مجلة الرسالة/العدد 66/عصبة الأمم والأمم الشرقية
→ أرملة حكومة. . . | مجلة الرسالة - العدد 66 عصبة الأمم والأمم الشرقية [[مؤلف:|]] |
الشخصية ← |
بتاريخ: 08 - 10 - 1934 |
لمناسبة انضمام أفغانستان إليها
للأستاذ محمد عبد الله عنان
انتظمت في سلك عصبة الأمم دولة شرقية جديدة هي أفغانستان، وكان قبولها في العصبة بإجماع الآراء تقريباً، ولم يبق خارج العصبة من أمم الشرق الأدنى والأوسط بعد دخول تركيا وأفغانستان سوى مصر وسوريا والمملكة السعودية واليمن. ولعلائق الأمم الشرقية بعصبة الأمم وموقفها منها تاريخ خاص، يصح أن نستعرضه بهذه المناسبة. وقد بدأت هذه العلائق منذ مولد العصبة ذاتها، وكانت العصبة يومئذ إحدى نفثات ذلك الإنجيل الجديد الذي بشر به توماس ودرو ولسون أعظم ذهن هائم في التاريخ المعاصر، والذي انهارت مبادئه ووعوده في فرساي مهد تطبيقه. كان إنجيل الصلح بين الأمم المتحاربة على قواعد التسامح والعدالة، وإنجيل السلام والتفاهم، وإنجيل الحريات الدولية والاعتراف بحقوق الشعوب في تقرير مصايرها، فاستحال في فرساي، وفي نصوص معاهدة الصلح، إلى بركان من الشهوات القوية، ومزقت باسمه شعوب، وأرهقت أخرى، ومنحت الحرية لشعوب، وسلبت أخرى حرياتها، وفرضت عليها العبودية بأسماء وصور جديدة. وكان المفروض أن عصبة الأمم ستغدو عصبة دولية إنسانية تجمع الأمم على احترام السلام والمثل الإنسانية الخالدة، ولكنها جاءت منذ مولدها نفثة من تلك الروح التي أملت معاهد الصلح؛ روح الظفر والأثرة؛ وكان موقفها من الأمم الشرقية بالأخص مناقضاً لجميع العهود التي قطعت، والمبادئ التي قررت.
كانت اليابان والصين والهند وسيام والحجاز هي الأمم الشرقية التي وقعت على ميثاق عصبة الأمم ومعاهدة الصلح (وميثاق العصبة هو القسم الأول من المعاهدة) منذ وضعهما في يونيه سنة 1919، وبذلك غدت أعضاء في العصبة منذ إنشائها، وقد أبى الوفد الصيني أن يوقع معاهدة الصلح احتجاجاً على بعض نصوصها التي تمنح الانتداب لليابان على بعض الأراضي الصينية التي كانت بيد ألمانيا، ولكن الصين اعتبرت عضواً في العصبة لأنها وافقت على الميثاق. أما الحجاز فقد كانت يومئذ هي المملكة العربية الجديدة التي أنشأها الإنكليز للحسين بن علي، والتي انهارت قبل أعوام قلائل. وكانت فارس من التي دعيت إلى دخول العصبة منذ إنشائها، وقد انضمت إليها غير بعيد، وإما تركيا فقد كانت من أمم الأعداء، وكان مقضياً عليها بالتمزيق والإعدام، وكانت أفغانستان تخوض يومئذ حرب الحرية مع الإنكليز. وأما العراق وسوريا وفلسطين، فقد كانت من ضحايا الانتداب الذي ابتدع لتوزيع أسلاب الدولة العثمانية الذاهبة على الحلفاء. وكانت مصر ضحية الحماية الإنكليزية التي أعلنت عليها قسراً أيام الحرب، وكانت تضطرم بثورتها التحريرية التي انتهت بعد ذلك بعامين بإلغاء إنكلترا للحماية وإعلان استقلال مصر من الوجهة النظرية. والواقع أنه لم يكن للشرق في العصبة عند قيامها سوى صوت قوي واحد هو صوت اليابان. ولكن اليابان كانت من دول الحلفاء، وكان دخولها في العصبة لتأييد نفس المبادئ وتحقيق نفس الغايات التي تؤيد وتعمل على تحقيقها الدول الغربية، وكان لها نصيبها من أسلاب الحرب، ولم تكن في سياستها الاستعمارية أقل شرهاً من إنكلترا أو فرنسا. وأما الصين فقد كانت تتخبط في غمار الحرب الأهلية، وكان تمثيلها في العصبة على يد وحدة صغيرة فيها هي جمهورية كنتون الناشئة. وأما الهند فقد دخلت باعتبارها من الأملاك البريطانية لتشد إلى جانب استراليا وكندا وجنوب أفريقية أزر بريطانيا العظمى في سياستها ومشاريعها داخل العصبة. ودستور العصبة يجيز دخول الأملاك المستقلة والمستعمرات الحرة. وأما الحجاز فلم تكن لها يومئذ أية أهمية سياسية أو دولية، ولم يكن مثولها في مؤتمر الصلح، ودخولها في العصبة إلا ضرباً من المجاملة النظرية.
كانت عصبة الأمم منذ قيامها إذاً هيئة غربية في روحها وفي جوهرها، ولم تكن تمثل من الوجهة العملية شيئاً من المبادئ الرنانة التي أعلنها الرئيس ولسون في ختام الحروب، والتي أريد أن تكون قاعدة لعقد الصلح الحر بين الأمم المتحاربة وقيام عصبة حرة من الأمم تعمل على تخليد مبادئ الحرية والعدالة والوئام فيما بينها، ومع ذلك فقد بعثت مبادئ الرئيس ولسون المتعلقة بحريات الأمم ومصير الشعوب في بعض الأمم المغلوبة شيئاً من الأمل، وكان مفروضاً أن ذلك الهيكل الجديد الذي أقيم ليعاون في تطبيق هذه المبادئ الخالدة - أعني عصبة الأمم - سيكون بالفعل سنداً للأمم الشرقية في جهادها في سبيل الحرية والاستقلال، ولكن ذلك الأمل كان وهماً، وجاءت عصبة الأمم بالعكس لتقر من المبادئ والأساليب إزاء بعض الأمم الشرقية ما يخالف كل عدالة وكل حق وكل عهد مقطوع. ونذكر بهذه المناسبة أن الوفد المصري برئاسة المغفور له سعد زغلول باشا كان يوم وضع معاهد الصلح في باريس يعمل في سبيل القضية المصرية، وقد احتج عبثاً على نصوص معاهد الصلح التي تمس مصر، والتي تقر حماية إنكلترا المفروضة عليها رغم إرادتها؛ ونذكر أيضاً أن سعد باشا أرسل إلى الرئيس ولسون يرجوه باسم مبادئه مقابلة يبسط له فيها ظروف القضية المصرية، فلم يجبه الرئيس ولسون إلى هذا الرجاء. وكانت أول خطوة عملية اتخذتها عصبة الأمم لتأييد الاعتداء الواقع على الأمم العربية هو أنها أقرت نظام الانتداب الذي وضعه الحلفاء لتقسيم البلاد العربية وحكمها رغم العهود الصريحة التي قطعت خلال الحرب بمعاهدات ووثائق رسمية، فأقرت الانتداب على سوريا لفرنسا؛ وأقرت انتداب إنكلترا على فلسطين وشرق الأردن والعراق. وأقرت عهد بلفور وما ترتب عليه من إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين؛ ولم تحاول العصبة أن تتدخل يوم قسم الحلفاء تركيا إلى مناطق ودفعوا اليونان لاحتلال أزميرا والتوغل في قلب الأناضول؛ ولما وقع الخلاف بين تركيا وإنكلترا على مسألة الموصل واتفقنا على رفع الأمر إلى عصبة الأمم، كان موقف العصبة مريباً ظاهر التحيز؛ وكثيراً ما حاولت الأمم العربية أن تتقدم إلى العصبة بالشكوى من نظام الانتداب وما يرتكب في ظله من ضروب الجور والتعسف، فلم تفز منها بالإصغاء قط؛ ولم تكن لجنة الانتدابات الدائمة بالعصبة إلا سيف المستعمر الشرعي مصلتاً على رقاب الأمم الواقعة تحت الانتداب.
هكذا كان موقف عصبة الأمم الشرقية المغلوبة منذ البداية. وقد أثبتت العصبة خلال أعوامها الأربع عشرة أنها غير أهل لتحقيق شيء من المبادئ والمهام العظيمة، التي عهد إليها بالعمل على تحقيقها. وأسطع مثل لذلك موقفها إزاء مسألة تخفيض السلاح، وعجزها المطبق عن أن تحقق شيئاً في هذا السبيل، لأن تحقيقه لا يروق للدول المسيطرة على مجلس العصبة؛ وأسطع مثل لوقوع العصبة تحت نفوذ الدول القوية ووحي النزعة الاستعمارية، موقفها في مسألة منشوريا، التي ثارت منذ ثلاث أعوام بين اليابان والصين، وكلتاهما من أعضاء العصبة؛ فقد استغاثت الصين بالعصبة حين غزو اليابان لمنشوريا، فلبثت العصبة بين التردد والتمهل حتى تم استيلاء اليابان على منشوريا ولم تستطيع أن تتخذ أي إجراء حاسم تنوه فيه باعتداء اليابان على الأراضي الصينية، مع أنه قد نص في ميثاق العصبة على عدة عقوبات تأديبية واقتصادية يتقرر اتخاذها ضد الدولة المعتدية في مثل هذه الظروف. ولم ترض اليابان عن هذا التدخل رغم عقمه. فانسحبت من العصبة لتكون مطلقة اليدين في تنفيذ سياستها الاستعمارية. وقد كان فشل العصبة في مسألة منشوريا ذروة ضعفها وانحلال هيبتها، فعملت الدول الغربية التي تستتر في العمل وراء العصبة على تدارك هذا الضعف، بحمل روسيا السوفيتية على الالتحاق بعصبة الأمم، ولبت روسيا هذه الدعوة، والتحقت بالعصبة بعد أن كانت تخاصمها وتعتبرها من أدوات الاستعمار المستترة حسبما فصلنا في فصل سابق في (الرسالة). وأرادت الدول الغربية من جهة أخرى أن تقوي المظهر الشرقي لعصبة الأمم، فسعت لدى تركيا حتى التحقت بالعصبة، وكان التحاقها بها نتيجة مباشرة لانضمام روسيا إليها، لأن السياسة التركية الخارجية تسير مع السياسة البلشفية الخارجية جنباً إلى جنب، ولأن موقف الخصومة الذي اتخذته تركيا نحو العصبة من قبل لم يكن إلا مجاراة لسياسة حليفتها موسكو. ثم كان دخول أفغانستان أخيراً نتيجة أيضاً لنفس السياسة؛ وأفغانستان تتأثر بنصائح موسكو، وهي مدينة باستقلالها الأخير إلى معاونة موسكو ومؤازرتها، وهي تتأثر أيضاً بنصائح إنجلترا، وإنجلترا يهمها تقوية المظهر الشرقي لعصبة الأمم؛ ولذلك رأينا أغاخان مندوب الهند وأحد أبواق السياسة الإنكليزية يقول في خطابه الذي ألقاه لمناسبة انضمام أفغانستان: إن أخطار الطابع الغربي للعصبة كانت واضحة، وكانت دائما تغشى صبغتها العالمية، فدخول أفغانستان يقوي طابعها العالمي، ويزيدها قوة في القيام بمهمتها.
هذا ويجب ألا ننسى أن العراق أيضاً عضو في عصبة الأمم، وقد دخلت العصبة منذ نحو عامين، وكان دخولها نتيجة لعقد المعاهدة العراقية الإنكليزية التي نالت بها العراق استقلالها الذاتي (سنة 1930) وخروجها بذلك من ربقة الانتداب الذي كان مفروضاً عليها من قبل عصبة الأمم لمصلحة إنكلترا. ويجب ألا ننسى أن دخول العراق في العصبة كان مقروناً من جانب العصبة بمظاهرة تؤكد صبغة الغربية والاستعمارية معاً، فقد وضعت العصبة لقبول العراق شروطاً تلفت النظر بتحاملها وشدتها، ولاسيما فيما يتعلق بحماية الأقليات الدينية والجنسية، وحرية البعثات التبشيرية في القيام بأعمالها، وتقرير الحق لكل دولة أن تشكو العراق إلى العصبة إذا رأت أنها قصرت في تنفيذ تعهداتها.
ولم تنضم المملكة السعودية (نجد والحجاز) بعد إلى عصبة الأمم، وليس في سياستها ما يدل على أنها تنوي أن تسعى إلى هذا الانضمام في القريب العاجل، غير أنه يلاحظ أن المملكة السعودية معترف بها من جميع الدول الكبرى التي تسيطر على مجلس العصبة، وأن علائقها بهذه الدول ولاسيما إنكلترا حسنة؛ وقد يكون في الحوادث الأخيرة التي انتهت بدخول تركيا وأفغانستان في العصبة ما يحمل المملكة السعودية على التفكير في السعي إلى الانضمام إلى العصبة، إما اليمن فليست لها سياسة خارجية منظمة معروفة، ومن الصعب أن يعرف موقفها في هذا الشأن، وإن كان المرجح أن الإمام لا يعلق على مثل هذا الانضمام أية أهمية. أما سوريا فهي لازالت ترزح تحت الانتداب الفرنسي، ومن المعروف أن السياسة الفرنسية تنوي متى استطاعت أن تعقد المعاهدة المنشودة مع سوريا، أن تحذو فيها حذو المعاهدة الإنكليزية العراقية من حيث العمل على التحاق سوريا بعصبة الأمم.
بقيت كلمة عن مصر وعن موقفها من العصبة، فأما عن حق مصر في الدخول في عصبة الأمم فليس عليه غبار من الوجهة الدولية، أولاً لأن مصر قد نالت استقلالها من الوجهة الدولية بتصريح فبراير سنة 1922، وهي طبقاً لهذا التصريح دولة مستقلة ذات سيادة، وثانياً لأنه لا يوجد في ميثاق العصبة ما يمنع دولة في ظروف مصر السياسية من الانضمام إليها، فالفقرة الثانية من المادة الأولى من الميثاق تنص على أنه يحق لكل (دولة أو ملك مستقبل (دومنيون) أو مستعمرة حرة في حكم نفسها أن تغدو عضواً في العصبة إذا وافق على انضمامها ثلثا أعضاء الجمعية العامة)، ومصر ليست ملكا مستقلا ولا مستعمرة، بل هي من حيث المركز الدولي دولة مستقلة ذات سيادة، وقد سلمت السياسة البريطانية لمصر بهذا الحق في مشروع المعاهدة المصرية الإنكليزية الذي وضع سنة 1929، فنص فيه في المادة الثالثة على ما يأتي (إن مصر رغبة منها في أن تصبح عضواً بجمعية الأمم، ستقدم طلباً للانضمام إلى تلك الجمعية، طبقاً للشروط التي تنص عليها المادة الأولى من عهد الجمعية، وتتعهد حكومة جلالة الملك البريطانية بتأييد هذا الطلب) ونص في مشروع المعاهدة المصرية الإنكليزية الذي وضع سنة 1930 على ما يأتي (بما أن مصر تنوى أن تكون عضواً في جمعية الأمم فان صاحب الجلالة البريطانية يعترف بحقها كدولة مستقلة ذات سيادة في أن تصبح عضواً في جمعية الأمم عندما تقوم بالشروط التي نص عليها في عهد الجمعية).
ولكن هل تفيد مصر من الانضمام إلى عصبة جنيف سواء في الحال أو الاستقبال؟ لسنا ممن يعتقد ذلك. إن تاريخ عصبة الأمم إزاء الأمم الشرقية والأمم الضعيفة حسبما بسطناه لا يدلي بأن العصبة تأخذ بمبادئ المساواة والعدالة الدولية بين مختلف الأمم؛ والعصبة سواء بنشأتها أو القوى المهيمنة عليها، أو الغايات التي تعمل لها، تنم عن روح غربية عميقة، وربما نمت أيضاً عن روح نصرانية كما ظهر من موقفها نحو العراق فيما اشترطته عليها ثمناً لانضمامها إليها. ولن يكون شأن المثول في العصبة في ظروفنا الحاضرة إلا كشأن التمثيل السياسية الذي يكبد مصر مئات الألوف دون أن تجني من ورائه مزايا عملية يعتد بها. وحتى لو سويت المسائل المعلقة بين مصر وإنكلترا وعقدت المعاهدة المصرية الإنكليزية المنشودة، وتأكد استقلال مصر من الناحية العملية، فأنا لا نجد ما يحمل مصر على السعي إلى الالتحاق بعصبة جنيف. ومن الخطأ أن يتصور البعض أن المثول في العصبة من مظاهر الاستقلال، فان بين أعضاء العصبة مستعمرات وأملاكاً مستقلة طبقاً لما ينص عليه ميثاقها.
لقد تمزق الحجاب أخيراً عن ذلك الرياء الدولي الذي استمر زهاء خمسة عشر عاماً، والذي لبث حيناً يحتضن الدعوى إلى السلام وتفاهم الأمم، ويعقد المواثيق للتحكيم وتحريم الحرب؛ وعادت أوربا القديمة إلى سياستها القومية القديمة، عمادها القوة والعنف، وغايتها افتراس الأمم الضعيفة؛ وما عصبة الأمم إلا عرين الأمم المفترسة قبل كل شيء، ولا خير لأمة ضعيفة أن تقر الذئاب على ريائها، ولا خير لها بالأخص في أن تندمج معها في صعيد واحد.
محمد عبد الله عنان المحامي