم، ولكن نقلوا الأمم إلى الإسلام). إن في هذه الكلمة القصيرة سرَّ الفتح الإسلامي ومزاياه وعلة بقائه واستمراره، وهاك بعض البيان:

إنها لم تدر في الأرض رحى الحرب، لم يطأها جيش فاتح، إلا ابتغاء أرض يضمها الفاتح إلى أرضه، أو شعب يحكمه مع شعبه، أو غنائم ينالها، أو ثأر يطلبه، أو خيرات يستولي عليها، أو كنز يملكه، هذه هي غايات الحروب، وهذه مقاصد الفاتحين.

أما المسلمون فقد خرجوا يعلنون كلمة الله، وينشرون دينه، ويبذلون في سبيل ذلك دماءهم وأرواحهم، ويفارقون من أجله ديارهم وأولادهم، لا يريدون علواً في الأرض ولا استكباراً، ولا يبتغون دنيا ولا يريدون مالا. وهذه هي المزيه الأولى.

وكانت غايتهم إصلاح البشر في أخلاقهم ومعايشهم، وسعادة الناس في دنياهم وآخرتهم، فكانوا يحملون إليهم مفتاح هذه السعادة، وهو القرآن، فإن كانوا عقلاء وقبلوا الهداية واستجابوا لها، وارتضوا هذه السعادة ورحبوا بها، كفُّوا عنهم فلم يقاتلوهم، ولو وإن لم يقبلوا وركبوا رؤوسهم عناداً، ولم يحبوا أن يجلبوا لأنفسهم النفع ويمنعوا عنها الضرر، عدّوهم كالأولاد القاصرين أو المعتوهين والمجانين، لابد لهم من وصيّ يقوم عليهم، ويصرّف شؤونهم فيما فيه صلاحهم، وفرضوا عليهم أجرة قليلة هي كأجرة الوصيّ الأمين، فإن دفعوها برضائهم قبلوا منهم، وان والوا عنادهم وأبوا إلا الإفساد في الأرض، وأذى أنفسهم وإخوانهم في الإنسانية، دعوهم إلى الحروب، لان الإسلام يرى البشر كلهم كراكبي السفينة إذا أراد أحدهم أن يخرق موضعه، كان عليهم أن يمنعوه ويكفوه ويضربوا على يده، لئلا يهلك نفسه ويهلكهم معه، فكأن الإسلام وصل منذ أربعة عشر قرناً، إلى ما تسعى إليه الآن ولا تدنو منه (هيئة الأمم المتحدة). وهذه هي الميزة الثانية.

وكانوا إذا حاربوا، حافظوا على شرفهم، وأقاموا على كرمهم، فكانوا أشرف محاربين عرفهم ظهر هذه الكرة، لا يغدرون ولا يمثلون ولا يجهزون على جريح، ولا يحاربون امرأة، ولا يعرضون لعاجز، ولا يمسّون معبدا ولا يؤذون متعبداً، ولا يحرقون داراً، ولا يفسدون ماء، وإن هذه الخلائق في الحرب تعدُّ غريبة في هذا القرن، الذي يسمونه (قرن العشرين)، ويزعمون أنهم بلغوا فيه نهاية الارتقاء، وذروة المدنية، فكيف وقد جاءت في القرون (المظلمة!!) التي يسمونها القرون الوسطى؟! هذه الثالثة.

ولم يكن يلهيهم عن غايتهم مال، ولا يشغلهم جاه، ولا ينسيهم هذه الغاية خطر، فكانوا إذا اشتد الخطب، وادلهمت المعركة وعبست، يلجئون إلى الله الذي حاربوا من أجله، وقاتلوا في سبيله. هذا قتيبة بن مسلم الفاتح المظفر، يثب عليه كمين من الترك، ويقع بين حجري الرحى، فيقول: انظروا إلى محمد بن واسع ماذا يصنع؟ فيقولون: هو قاتم هناك يشير بإصبعه نحو السماء، فيشرق وجهه ويطمئن، ويقول: والله لهذه الإصبع أحب إلي من عشرة آلاف سيف يشهر، أقدموا على بركات الله.

وكانوا يعملون لله وحده، لا لجاه ولا لذكر. هذا بطل الدنيا وعبقري الحروب خالد، يعزله عمر فيقاتل جندياً كما كان يقاتل قائداً، لأن الله لا يجزي القواد وحدهم ولكنه يجزي كل عامل مخلص. وهذا رجل لا يعرفه أحد، يفعل الفعلة التي تكسبه مجد الدهر ثم يخفي اسمه ولا يعلنه ويقنع بثواب الله: يلقى المسلمون في معركة من المعارك شدة وكيدا من أحد أبطال العدو، فينادي قائدهم إن من قتل هذا الرجل فله ألف دينار، فلا يصبحون إلا ورأسه ملقى في خيمة القائد ولا يعرف من قتله، ويسألون فلا يجابون، فيقوم القائد فيقول: انشد بالله من فعل هذا، إذا كان يسمع كلامي إلا خرج إلىّ. فيخرج رجل لا يعرفونه، فيسأله: أأنت فعلت هذا؟ فيقول: نعم. فيقول: خذ الجائزة فيأبى، ويقول: إنما فعلت ذلك لله وحده. فيقول له: ما اسمك؟ فيقول: وما لكم ولأسمي، أتريدون أن تنشروه في الناس، فتضيعوا عليّ ثوابي، وتفسدوا علي نفسي، دعوني.

ووقعوا - وهم المصحرون المعدمون، الذين كانوا يأكلون القد، ويتبلغون بالتمرة - وقعوا على كنوز كسرى، وإن الحبة الواحدة منها يأخذها الرجل تغنيه وتغني ولده من بعده، وما يراه إلا الله، فلم يغلًّوا منها شيئا وأدوها كاملة، لأن نّبيهم نهاهم عن الغلّ، ولأنهم إنما خرجوا لله، لا للمال ولا للكنوز! هذه الرابعة.

ثم إنهم إذا دخلوا بلدة لم يحملوا إليها الإسلام في محاضرات يلقونها، ونشرات يذيعونها، وكتب يطبعونها، فيكونوا هم الأساتذة أبداً، وأولئك كالتلاميذ، ويكونوا المتقدمين إلى كل خير، والمستأثرين بكل نفع، لا ولكنهم يدلون أهلها على منابع الإسلام، ويرشدونهم إلى الكتاب والسنة، ثم يتركونهم لينتقلوا هم بأنفسهم إلى الإسلام. فلم تمر برهة حتى سبقوا العرب وبزوهم، وكان منهم أُئمة الدين، وعلماء القرآن والحديث والفقه وعاد العرب الفاتحون وجلسوا بين أيديهم، وتتلمذوا عليهم، وأخذوا الدين عنهم. وهذه الخامسة.

ثم إن الفاتحين الأولين، لم يعلنوا عن الإسلام بألسنتهم ولم يدعوا إليه بأقوالهم، ولكن أروا الناس في أخلاقهم ومعاملاتهم وسيرتهم أمثلة من أحكام الإسلام، فحببوه بذلك إليهم ورغبوهم فيه، وها هم أولاء في حمص بعد أن فتحت لهم ودخلوها واخذوا الجزية من أهلها، يبلغهم أن الروم قد توجهوا إليهم، ويعرفون عجزهم عن مقابلتهم، وحماية أهل البلد الذين صاروا في ذمتهم ويعزمون على الخروج منها، فيدعون البطاركة والرؤساء، ويخبرونهم بعجزهم ويردون إليهم ما قبضوا منهم من مال الجزية كاملا فيبلغ العجب والإعجاب قرارات نفوسهم، ويقولون: والله ما رأينا مثل هذا من الروم وهم أهل ملتنا، وإن ديناً يأمر أصحابه بهذا لنعم الدين هو، ولأنتم أحب إلينا منهم، هذه السادسة.

ولم يَنْجلِ الفتح، عن غالبين ومغلوبين، ولا تزال تهيج بينهم الأحقاد، وتضرم نيران الثورات والحرب، كما هي الحال في كل فتح، وإنما انجلى عن أمة واحدة لها ربّ واحد، ونبي واحد وكتاب واحد، أمة مسلمة، فلا عرب ولا فرس ولا روم، ليس منهم من دعا إلى عصبيته، بعد أن تبت يدا أبي لهب العربي القرشي عم النبيّ، صلى الله عليه، وكرمت أيدي بلال الحبشي وصهيب الرومي وكان من أهل البيت الفارسي سلمان. هذه السابعة.

بهذا استقر (الفتح الإسلامي) وخلد، وبقيت هذه البلاد للإسلام إلى يوم القيامة، وإذا كان أحياناً حروب عصبية ومعارك على الملك، فإنما كانت لمخالفة قواعد الإسلام، والدعوة إلى العصبيات والقوميات، وجعل الخلافة ملكا، وتحويلها وراثية كسروية، ولو بقيت بكرية عمرية، لما كان خلاف ولا نزاع.

هذه هي الجوانب التي لم يشهدها ذلك (المذيع) ولم يعرفها، فحسب أن الفتح الإسلامي كفتوح هتلر، فتح غلبة وقهر. . . كلا إنما هو فتح هداية وإصلاح. على أننا كنا أقوى من جند هتلر قلباً، وأعظم بطولة، وأعجب نصراً، فلقد حارب هتلر بعدّة ضخمة وعديد، وجيش مدرب شديد، ووسائل إلى التقتيل والتدمير يعجز عن تصورها إبليس، ثم غلب هتلر ووسائله وجيوشه، وقام العرب لفتح الدنيا أمام القرآن، وهم لا يملكون جيشاً مدرباً، ولا قائداً عسكرياً متعلماً، وما سلاحهم إلا سيوف ملفوفة بالخرق، ثم طحنوا بأيمانهم أعظم إمبراطورية في معركتين اثنتين، القادسية ونهاوند، وأزاحوا عن ظهر الأرض أثقل عرش، وخلصوا دنيا القرن السابع من جبروت كسرى وقيصر، ثم انتشروا في أرجاء الكون، من جنان الشام إلى سهول العراق ومصر، إلى صحارى أفريقية وتركستان، إلى جبال الألب والقفقاس، إلى جزر البحار إلى ثلج روسيا، إلى لظى الحبشة، لم يدعوا بقعة من الأرض إلا سكنوها وحكموا فيها باسم الله وبشرع محمد، وهم كانوا القابعين في رمال الجزيرة، يخشون تابعاً من أتباع قيصر في الشام، ويرجون تابعاً من أتباع كسرى في العراق، ويسمونه ملك العرب!

هذه هي مزية الفتح الإسلامي؛ فإذا كانت الفتوح عاصفة مدّمرة فهو الغيث الممرع، وأن كانت القتل والحراب والفوضى، فهو البناء والنظام. . . فيا أيها (المذيع) قد بطل فخرك بفتح هتلر، وقد ذهب هتلر وفتوحه مع أمس الدابر، ولم يعقب إلا الفساد في الأرض، وسيذهب كل فتح قام على القهر واعتمد على الظلم. . . . ويظلّ (الفتح الإسلامي) راسخاً رسوخ الأرض، باقياً بقاء الزمان، ولا يزال مفخرة لكل من قال أنا إنسان!

فيا أيها المنتصرون؛ هاتوا مثل هذا الفتح، أو فاسكتوا، لا تفتخروا!!

(دمشق)

علي الطنطاوي