مجلة الرسالة/العدد 660/القصص
→ المدينة المسحورة | مجلة الرسالة - العدد 660 القصص [[مؤلف:|]] |
The Christmas Gift That Came to Rupert بتاريخ: 25 - 02 - 1946 |
من أدب القصص الأمريكي
هدية عيد الميلاد. . .
للكاتب الأمريكي برت هارت
بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي
عيد الميلاد في (كلفورنيا) من أروع فصول السنة. . . فهو الفصل الذي تنحدر فيه المياه من جو السماء إلى أديم الأرض، فإذا به يهتز ويربو ويفيق من غفوة الشتاء، وإذا الأرض مجلوة مزهوة بما انبسط عليها من زهور الربيع وأقاحيه. . .
وكانت الشمس تسرب شعاعها خلال السحب المنعقدة - التي تتهادى أمام موكب الريح - فيلقى الروابي في روعة وجلال فإذا مظاهر الحياة قد تجمعت: الموت والحياة، والفناء والبعث، والألم والبهجة. . . نعم. . . فالروابي التي كان يطويها مطرف الموت والفناء قد زهت. . . وسرت نسمة الحياة تراودها، فإذا البعث والنشور يدب في أكنافها، وإذا البهجة والحبور تجول في أطرافها. . . وإذا الريح التي كانت تنوح في ثورتها تداعب براعم الأزهار وقد استقرت مكان الأوراق الذابلة الذاوية. . .
ربما كان هذا كله علة هذا الرونق الذي أحله عيد الميلاد في حجرة الاستقبال. . . والذي أكسب الحضور منظراً خلاباً فريداً وأكسب الأزاهر فتنة وجمالاً. . .
قال الطبيب وهو يدنو بكرسيه من النار: (والآن:.) ثم قلب طرفه في لطف ودماثة ولكن في حزم وثبات بين الوجوه الملتفة حوله. . . وقال:
- أود قبيل أن أمضي في قصتي. . . أن أحذركم من مقاطعتي بتلك الأسئلة الساذجة المضحكة. . . فعلى كل غلام منكم ألا يعبث برجله أو بذراعه. . . وإلا فسيكون جزاؤه الطرد والحرمان. . . أفتعدونني بذلك؟!)
فأجابته الجماعة في صوت واحد فيه غضاضة الطفولة ورنة الصبية - (أجل. . . يا سيدنا!)
فعاد الطبيب يقول في صوته الرقيق الحازم: - (إذن عليكم بالسكون. . . (بوب). . . دع رجالك. وارغب عن صليل هذا السيف الصغير. . . وستجلس (فلورا) جواري كالسيدة الصغيرة، وتكون في هدوئها وإصاختها السمع مثلاً يحتذيه باقي الجماعة. . . (تانج) اجلس كما يحلو لهواك وبغيتك، ولكن في هدوء وإصغاء. . . والآن. أديروا صنبور الغاز قليلاً لكي تستعر النار وتتوهج. . . وينبغي على كل صبي أن يجنح إلى الصمت. . . ومن يسبب أدنى ضوضاء، فلن يبقى بين جدران هذه الغرفة. . .)
وسادت إثر ذلك آونة من الصمت العميق. . . فأسند (بوب) سيفه إلى جانبه. . . وداعبت (فلورا) دميتها قليلاً، ثم أرقدتها وجلست جوار الطبيب. . . أما (فنج تانج) - ذلك الطفل الوثني الصغير الذي أتيح له أن يحضر مباهج (عيد الميلاد) - فقد ارتسمت على ثغره ابتسامة عذبة فيها حلاوة وفيها براءة.
وكانت الدقات التي تنبعث من الساعة الفرنسية المستقرة فوق المدفأة. . . تعكر صفو ذلك الهدوء الذي خلعته روعة (عيد الميلاد) على حجرة الجلوس حيث تناثرت اللعب، والعلب المصنوعة من خشب الأرز الطيب الرائحة. . . والأزهار الفياحة عطراً. . .
بدأ الطبيب يسرد قصته قائلاً:
(منذ أربع سنوات - في مثل هذا الوقت - حضرت حفلة (عيد الميلاد) في منزل صديق من أصدقائي المدرسين. . . وشملني شيء من المرح، إذ سيتاح لي أن أرى إبناً من أبنائه على الرغم من أنه في الثانية عشرة من عمره إلا أنه كان على مبلغ وافر من العبقرية والنبوغ. . . فقد حفظ من قصائد الشعر اللاتيني والإنجليزي ما لا أستطيع له حصراً. . .
كما كان في مقدوره أن يؤلف قصائد وأشعاراً رقيقة لها روعتها ولها جمالها. . .
وليس بمقدوري أن أحكم على أشعاره، فما أنا ممن أوتوا القدرة على النقد، ولكن ثمة بعض النقاد أعجبوا بما أوتي من الموهبة الفائقة على نظم الشعر في مثل سنه المبكرة. وتنبأوا له بمستقبل زاهر في ساحة الشعر والأدب. . . بيد أن والده كان على الضد من ذلك: رجل حقائق وعمل لا رجل خيال وأدب. . .
كانت الحفلة مبهجة مرحة. . . وكان الأطفال قد تجمعوا من كل صوب ومكان. . . ووقف معهم ذلك الغلام - وهو في طوله مثل (بوبي). . . وفي أدبه وخلقه مثل (فلورا) التي بجواري. . . كان الجميع يدعونه (روبرت). . . أما صحته فكانت معتلة ضعيفة واهنة. . . وطالما شكا إليّ أبوه من قلة لعبه مع من هم في سنه من الصبية وتفضيله اللبث في البيت مغموراً بين الكتب والأوراق يطالع ويكتب. . .
وكان ثم (شجرة لعيد الميلاد) كشجرتنا هذه. . . وكثيراً ما ضحكنا في عبث ولهو مع الأطفال الذين راحوا يتسلمون هداياهم المعلقة في الشجرة. . . وشملنا جميعاً جو من المرح والصفو. . .
وبغتة ندت عن غلام صيحة فيها مزيج من العجب والطرب وقال: (هاك!! شيء لروبرت! فماذا أنتم قائلون؟!)
فراح يخمن كل منا:
- (قلم من الذهب.)
- (كتاب للشاعر ملتون. . .)
- (قاموس للقوافي. . .)
بيد أن الغلام قال على دهش منا:
- (ليس شيء من ذلك إنما هو!. طبل.)
- (ماذا؟!!)
- (طبل. . . وعليه اسم روبرت)!
فارتفعت صيحات الضحك من أفواهنا. . . فقد كانت دعابة حقاً. . . وقال أحدنا: (هه. . . أرى أنك ستحدث في العالم دوياً هائلاً يا روبرت!.) وقال آخر (ما هذا الطبل إلا لوزن الشعر!) وترت الأقوال وتعددت فيها دعابة وفيها عبث. . . بيد أن روبرت أبى أن ينبس بكلمة. . . وشحب لون وجهه. . . وأطلق صيحة فيها حقد واضطراب، وبرح الغرفة. . . فأحس هؤلاء الساخرون شيئاً من التألم والتأنيب. . . وانهالت الأسئلة فيمن أتى بهذا الطبل. . . ولكن دون جدوى. . . ولم يعد (روبرت) إلى الغرفة ثانية تلك الليلة. . .
وضرب النسيان ستارة على هذه الحادثة فقد اشتعلت حرب العصيان الأهلية في الربيع التالي. . . وعينت في أحد الفيالق.
وفي طريقي إلى ساحة القتال مررت بالأستاذ المدرس. . . فكان أول سؤال - إبتدره به لساني - عن (روبرت). . . فهز الأستاذ رأسه في حزن وألم! وقال:
- (ليس على ما يرام! فقد أصيب بانحراف ظل ملازمه منذ عيد الميلاد حينما رأيته. . . حالة غاية في الغرابة. . . ولكن اذهب فانظره لملك تستطيع أن تزيل عنه ما يعتريه!)
فذهبت من فوري إلى منزل الأستاذ حيث وجدت روبرت مضجعاً في مقعد طويل. . . وقد تناثرت ثم حوله كتبه وأوراقه وعلق الطبل فوق رأسه. . . وكان وجهه شاحباً ذابلاً. . . ولكن عينيه كانتا في بريق ولمعان. . .
ابتهج وسر حينما رآني. . . ولما علم بوجهتي. . . طفق يسألني كثيراً عن الحرب. . . وظننت أني بحديثي إليه قد سليته عن مرضه، غير أنه فجأة أمسك بيدي وقربني إليه قائلاً في صوت خفيض كالنبأة تسري في الفضاء.
- (سيدي الطبيب. . . أرجو ألا تسخر مني حينما أخبرك بعض الأشياء! إنك لتذكر ذلك الطبل. . .) وأشار إلى الطبل المعلق في الحائط فوق رأسه. . . (وتعلم كيف أتى إلى من حيث لا أدري ولا تدرون. . . فبعد بضعة أسابيع من عيد الميلاد وكان الطبل معلقاً هكذا فوق رأسي. . . وكانت عيناي بين النعاس واليقظة. . . إذ يطرق أذني صوت قرعات خافتة تنبعث من الطبل ثم إذا بها تعلو وترتفع. . . ثم توالت وتتابعت سريعاً، ودوّى صوتها جليلاً رهيباً. . . حتى لكأنها ملأت البيت ضجة ودوياً. طرقت أذني ثانية عندما وافى الليل نصفه ولم أجرؤ على أن أنبئ أحداً بخبرها. . . ولكني كنت أسمعها كل ليلة إثر ذلك. . .
وانقطع صوته برهة. . . ولكنه لم يلبث أن عاد يقول في قلق واضطراب (أحياناً تكون القرعات خافتة هينة. . . وأحياناً تكون مرتفعة مدوّية. . . ولكنها ظلت سريعة متتابعة حتى كنت أخشى أن يسمعها أحد من أهل البيت فيسألني فلا أجد جواباً. . .
بيد أني أعتقد يا سيدي الطبيب، ونظر إليّ نظرة فيها ألم وفيها قلق (أعتقد. . . أن أحداً لم يسمعها سواي. . . إنها تأتيني من هذا الطبل مرتين في اليوم. . . عندما أكون غارقاً في القراءة أو الكتابة. . . أسمعها. . . فكأنها غاضبة حانقة في قرعها. . . وتعمل على أن تستلب عقلي من بين كتبي. . .).
وكانت عيناه تلمعان وتتألقان، وصدره بين ارتفاع وانخفاض، فحاولت أن أخبره أن هذا ليس إلا ضعفاً وإنهاكاً عقلياً وجسمانياً أدى إلى اضطراب في الحواس، كما يحدث لكثير من الناس. فأنصت إلى ما أقول، وعلى ثغره ابتسامة حزينة كأنه لا يعتقد ما أقول، ولكنه شكرني، ثم لم ألبث أن ودعته ورحلت، وقابلت الأستاذ في طريقي، فأوضحت له رأيي عن حالة ولده فقال:
إذن فهو يحتاج لهواء منعش، وجو رائق، ورياضة جميلة!
ولم يكن الأستاذ بالرجل السئ البغيض، ولكن كان كثير الألم والإشفاق لما يعتري ولده.
وغادرت المدينة في نفس ذلك اليوم، وكاد داعي النسيان أن يأتي على هذه الذكرى فيطويها ويمحوها، فقد انهمكت في تمريضي للجرحى، ومعالجتهم في مستشفيات القتال. . . لولا أن قدر لي أن ألقى رجلاً عسكرياً، كان على صلة صداقة بالأستاذ فأخبرني أن (روبرت) أصيب بلوثة وخبال في عقله، وفي إحدى النوبات التي كانت كثيراً ما تعتريه، فر من المنزل، ولم يعثر له على أثر، وكان الخوف من أن يكون النهر قد طواه في أعماقه.
فاهتزت نفسي في فرق وروع لهذه الفاجعة، ولكن لم يقيض لي الله وقتاً أجلس فيه حزيناً لما أصاب (روبرت) الصغير.
ومضت الأيام بعد هذا النبأ، وإذ بفيلق من جيشنا قد أتى عليه الثوار، وفتكوا به في وحشية وجنون.
فنقلت من ساحتي إلى مستشفى هذا الفيلق لأعاون زملائي الأطباء في معالجة حياة هؤلاء المنكوبين والصرعى.
وعثرت برجل طويل القامة عملّس بتع، كان مثخناً بالجراح في فخذيه، ولكن رجاني أن أدعه وأنصرف إلى زملائه الذين هم أحوج منه بالعناية والرعاية، بيد أني لم أكترث لرجائه في بادئ الأمر، لأن هذه الرحمة وإنكار الذات سائدة شائعة بين رجال الجيش جميعاً، ولكنه ما لبث أن عاد يقول: (بالله أيها الطبيب دعني، فثمت غلام كان يقرع الطبل، غلام باسل جسور، يجود بأنفاسه الآن، فاذهب إليه وانظره لعلك مستطيع له علاجاً، لقد أنقذ هذا الغلام ببسالته وجسارته كثيراً من رجالنا، لقد أنقذ شرف فيلقنا بما أتاه من جليل الأعمال هذا الصباح فأنقذه بالله أيها الطبيب!).
أثرت في نفسي روح هذا الرجل وسجيته أكثر من منظر هؤلاء الجرحى وهم مبعثرون في كل مكان يئنون ويصيحون في حشرجة ورحير مما بهم من ألم وعذاب. فمضيت بينهم إلى حيث كان ذلك الغلام - قارع الطبل - راقداً وجواره طبله ملقى. . . فلمحت وجهه فإذا به (روبرت).
ولم أكن في حاجة إلى وصف ذلك الرجل الجريح ولا إلى البرودة التي سرت إلى جبينه. . . لكي أعرف أن ليس ثمة من أمل في حياته - ناديته باسمه؛ ففتح عينيه وعرفني. . . وقال في صوت هامس فيه ضعف يسري (إني لمسرور بلقائك. . . ولكن أحسب أن القضاء حم ولا مفر من الحمام)، فلم أجد في نفسي القدرة على أن أكذبه القول، ولا القدرة على أن أخبره بالحقيقة، فأمسكت بيده وضغطت عليها في رفق ولطف أحثه على التجلد، وتابع حديثه في صوت أوهن وأضعف.
(. . . ولكنك سترى والدي، فاسأله أن يغفر لي، ويصفح عني، وقد يلام كل إنسان سواي، لقد تقضي وقت طويل قبل أن أدرك علة إرسال هذا الطبل لي كهدية في عيد الميلاد! وكذلك علة هذا النداء الذي ظل ينبعث من دقاته يدعوني ويدعوني. . . وأخيراً عرفت ما كانت تدعوني إليه، وإني لراض بما فعلت، فبهذا تحدثني نفسي: خبّر والدي أن هذا أفضل من لبثي معه، أنغص عليه عيشه، وأكدر عليه صفو حياته، لما يعتريني من شذوذ واضطراب ومرض).
وتوقف حديثه هنيهة، ثم إذا به يمسك يدي ويقول: (انصت!). . . فأصخت السمع، ولكن لم يطرق أذني سوى أنات الجرحى وزحير المرضى، فقال في صوت خافت: (الطبل! ألا تسمعه؟ إنه يدعوني)، ومد راحته إلى حيث ألقى طبله كأنه يود لو عانقه، وعاد يقول: (انصت! أفلا تسمع دقات الطبل وهي تنبعث في رهبة وجلال؟! ها هي الصفوف تنتظم. . . أفلا ترى الحراب والأسنة وهي تتألق تحت شعاع الشمس؟! إن وجوههم مشرقة طلقة يعلوها البشر والرضا. . مه! ها هو القائد إنه ينظر إلي وعلى ثغره بسمة الرضا والبر!) وانطبقت شفتاه، وارتخت أهدابه على عينيه، وسكن سكنته الأبدية!!
(طنطا)
مصطفى جميل مرسي