مجلة الرسالة/العدد 66/بين فن التاريخ وفن الحرب
→ الشخصية | مجلة الرسالة - العدد 66 بين فن التاريخ وفن الحرب [[مؤلف:|]] |
من مشاهداتي في أوربا: ← |
بتاريخ: 08 - 10 - 1934 |
2 - خالد بن الوليد في حروب الردة
للفريق طه باشا الهاشمي رئيس أركان حرب الجيش العراقي
(لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في بدني شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير! فلا نامت أعين الجبناء)
خالد بن الوليد
3 - أسباب الحروب:
مات رسول الله والإسلام لم يتمكن من قلوب جميع العرب الساكنين في الجزيرة. وادعى بعض الرؤساء النبوة في آخر أيام الرسول، وارتد الكثير من العرب بعد وفاته.
والثابت أن الذين تمكن الإسلام من قلوبهم ولم يتزعزع إيمانهم هم المهاجرون والأنصار وقريش وثقيف والقبائل الساكنة بين المسجدين (المدينة ومكة) على ما يذكره الطبري.
ولم يكن تأثير الردة في القبائل على نمط واحد، بل كان الأثر يختلف باختلاف العوامل، وهي تتلخص فيما يلي: -
(أ) قرب المنطقة التي تسكنها القبيلة من المدينة أو بعدها.
(ب) علاقة القبيلة بالمدينة.
(ج) قرب عهد القبيلة بالإسلام أو بعده.
ولقد ناقش المستشرق الطلياني لئونه كايتاني هذه العوالم في كتابه (تاريخ الإسلام) فصنف العرب من حيث علاقتهم بحروب الردة إلى خمسة أصناف، فوضع في الصنف الأول القبائل التي أسلمت منذ مدة طويلة وخضعت لسلطة المدينة خضوعاً تاماً، وهي القبائل التي تسكن بالقرب من المدينة ومكة وفيما بينهما كجهينة ومزينة وبلي وأشجع وأسلم وهذيل وخزاعة وغيرها.
ووضع في الصنف الثاني القبائل التي تعاقدت مع الرسول واشتركت في المدة الأخيرة في حروبه وقد كان فيها على إسلامها أقلية مختلفة تنتهز الفرص للتملص من سلطة المدينة ومن هذه القبائل هوازن وعامر بن صعصعة وطي وسليم وخثعم.
ووضع في الصنف الثالث القبائل الساكنة على حدود المملكة الإسلامية، فخضعت هذه القبائل سياسياً لسلطة المدينة، ودفعت الصدقات إلى الرسول، وفيها أكثرية تتحين الفرص للرجوع إلى حالتها القديمة. ومن أخطر هذه القبائل بنو أسد وبنو غطفان وبنو تميم الساكنون في مناطق نجد الغنية.
ووضع في الصنف الرابع القبائل التي لم تخضع لسلطة المدينة، بل اكتفت بإرسال الوفود إلى الرسول وتظاهرت بالخضوع له. فيها أقلية مسلمة ضئيلة تستند إلى قوة المسلمين في المدينة للاحتفاظ بمنزلتها. ومن أخطر هذه القبائل بنو حنيفة وعبد القيس وأزدعمان وأكثر قبائل حضر موت واليمن. أوفد الرسول إليها عمالاً ليمثلوا الإسلام، وليعلموا المسلمين أمور الدين.
أما القبائل التي وضعها في الصنف الخامس فهي القبائل التي لم تسلم وكانت نصرانية أو مشركة. وهي القبائل الساكنة في الشمال كبني كلب وبني تغلب وبني غسان وقضاعة وتنوخ وبني بكر. وبعض القبائل في حضر موت واليمن.
ولكني لا أجاري المؤرخ الطلياني في تصنيفه هذا؛ بل من الثابت أن تأثير الإسلام في القبائل العربية كان يختلف باختلاف العوامل التي ذكرناها قبلاً، والواقع أن الرسول لم يمت إلا وقد ظهرت حركة الردة في القبائل، فمنها من طلب إعفاءه من إعطاء الزكاة، ومنها من امتنع من إعطائها، ومنها من قدم رجلاً وأخر أخرى في ذلك فأمسك عن الصدقة، وأخيراً منها من ارتد وطرد عمال الرسول أو قتل المسلمين ومثل بهم.
وكان الرسول في حياته قد حرض عماله في اليمن على مقاتلة الأسود العنسي الذي ادعى النبوة واستولى على أكثر مقاطعات اليمن.
أما أبو بكر فرد الوفود التي أتت المدينة وطلبت منه أن يعفيها من إعطاء الزكاة، وقال كلمته المشهودة (والله لو منعوني عقال بعير لقاتلتهم عليه) ولما وردت الكتب من أمراء الرسول تنبأ أبو بكر بأن الناس ارتدوا عامة وخاصة وأنهم تبسطوا بالتمثيل فحاربهم.
4 - قوات الفريقين:
1 - أهل الرّدة: إذا استقصينا الأخبار التي رواها الرواة توصلنا إلى النتائج التالية:
(أولاً) لم ترتد القبائل الساكنة إلى شرقي مكة وغربها وجنوبها، بل ظلت على الحياد غير ميالة إلى أحد الفريقين، وهي قبائل كنانة وأزد وبجيلة وخثعم وعك وأشعر وحكم وغيرها.
(ثانياً) تأثر بحوادث الردة القبائل الساكنة إلى شمال شرقي مكة كهوازن وعامر بن صعصعة وجذيلة. أما بنو سليم فقد ارتد الكثير منهم، بيد أن هذه القبائل جميعاً لم تشهر سلاحها في وجه المسلمين.
(ثالثاً) أما قبائل طيء فأنها إلى أي جانب تميل ومع ذلك فان قسما قليلاً منها انضم إلى جيش طلحة الأسدي مدة قصيرة.
(رابعاً) وأما قبائل قضاعة الساكنة إلى شمالي المدينة فأنها شهرت سلاحها على المسلمين.
ومع ذلك لا يصح أن يقال إن هذه القبائل جميعاً ساعدت أهل الردة الذين ثاروا في وسط الجزيرة، بل إن بعضها ظل في منطقته إما على الحياد وإما متردداً لا يحرك ساكناً، وإما أنه طرد العمال الموفدين من المدينة في عهد الرسول.
لذلك لا يجوز اعتبار هذه القبائل من القبائل الساكنة في وسط الجزيرة التي حشدت رجالها وأغارت على ضواحي المدينة، أو أنها تأهبت لمنازلة جيش المسلمين.
أما القبائل التي اشتركت في حروب الردة فعلاً فأليك بيانها:
1) بنو فزارة وبنو غطفان الساكنون إلى شرقي المدينة على طريق نجد. فقد توافد رؤساء هذه القبائل إلى المدينة وطلبوا من أبي بكر أن يعفيهم من الزكاة. ولما لم يجب طلبهم رجعوا فجمعوا رجالهم وتأهبوا لمباغتة المدينة.
2) بنو أسد الساكنون على منتصف الطريق التي بين الحجاز ونجد إلى جنوبي جبل شمر. ويزعم الرواة أن طليحة بن خويلد الأسدي ادعى النبوة في حياة الرسول وجمع رجاله في السميراء.
ولما توفى الرسول وامتنعت القبائل من إيتاء الزكاة سعي إلى جمع القبائل حوله، واقترح عينية بن حصن الفزاري ترك المنازعات بين بني أسد وبني غطفان وعقد حلف بين بني فزارة وبني غطفان وبني أسد.
لبي بنو فزارة هذه الدعوة واتحدوا مع بني أسد، وكذلك البعض من بطون طيء أيضاً انضم إلى طليحة، حتى أن رئيس جديلة بن طي، ثمامة بن أوس، جمع خمسمائة رجل وانضم إلى بني أسد.
3) بنو تميم الساكنون في نجد في منطقة القصيم.
وتتألف هذه القبيلة من عدة بطون. ولما بلغها نعى الرسول امتنع أكثر بطونها عن أداء الزكاة. وكان الاختلاف قد دب فيما بينها، ولما ظهرت سجاح من شمالي الجزيرة بجموعها من تغلب مدعية النبوة، ودخلت حتى بني تميم لأنها كانت تمت إليهم بنسب، التف حولها بعض من تميم. ويزعم الراوي سيف بن عمر أنها كلفت مالكا بالمسير معها نحو المدينة للهجوم على أبي بكر. وكان البعض من بطون بني تميم لم يرتد فالتجأ إليه المسلمون الهاربون من البطون الأخرى فقاتل سجاحا ومن معها من بني تميم ومنعها من التقدم نحو المدينة. والرواة يزعمون أنه انتصر عليها وعلى حلفائها من بني تميم وألجأها إلى مغادرة ديار بني تميم والذهاب إلى مسيلمة الكذاب.
(4) بنو حنيفة الساكنون في اليمامة. ادعى رئيس هذه القبيلة مسليمة النبوة فآمن بنبوته جميع بني حنيفة. ويظهر أن دعوة الإسلام لم تنتشر فيها وكان معظمها مشركا. فلما ادعى مسليمة النبوة آمنت بنبوته. وهي ولا ريب من أخطر القبائل التي اشتركت في حروب الردة وقاتلت المسلمين قتالاً عنيفا. وذاق المسلمون الأمرين في حروبها. ويزعم الراوي سيف بن عمر أن جيش بني حنيفة المحارب بلغ أربعين ألفاً.
ومن العسير معرفة قوات هذه القبائل التي اشتركت في المعارك، والواضح أن قبائل غطفان وفزارة التي حاولت مباغتة المدينة حتى اضطر أبو بكر إلى مقاتلتها كانت دون القبائل شأناً. ولعل القوات التي جهزتها لم تزد على آلفي رجل.
أما القوة التي استطاع طليحة أن يجهزها ويقاتل بها جيش المسلمين فكانت تربو على أربعة آلاف مقاتل، وانضم خمسمائة رجل من جديلة طيء وسبعمائة فارس بقيادة رئيس بني فزارة عيينة بن حصن.
أما بنو تميم فلو اتفقت بطونها وقابلت جيوش المسلمين لبلغت قوتها زهاء عشرة آلاف مقاتل، غير أنها لم تتفق فيما بينهما، بل حارب بعضها بعضاً، ولما وصل خالد بن الوليد بجيشه إلى ديار بني تميم كانت البطون قد تفرقت.
أما بنو حنيفة فكان جيشهم من أقوى الجيوش التي حاربت المسلمين، ومع أن سيفاً يزعم أن قوتهم بلغت أربعين ألفاً، بيد أننا لا نميل إلى اعتقاد صحة روايته، ولعل قوة جيش بني حنيفة لم تزيد على خمسة عشر ألف مقاتل.
والذي جعل الرواة يبالغون في تقدير جيش بني حنيفة هو وعورة المنطقة التي حارب فيها المسلمون، والحقيقة أن أرض اليمامة أرض وعرة فيها وديان وشعاب وجبال وعقبات وثنايا. والذي زاد في مناعة الأرض القرى المحصنة بالأسوار والحدائق المسورة بالأحجار المكدسة شأن الكثير من قرى العارض والسدير في بلاد نجد.
ب. المسلمون:
جهز الرسول جيش أسامة قبل وفاته بمدة قليلة وكان يقصد إيفاده إلى الشمال. واجتمع الجيش في الجرف في شمالي المدينة، ولما علم بمرض الرسول أجل حركته.
وبعد وفاته أوفده أبو بكر لينفذ الخطة التي رسمها له الرسول في حياته. ونصح بعض الصحابة أبا بكر أن يبقيه لكي يعتز به بعض الإسلام وأراد بعضهم تبديل قائده، بيد أن الخليفة لم يجب طلبهم، ولم يرض أن يبدل ما قرره الرسول. وليس لدينا معلومات موثوق بها عن قوة هذا الجيش، لأن المؤرخين القدماء جريا على عادتهم، بحثوا في قائده والأوامر الصادرة إليه، والغاية المتوخاة من إيفاده وغير ذلك ولم يذكروا مقدار قوته.
وإذا تأملنا في سبب إيفاده، ظهر لنا أن قوته يجب أن تكون كافية. وسبق أن جهز الرسول جيشين لهذه الغاية ذاتها وهما: جيش جعفر بن أبي طالب الذي قاتل الروم في البلقاء في وقعة موتة، وكانت قوته ثلاثة آلاف مقاتل، والجيش الذي قاده الرسول بنفسه ليغزو به تبوك، وقد بالغ المؤرخون في قوته، وزعموا أنه بلغ ثلاثين ألفا، أما جيش أسامة، فهو الجيش الثالث، ونعتمد أن قوته يجب ألا تقل عن خمسة آلاف.
وكان المهاجرون والأنصار نواة هذا الجيش. فالمهاجرون والأنصار عماد الجيش الإسلامي، وهم كالحرس الذي كان يؤلفه الملوك للاعتزاز به في تنفيذ خططهم، إصلاحية كانت أم حربية
واشترك هؤلاء في غزوات الرسول وحروبه من أولها إلى آخرها. وكانوا يؤثرون النبي على أنفسهم في جميع أعمالهم، فكان الإسلام متمكناً من قلوبهم، فلا غرو إذا رأينا الإسلام يقوم على سواعدهم بعد وفاة الرسول، ولعل عددهم كان يتفاوت بين الألف والخمسمائة وبين الألفين لما توفى النبي.
وكان أكثرهم في جيش أسامة، ماعدا البعض منهم فانه بقي في المدينة مع أبي بكر، أو أوفد في حياة الرسول عاملاً أو معلماً أو مبشراً إلى الأقطار العربية النائية، أو جابياً أو معلماً إلى القبائل العربية القريبة.
ويلي المهاجرين والأنصار قريش التي أسلمت بعد فتح مكة وأبلت بلاءً حسناً في الإسلام بعد ذلك. أجل، إنها لبت الدعوة أخيراً وقسراً، إلا أنها اقتنعت أن عز الإسلام من عزها فناصرت الرسول في حياته من أعماق قلبها، حتى أن الرسول بعد فتح مكة رضى أن يظل البعض من قريش مشركاً حتى يفتح الله قلبه، ومع ذلك لم يحجم هذا البعض عن الجهاد معه في غزوة صفين أو في محاصرة الطائف.
ولعل القوة التي كانت قريش تستطيع أن تجهزها للقتال زادت على ألفي مقاتل على أقل تقدير.
ويلي قريشاً القبائل الساكنة بين الحرمين، مكة والمدينة، وهي التي ناصرت الرسول في دعوته. وقد اشترك بعضها في الغزوات، وجاهدت أخيراً في حروب الرسول. فقربت هذه الحروب بينها وبين المهاجرين والأنصار وربطتهما برباط متين. فلا مندوحة إذن من أن نرى أبا بكر يدعوها إلى الجهاد لما كان جيش أسامة بعيداً عن المدينة، فلبت دعوته راغبة مطيعة، وهذه القبائل هي: أسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وكعب وغيرها.
ولعل القوة المحاربة في هذه القبائل لم تزد على ثلاث آلاف.
وتليها قبيلة بني ثقيف الساكنة بين مكة والطائف وهي خير من أسلم من قبائل الحجاز. واشتهرت بشدة مراسها وصلابة عودها؛ وكانت تعتز بعاصمتها الطائف المسوَّرة. ولم ترتد ثقيف على ما سبق ذكره، بل بقيت متمسكة بالإسلام، وكانت قوتها المحاربة تقدر بأكثر من آلفي مقاتل.
هذه خلاصة القوات التي كان الخليفة يعتمد عليها في محاربته أهل الردة. وقد ظهر لك أنها كانت تبلغ عشرة آلاف متى تيسر جمعها. والواضح أن جيش أسامة بن زيد كان مؤلفاً من معظم المهاجرين والأنصار وبعض رجال القبائل. وذلك لما كان أسامة بعيداً عن المدينة إذ أخذت القبائل المرتدة الواقعة إلى شرقي المدينة تهددها.
ولعل من الفائدة أن نذكر بهذا الصدد مقدار القوات التي استطاع الرسول أن يجمعها في حروبه:
كانت قوة المسلمين في غزوة بدر لا تزيد على ثلاثمائة رجل؛ أما في غزوة أحد فكانت زهاء الألف، وفي غزوة الخندق بلغت ثلاثة آلاف. أما في فتح مكة إذ ظهرت سطوة الإسلام، وقويت شوكة المسلمين فكان جيش المسلمين عشرة آلاف، نواته المهاجرون والأنصار، وقوامه رجال القبائل الضاربة إلى شرقي المدينة وشمالها وجنوبها.
ويزعم الرواة أن جيش الرسول بلغ ثلاثين ألفاً في غزوة تبوك، كان عشرون ألفاً منه رجالاً وعشرة آلاف فرساناً. أجل إن الموقف العسكري كان ملائماً لمبادرة رجال القبائل إلى الالتفاف حول راية الإسلام للهجوم على بلاد الشام وهي المشهورة بخيراتها، وذلك يجعل جيش المسلمين يصل إلى حده الأقصى، إلا أننا لا نظن أنه بلغ القوة التي ذكرها الرواة، ولعلها بلغت أكثر من خمسة عشر ألفاً.
ولما امتنعت القبائل العربية عن أداء الزكاة وارتد البعض منها لم يكن في وسع الخليفة أن يجمع كل القوات التي يستطيع أن يعتمد عليها على ما سبق بيانه. لأن جيش أسامة كان في الشمال، وفيه نخبة الجنود المجاهدين. أما قريش وثقيف فكانتا بعيدتين عن دار الحركات، لذلك دعا أبو بكر القبائل الضاربة بين المدينة ومكة أولاً؛ ولما رجع جيش أسامة استنجد به. ثم أخذ رجال قريش وبعض ثقيف ينضمون إلى الحملات.
ومن الثابت أن قوة المسلمين كانت جد ضعيفة لما تأهب بنو غطفان وفزارة للهجوم على المدينة، ولعلها لم تجاوز بضع مئات.
(يتبع)
طه الهاشمي