الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 660/العرب واليهود

مجلة الرسالة/العدد 660/العرب واليهود

بتاريخ: 25 - 02 - 1946


للدكتور جواد علي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

وقد قرب هذا الدور على الأخص اليهود من العرب كثيراً. فإن دخول اليهود إلى أراض عربية بحتة والتجاءهم إليهم بعد طردهم عن أوطانهم، جعلتهم يطلبون حماية العرب. ولأجل تقريب أنفسهم من القبائل العربية تظاهروا بروابط النسب والقربى ونشروا سلسلة الأنساب المعروفة عند العرب. وحاولوا ولا شك التأثير على العرب من النواحي الأخرى، ومن النواحي الدينية ومن النواحي الثقافية؛ إلا أنهم لم يتمكنوا من التأثير في العرب من الناحية الدينية على ما يظهر، فقد كان العرب منذ القدم اعتزاز عظيم بآلهتهم وبأصنامهم، ولم يكن من السهل عليهم ترك عبادة هذه الأصنام. في حين أن اليهود كانوا يعبدون إلهاً واحداً خلق هذا الكون بأجمعه، إلا أنه إله شعب واحد هو إله إسرائيل فحسب. والظاهر أنهم لم يرغبوا في إشراك شعب آخر بعبادة هذا الرب الذي خصص نفسه بهذا الشعب.

أما من النواحي الأخرى فلم يكن هنالك مانع يحول بين اليهود وبين الشعوب الأخرى، لأن في رابطة النسب خدمة عظيمة تساعد هذه الجاليات اليهودية كثيراً؛ فنشروا الأساطير اليهودية بين العرب وعلموهم شيئاً كثيراً من أخبار التوراة، ولاسيما ما يخص الخلقة ومنشأ التكوين وقصص بني إسرائيل. يجعل جدول الأنساب الوارد في العهد القديم العرب في نفس الحقل الذي دون فيه نسب اليهود. فابراهيم هو جد العرب الأكبر كما هو جد اليهود. وإذا كان إسماعيل هو والد العرب اإسماعيليين وهو ابن إبراهيم فإن اليهود وهم من نسل إبراهيم على هذا هم أقرباء العرب وأبناء عمهم ومن شجرة واحدة.

وتنتسب بعض القبائل العربية الشمالية إلى إبراهيم رأساً. وإبراهيم على ما تقول التوراة لم يترك له خلفاً في البلاد العربية، وإنما ذهب نسله إلى تلك البلاد، وأن إبراهيم كان قد ذهب إلى فلسطين فانتشر أحفاده الذين تكاثروا وظهرت من ذرياتهم تلك الشعوب.

وإسماعيل هو ابن إبراهيم من زوجته هاجر التي تعرف عليها أثناء هجرته إلى فاران في القسم الشمالي من شبه جزيرة طور سيناء. وقد ترك إسماعيل له أثنى عشر ولداً تشعبت منهم القبائل الإسماعيلية التي انتشرت في شبه جزيرة طور سيناء وفي وادي الأردن.

وعلى هذه النظرية العبرية يكون موطن القبائل الإسماعيلية هذه المنطقة التي نزل بها إبراهيم وإسماعيل وهي منطقة فلسطين وطور سيناء وشرق الأردن ومنها انحدرت القبائل الإسماعيلية إلى سائر الأنحاء كالحجاز.

ومن رأى المستشرق مركليوث أن كلمة (إسماعيل) العربية التي وردت في القرآن الكريم عدة مرات، هي ذات الكلمة التي وردت عند اليهود بصورة (يشماعيل) مبتدأة بحرف العلة. وإن هذا التشابه يجعلنا نعتقد بأن العرب قد أخذوا عن اليهود بطريق اليونانية أو السريانية، لأن النصوص العربية القديمة التي وردت فيها كلمة (إسماعيل) كانت تكتبها (يشماعيل)، أي مبتدأة بحرف (ي)، أي على نحو ما كان يدونه اليونان أو السريان.

ويرى هذا المستشرق أيضا أن العرب القدماء لم يكونوا يعرفون شيئاً عن ابراهيم، ثم تعلموا ذلك في أيامهم المتأخرة بعد اتصالهم بيهود الحجاز، فلما تعلموا ذلك صاغوا الكلمة بالقالب الذي صاغوا به كلمتي (إسماعيل) و (إسرائيل) وما شابه ذلك. وعلى كل، فإن هذا هو رأي مستشرق وهو رأي يحتاج إلى دليل.

وما دامت معرفتنا بالأساطير العربية القديمة وبديانة العرب وأخبارها لا تكاد تكون شيئاً، فإننا لا نستطيع أن نبحث في هذا الباب بحثاً صحيحاً. والمصادر العربية الكتابية لا تشير إلى كل حال بأية إشارة إلى اطلاع العرب على جداول الأنساب اليهودية، بل يظهر منها أن القبائل العربية كانت تنتسب حينما تنتسب إلى آلهتها المحلية، فقد كان لكل قبيلة صنم أو أصنام تنتسب إليه أو إليها، وقد كانت هذه الأصنام هي رابطة تلك القبائل، وكانت تحتمي بتلك الأصنام، كما تدل على ذلك عبارات مثل (عم صدوق) أو (عم نكرح) وما شابه ذلك.

وإذا ما تقوت القبيلة وازداد نفوذها، تقوى صنمها طبعاً، وكثر أتباعه ومعظموه، فتندمج القبائل المتحالفة بها، وتنتمي إليها وتنتسب إلى ذلك الصنم، وتصبح وكأنها من نفس تلك القبيلة. وهذا النوع من النسب الذي يكثر وجوده في مملكة المعينيين والسبئيين لا يشابه جدول الأنساب عند اليهود.

وقد حاول المستشرق ماركليوث البحث عن الوطن الأصلي لليهود، ذلك الوطن الذي أهملته الكتب اليهودية تماماً ولم تتعرض له ألبتة. وقد قارن بين أسماء الآلهة عند اليمانيين وطريقة التفكير الديني والمعتقدات وأسماء الأشخاص عند عرب الجنوب وبينها عند اليهود، فتوصل إلى رأي هو أن الوطن الأصلي لليهود لم يكن أرض فلسطين أبداً، بل قد يكون أرض اليمن، وهي أرض الهجرات السامية، ذلك الوطن الذي ارتحل عنه هذا الشعب.

على كل، فقد هاجر اليهود إلى أرض فلسطين، وصاروا يحاربون الأمارات والمشيخات مدة طويلة. وقد تألف من هذه الأمارات حلف قوي لطرد العبرانيين أمثال: الكنعانيين والعموديين والحيثيين والفلسطينيين الذين كانت لهم حكومة متحالفة تشمل خمس مدن أو أمارات صغيرة، هي غزة وأشدود وعسقلان (اشقلون) وجت (معناها المعصرة) وعقرون.

أضف إلى ذلك الأمارات الأخرى أمثال إمارة العموتيين وإمارة بني عمون وإمارة موآب وأدوم التي تقع في جنوب البحر الميت على تخوم موآب في مرتفع من الأرض يطلق عليه اسم جبل سعير. وقد عارضت كل هذه الأمارات الاسرائيليين وقطعت عليهم الطريق، وكبدوهم خسائر كثيرة لم تنقطع طول مدة بقاء اليهود في فلسطين.

دخل اليهود فلسطين ومعهم فكرتهم الدينية، إلا أن هذه الفكرة لم تكن تتجاوز تلك العقيدة التي نقرأها في التوراة والتي تتمثل في سفر يشوع على الأخص. وهي أن إله إسرائيل قد وعد شعب إسرائيل بأرض إسرائيل، فعلى هذا الشعب أن يخلص تلك الأرض من أيدي الشعوب الساكنة فيها، وعلى يشوع أن يتشجع ويحارب ليخلص تلك الأرض وليسيطر عليها من نهر الفرات الكبير إلى البحر. فلما دخل الاسرائيلون تلك الأراضي وجدوا شعوباً كانت مقيمة فيها خضعت لهم ولكنها لم تخرج من أرض فلسطين بل ظلت جذورها باقية إلى زمن الفتح الإسلامي. ويرى بعض الاختصاصيين في التاريخ العبري أن الكنعانيين من شعوب فلسطين القديمة على الأخص لم يرحلوا عن فلسطين بل ظلوا فيها إلى الفتح الإسلامي. ولما أصبحت فلسطين أرضاً إسلامية دخل هؤلاء في الديانة الإسلامية وظل بعضهم على دين النصارى حتى هذا اليوم. ويستطيع الإنسان على ما يقوله هؤلاء الثقات في التاريخ العبري أمثال الأستاذ روبنسون والسير فرازر أن يلاحظ ملامحهم في سكان فلسطين الذين يتكلمون اللغة العربية، إلا أن كثيراً منهم ينحدر من ذلك الجيل الكنعاني القديم صاحب فلسطين قبل هجرة العبرانيين إلى الأرض الموعودة بمئات وألوف السنين.

وهم يمثلون اليوم أرضهم خير تمثيل.

وهنالك فرق عظيم بين هذه الهجرة العبرية التي كانت تحمل فكرة دينية وبين تلك الهجرة الاسلامية التي كانت تحفزها فكرة دينية أيضاً. فالمسلمون الذين غادروا الحجاز لنشر كلمة التوحيد لم يكتفوا بالحجاز أو فلسطين أو سوريا والعراق وبشبه الجزيرة كلها، بل أرادوا فوق ذلك نشر دين الله في جميع أنحاء الأرض في كل بقعة يقيم فيها إنسان. ففكرتهم إذاً فكرة إنسانية عالمية تستوي عندها جميع الأقوام والجنسيات في الحقوق والقانون. أما هجرة العبرانيين فقد كانت موضعية تريد شعباً واحداً من بين سائر الشعوب.

جواد علي