مجلة الرسالة/العدد 659/الكذب والنسيان
→ بمناسبة (المولد): | مجلة الرسالة - العدد 659 الكذب والنسيان [[مؤلف:|]] |
العرب واليهود ← |
بتاريخ: 18 - 02 - 1946 |
كما يراهما (أبو العلاء المعري)
للأستاذ كامل كيلاني
1 - آفة الأخبار
المعري أديب محقق، وراوية ثبت، ومؤرخ نافذ البصيرة، وناقد منصف، يستخدم كل ما وهبه الله من ميزات باهرة، وثقافة شاملة نادرة، في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وتحليتها مما يكتنفها من الأستار والحجب، وإماطة اللثام عما يعترض الباحثين عنها من الشكوك والريب.
يقول الشاعر:
(همُ نقلوا عني الذي لم أفه به ... وما آفة الأخبار إلا رواتها)
2 - آفة الرواة
وآفة الرواة - فيما يرى أبو العلاء - شيئان: الكذب والنسيان. فلا غرو إذا ضجر بهما، وعرض لهما في كثير من المناسبات، واحتفل لهما ما شاء له أدبه وخياله، وأتى في الحديث عنهما بالشائق المعجب.
3 - قتل الفكرة
فهو إذا فزّعه من الموت أنه يبيد الجسم الذي لا يعنيه منه إلا أنه سياج الروح وهيكلها، فزّعه من الكذب أنه قتل للفكرة وإضاعة للحقيقة التي يبحث عنها جاهداً، وفزعه من النسيان أنه قتل للعقل الذي يعتز به ولا يعدل به شيئاً. قال: أصبحت في بيت مدر لا أملكه، كبيت قريض استدراكه، اشتمل عليه النسيان فهو مهلكة.
4 - تمنى الموت
على أنه قد يتمنى الموت أحياناً، لأنه يريح الإنسان من آلام الحياة، ويريح الجسم من أذيتها، ويغني صاحبه عن حاجات الدنيا فيقول:
العيش أفقر منا كل ذات غنى ... والموت أغنى بحق كل محتاج إذا حياة علينا للأذى فتحت ... باباً من الشر لاقاه بإرتاج
أو يقول:
على البلى سيفيد المرء فائدة ... فالمسك يزداد من طبيب إذا سحقا
5 - تسويغ الكذب والنسيان
وقد يوصى بالكذب إذا عرّض الصدق صاحبه للهلاك فيقول:
أصدق إلى أن تظنّ الصدق مهلكة ... وبعد ذلك فاقعد كاذباً وقم
فالمين جيفة مضطر ألمّ بها ... والصدق كالماء يجفي خيفة الشم
وقد يتمنى النسيان والذهول ليتمثل بذلك همومه وأحزانه فيقول:
تمنيت أن الخمر حلت لنشوة ... تجهلني كيف اطمأنت بي الحال
فأذهل أني بالعراق على شفا ... رزي الأماني لا أنيس ولا مال
مقل من الأهليين يسر وأسرة ... كفى حزنا بينُ مشِت وإقلال
وهي لفتات ذهنية عارضه لا يجهل القارئ مغزاها، وصور كلامية لعله أعرف منا بغايتها ومرماها.
6 - تمجيد العقل
على أن الأدب العلائي قد حفل - شعراً ونثراً - بتمجيد العقل، وحب الصحيح والتفزع من الذهول والنسيان فهو يقول:
الفكر حبل متى يمسك على طرف ... منه، ينط بالثريا ذلك الطرف
والعقل كالبحر غيضت جوانبه ... شيئاً، ومنه بنو الأيام تغترف
ويقول:
وينفر عقلي مغضباً أن تركته ... سدي واتبعت الشافعي ومالكا
ويقول:
وإذا الرياسة لم تعن بسياسة ... عقليه خطئ الصواب السائس
ويقول:
صدقت يا عقل فليبعد أخو سفه ... صاغ الأحاديث إفكا أو تأولها 7 - طول الأمد
ويرى طول الأمد كفيلا بالنسيان. فيقول:
لأنسينك إن طال الزمان بنا ... وكم صديق تمادى عهده فنسي
ويقول:
وسوف ننسى فنمسي عند عارفنا ... وما لنا في أقاصي الوهم أشباح
ويقول في رسالة الغفران على لسان المهلهل، حين سأله ابن القارح عن بيت ينسبه إليه، كان الأصمعي ينكره ويقول إنه مولد، وكان أبو زيد يستشهد به ويثبته: فيقول المهلهل:
(طال الأبد على لُبدٍ، لقد نِسيت ما قلت في الدار الفانية).
8 - رسالة الشياطين:
ومن أبدع ما قرأناه للمعري في هذا الباب ما كتبه عن النسيان في رسالة الشياطين التي ألحقناها برسالة الغفران في طبعتها الثالثة. فقد نسي أسمه أحد عارفيه ولم يثبته، وجعله محمداً بدلا من أحمد، ثم نسى مرة ثانية فقصر كنيته فقال: (أبو العلا) بدلا من (أبي العلاء) فعاتبه المعري متلطفاً وإن بدا من ثنايا عتابه الرقيق ألمه لنسيان صاحبه الذي حداه إلى تبديل اسمه وقصر كنيته. قال: (ودلني كتابه على إنه يحسبني قد أضعت وده، وتناسيت في طول الزمان عهده. إني إذاً لمن الظالمين. عرفني بنفسه أنه من أهل البصرة، وقد صح معي أنه من أهل البصيرة الساكنة في خلده، وتلك أجل من البصرة بلده، وهل البصرة إلا حجارة بيض، يطأها إنس وربيض (يعني الأغنام ورعاتها) إلى أن يقول: وأهل البصرة - سلمهم الله - ينسبون إلى قلة الحنين. أليس قد مرت به هذه الحكاية، وهي أنه وجد على حجر مكتوب:
ما من غريب، وإن أبدى تجلده ... إلا سيذكر - عند العلة - الوطنا
وقد كتب تحته: إلا أهل البصرة. فإذا كانت تلك سجيتهم مع أهلهم وأوطانهم، فكيف بالذين عرفوهم من إخوانهم.
9 - تغيير الاسم
وهنا خلص إلى غرضه الذي يهدف إليه فقال: والدليل على ما قلت إنه - أدام الله عزه - لم يثبت اسمي. جعلني (محمداً) واسمي (أحمد) فإن احتج بأن هذين الاسمين سواء لقوله تعالى: (محمد رسول الله، والذين معه. . . الخ).
ولقوله في موضع آخر: (برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) فإن ذلك إنما كان للنبي (ص) خاصة، لأنه قال: (اسمي في السماء أحمد، وفي الأرض محمد).
فإن قال: (إن العرب قد يكون للرجل منهم الاسمان والثلاثة) واحتج بقول دريد بن الصمة:
(تنادوا فقالوا: أردت الخيل فارسا ... فقلت: أعبد الله ذلكم الردى)
وقال فيها:
فإن تُنْسنا الأيام والعصر تعلموا ... - بنى قارب - أنا غضاب بمَعْبد
(والمعري إنما يستشهد بهذا البيت لأن معبداً وعبد الله علمان على شخص واحد) فإن ذلك لا يخلو من أحد أمرين:
(إما أن يكون للرجل اسمان) ولست كذلك، وإما أن يكون الشاعر غيّر اسمه للضرورة. ولو كان غير اسمي في النظم - دون النثر - لكان عذره في ذلك منبسطاً لأن الشعراء الجلة يغيرون الأسماء. قال الحطيئة:
(وما رضيت لهم حتى رفَدتهم ... من وابل رهطِ بسْطامً بإحْرام
فيه الرماح، وفيه كل سابغة ... قضّاء محكمةٍ من نَسْج سلام
أراد سليمان عليه السلام. وهذا تغيير على غير قياس لا يسلك مسلك غيره، من قولهم: عالية وعُلية. وفاطمة وفطيمة في القصيدة الواحدة يعنون امرأة بعينها.
ولا مجرى قولهم أبو قابوس وأبي قبيس للنعمان بن المنذر لأن هذا ترخيم التصغير. إلى أن قال: (ولا ندفع أن الشعراء قد سموا الرجل باسم أبيه على سبيل الضرورة وهكذا إلى أن قال: (وأنا أتسامح له، وأعدها زيناً لا شيناً، إذ كانت قذاة في بحر مزبد، بل أثر سجود في جبهة متعبد. وله أن يقول: إنه تشبث بالكنية فاستغنى بها عن الاسم. أما أنا فحفظت اسمه ونسبه وكنيته، ولم أنس أيامه ولا مذاكرته. وقد جعلت جواب كتابه نائباً مناب الاجتماع معه، فلا ينكر عليّ الإسهاب في المحاورة، والإكثار من المفاوضة.
(البقية في العدد القادم)
كامل كيلاني