مجلة الرسالة/العدد 658/شئون عربية
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 658 شئون عربية [[مؤلف:|]] |
في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب ← |
بتاريخ: 11 - 02 - 1946 |
فلسطين - شرقي الأردن
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
لا ندري كيف نعلل سماح الحكومة البريطانية لليهود بأن يهاجر منهم إلى فلسطين ألف وخمسمائة كل شهر حتى تقدم لجنة التحقيق البريطانية الإنجليزية اقتراحاتها أو توصياتها، وهي مكلفة أن تفعل ذلك في أربعة أشهر.
فقد نقضت عهدها الصريح في الكتاب الأبيض أن لا يباح ليهودي أن يهاجر إلى فلسطين بعد انقضاء السنوات الخمس - وقد انقضت - ودخول العدد المنصوص عليه في الكتاب، وهو خمسة وسبعون ألفاً، وقد دخلوا - إلا بإذن العرب وموافقتهم، وقد أبى العرب كل الإباء أن يأذنوا ويوافقوا.
ولسنا نظن أن أحداً سيزعم أن الحكومة البريطانية جنبت أي خير بنقضها هذا العهد. فإن ستة آلاف يؤذن لهم في الهجرة إلى فلسطين في أربعة شهور رقم ضئيل لا يرضي اليهود أو يقنعهم، ولا يتألفهم من نفرتهم، ولا يسكن من ثائرتهم على بريطانيا، ولا يغريهم بالكف عن قتل أبنائها في بلاد فلسطين. وإذا قيل إنها فعلت ذلك مجاملة منها للرئيس ترومان، قلنا: وما ستة آلاف، وقد كان يطلب السماح لمائة ألف بالدخول؟ وأين المجاملة وقد مضى على طلبه هذا شهور وشهور ألفت في خلالها لجنة التحقيق وشرعت في أداء ما وكل إليها؟ ومثل هذا يقال عما بزعمه البعض في أنها أرادت أن تظهر للكونغرس الأمريكي أن هواها مع اليهود، وآية ذلك أنها نقضت الكتاب الأبيض بهذه الهجرة الجديدة، وأول الغيث قطر كما يقولون. وبها حاجة إلى رضى الكونغرس الأمريكي، حتى لا يرفض القرض الذي عقد لها في أمريكا.
فلا هي أرضت اليهود، ولا هي أحسنت المجاملة، ولا أقنعت الكنغرس، وكل ما كسبته بهذا النكث أنها أثبتت لليهود أنها ضعيفة، وأنها توسعهم حلماً وليناً كلما أوسعوها عدواناً وأسرفوا في تقتيل رجالها.
وأثبتت للعرب أنها لا وفاء لها ولا عهد. فما حاسنها أجد محاسنه العرب، وعاونوها أصدق معاونة في أيام الحرب، ولو شاءوا وكان ذلك في طباعهم لغدروا بها واغتنموا فرص الحرب، فأقلقوها وأزعجوها، وكانوا شوكة في جنبها، وإنها لتعرف بالتجربة، في ثورتيهم، أنهم لا يخافون البطش، ولا يهابون القوة ولا يروعهم البأس، إذا صمموا وألقوا عزمهم بين أعينهم، ولكنهم آثروا الوفاء لها في محنتها وكانوا كراماً، وهذا جزاؤهم! يضربها اليهود بسلاحها الذي يسرقونه من مخازن قواتها، وينسفون منشآتها، ويقتلون رجالها، ويستخفون بقوتها أيما استخفاف، فتربت لهم على ظهورهم وتقول لهم: تعالوا ادخلوا على بركة الله! وكانت أيام ثورة العرب عليها قبل هذه الحرب، إذا عثر رجالها على بندقية قديمة بالية ليست أجدى على صاحبها من سيف أبي حية النميرى تشنق الرجل، وتفرض الغرامات الفادحة على القرية، وتفعل الأفاعيل المنكرة!
ومن الغريب أنها تسوغ السماح بهذه الهجرة الجديدة بأن عليها تبعات تفرضها عليها شروط الانتداب ما دام قائماً. كأن الحكومة البريطانية التي أصدرت الكتاب الأبيض كانت تجهل شروط الانتداب حين قررت أن تنقطع الهجرة الصهيونية بعد السنوات الخمس إلا بإذن العرب! أو كأن شروط الانتداب لا تنص صراحة على اجتناب أي عمل يضر بأهل البلاد الأصليين أي العرب!
ومن الغريب كذلك أنها تقول في البلاغ الذي أذاعته في هذا الصدد إن (المداولات) مع العرب طالت، والذي نعرفه أنها لم تطل، فقد رفض العرب أن يوافقوا على هذه الهجرة الجديدة، وكانوا على حق في رفضهم، فإنها بلادهم، ولهم أن يأبوا أن يدخلها من لا يأمنون جانبه ولا يطمئنون إليه، بل من يخافون شره. وطبيعي أن يرفضوا دخول يهود آخرين لئلا يصبح اليهود هم الكثرة، فيؤول أمر البلاد إليهم، ويصبح العرب قلة وغرباء في أرضهم. ثم إن الكتاب الأبيض الإنجليزي نفسه يخول لهم الحق في القبول أو الرفض، ويجعلهم أصحاب الرأي والقول الفصل في ذلك، وقد رفضوا بحقهم، فكان على بريطانيا أن تحترم ما ذهبوا إليه، وان تحترم عهدها هي نفسها. فأما وهي لم تفعل، فمن ذا الذي يسعه أن يثق بعهد جديد لها، أو يطمئن إلى لجنة التحقيق وقد بدا من بريطانيا هذا الهوى؟
وقد أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستعترف قريباً باستقلال شرقي الأردن، وكان تحت الانتداب تبعاً لفلسطين، وسيسافر صاحب السمو الأمير عبد الله أمير شرقي الأردن إلى لندن للاتفاق على الشروط التي يتم بها الاعتراف باستقلال إمارته، وسينادى سموه بنفسه ملكاً بعد ذلك على الأرجح، فما يبقى بعد الاعتراف لبلاده بالاستقلال ما يحول دون اتخاذه أي لقب يشاء بإرادته الحرة.
ولا ريب أن الاعتراف باستقلال شرقي الأردن سيكون خطوة لها ما بعدها، وقد يعفى - أو لا يعفى - بريطانيا من العون المالي الذي تبذله له كل عام، فإنه بلد فقير إلى الآن، وقليل عديدة، وإن كان من أطيب البلاد وأكثرها كنوزاً، وسيحول استقلال شرقي الأردن دون امتداد الصهيونية إليه ودخولها فيه، وكان ذلك مطمعها، وقد سخطت ونقمت لما أذيع الوعد بالاستقلال، وعدت هذا غدراً من بريطانيا بالصهيونية، لأن الصهيونية تعد البلاد العربية كلها والشرق الأوسط أجمعه مجالاً حيوياً لها، كما كان (هتلر) يعد شرقي أوربا وشرقيها الجنوبي مجالاً حيوياً له أو للرايخ. على أني لا أظن إلا أن هتلر كان تلميذاً لليهود، فقد أخذ عنهم (العنصرية) وأسرف فيها كإسرافهم الذي كلف العالم - ويكلف العرب الآن - شططاً.
ونحن نعرف معنى الاستقلال في معجم السياسة البريطانية، وما يحتاج الاعتراف باستقلال بلد ما، إلى شروط، فإذا احتاج فالشروط ولا شك قيود، وتدلنا التجربة على أن بريطانيا قد أعدت لاستقلال شرقي الأردن شروطاً تجعل لها نفوذاً فيه وسلطاناً عليه، وتخولها اتخاذ مطارات - على الأقل - في أرضه، على نحو ما صنعت في العراق. بهذه الشروط - كائنة ما كانت، وفي أي قالب صبت - يدخل شرقي الأردن في منطقة النفوذ البريطاني.
ومثل هذا الاستقلال لا يعد تاماً، ولا حقيقياً، ولا وطيداً، وقد رأينا ما آل إليه استقلال العراق واستقلال مصر، وعرفنا حقيقة الأمر في البلدين، ولن يكون شرقي الأردن أجزل حظاً، فإن الاستقلال (يؤخذ ولا يعطى) كما قال المرحوم الملك فيصل في خطبة له بالشام بعد أن دخلها في أخريات الحرب العالمية الأولى على رأس الجيش العربي، فإذا أعطى فهو منحة، والمنحة تكون بقدر.
ولكن هذا الاعتراف سيكون خطوة على كل حال، لها ما بعدها كما أسلفنا، وبه يستفيد البلد قدراً من الحرية تتيح له أن يتجه وجهته إلى حد ما، وتشجعه على الأمل والتطلع والسعي، وتغير ما به تغييراً غير هين، ومن المحال بعد أن ينعم بهذا القدر من الحرية أن يُسلبه، بل الطبيعي أن يتسع النطاق، فتصدع القيود شيئاً فشيئاً على الأيام. وتلك سنة الحياة، فلا وقوف ولا رجوع. وهل تكف الأيام عن الدوران، وسن الإنسان الحي عن الارتفاع؟ أو هل تكر الكهولة راجعة إلى الشباب الذي ولى عهده، أو الطفولة التي تقضى أوانها؟ كذلك الأمم لا وقوف في حياتها ولا رجوع، حتى تستنفد حيويتها ويبلغ أجلها مداه، كما يبلغ أجل الفرد مداه وكل ما هنالك من الفرق أنها لا تفنى فناء الفرد، بل يدركها ما نسميه الانحطاط، وليس يحفظها من الانقراض إلا دخول دماء جديدة فيها، فتصبح وكأنها تسربت في غيرها وغابت فيه، لأن هذا الغير أقوى وأزخر حيوية، فإذا لم يتح لها ذلك بادت كما بادت القرون الخالية.
من أجل هذا نؤثر أن نستبشر بالاعتراف القريب باستقلال شرقي الأردن، ويسرنا أن الله قد حقق لصاحب السمو الأمير عبد الله ما كان مأربه من أول يوم دخل فيه هذا البلد الطيب، فما دخله ليضعه تحت الانتداب البريطاني، بل ليستقل به ويكون ملكا عليه حراً فيه، غير أن المقادير جرت بخلاف ذلك، فالآن تم له ما أراد، أو بعضه، فله ما التهنئة، والرجاء المخلص أن يرى في هذا ما يغنيه عن التفكير في (سورية الكبرى)، فأن نجاح المسعى إذا اتجه إلى العراق أقرب منه إذا أتجه إلى سوريه.
والله أعلم وهو الموفق.
إبراهيم عبد القادر المازني