الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 657/وأين صالحية مصر؟

مجلة الرسالة/العدد 657/وأين صالحية مصر؟

بتاريخ: 04 - 02 - 1946


للأستاذ أحمد رمزي

كتب الأستاذ علي الطنطاوي مقالاً في عدد الرسالة الماضي تحت عنوان من (ذكريات بغداد)، أشار فيه إلى صالحيتين فقال (بروحي صالحية دمشق وصالحية بغداد)، ونسي صالحية مصر، فسامحه الله - لذا جئت أذكره بها.

أما موقعها فعلى نهاية الخط الحديدي المعروف بها، وكانت تربطها بالقنطرة سكة حديدية، أقيمت أيام الحرب الماضية، ثم نزعت قضبانها الحكومة المصرية لسبب لا يعلمه إلا الله، وبقيت المحطات بين الصالحية والقنطرة أنقاضاً، تذكّر الناس بحملة فلسطين وأنفار السلطة، وكانت القطارات تمر على الخط بعد منتصف الليل، ولا يزال صدى صوت المجنّدين للسلطة وأغانيهم البريئة يرن في أذني، حينما كنا صغاراً فيقطع نومنا الهادئ صفير القطارات العسكرية تحمل العتاد والرجال للجبهة في شرقي القنال.

وصالحية مصر، فيها جمال الواحة وجمال الريف، ولقد دخلتها وقت طلوع الفجر، فأخذتني روعة الصحراء، ورأيت الرمال ممتدة إلى نهاية النظر، تلك الرمال التي قال عنها العرب: الجفار والغرابي والهبير، وهي الواقعة وراء جبال طي إلى أرض مصر، أما نخيلها فيبدو كغابة من غابات إقليم الشرقية، التي ينفرد بها إقليم الحوف كما كان يطلق عليه قديماً، إذا أتيت إليها من الغرب مشرقاً، شممت لأرض الحوف نسيماً أرق من نسيم الدلتا، لأنه يحمل أريج الصحراء، وإذا نظرت إلى نخيل الصالحية عند الشروق أو في ليالي القمر، شهدت منظراً لا تشبع العين منه، وتحس في صالحية مصر بالنشاط الذي يملأ النفس والجسد، ويجعلك تفكر في آفاق بعيدة فيما وراء النظر، فيما وراء هذه الرمال، حيث مشرق الشمس ومطلع سراج الدنيا. والصالحية من بناء سلطان عظيم، هو الملك الصالح نجم الدين أيوب، طيب الله ثراه، أنشأها سنة 644 هجرية، على طريق القوافل بين مصر ودمشق، لتكون منزلة لعساكر الإسلام، إذا خرجوا من مصر للجهاد في الأراضي المقدسة، أو عادوا من الحرب إلى مصر، وبنى بها قصراً وجامعاً وسوقاً، وكان ينزل بها ويقيم فيها، ودخلها من بعده الكثير من ملوك مصر وأمرائها في ذهابهم للفتوح ودعوتهم منها، ولذا تألق اسم الصالحية في تاريخ مصر العربي، وعرف صعيدها الكثير من العز والمجد، وورد ذكره في مختلف التواريخ والسير.

وأهلها من صميم العرب، لهم في التاريخ والمواقف الخالدة، وكانت الرياسة فيهم ولا تزال إلى اليوم في آل الحوت، وهم فرع من بني سليم، جاءوا مع السيد عزّاز صاحب الجزيرة البيضاء، وكانت هذه النواحي وما حولها من قديم الزمن وقبل بناء الصالحية منازل لجماعات من القيسية واليمنية، وكان كبيرهم ربيعة بن قيس، ورد ذكره إبان حوادث المأمون وأخيه الأمين، فهو الذي تمسك ببيعة الأمين الخليفة العباسي، وكانت مصر قد خطبت باسم المأمون وله عامل بالفسطاط، فبعث برجل أسمه الجروي، الذي سار في جماعة من لخم وجذام إلى بلدة فاقوس، فنزل مع قومه بها وكانت له مع قبائل البلاد وقائع وحروب.

وكانت هذه المناطق موطناً للعرب، ومن بني عمرو وبني حرام وبني عقبة وبني زهير وبني واصل والبقرية، وهم الذين تفرقوا في النواحي وعمروا القرى والبلاد ببطونهم وأفخاذهم.

ولما تم بناؤها أصبحت الصالحية من أهم منازل الدرب السلطاني الذي كان يربط قلعة مصر القاهرة بقلعة دمشق، طوال الأزمان الماضية، وقد وصفه المقريزي فقال أنه كان عامراً إلى سنة 806 هجرية، وكان لا يخلو من المسافرين لأنه ممر البريد السلطاني بين العاصمتين. ولما جاء الفرنسيون رسموه على خرائطهم ووضعوا عليها أماكن الآبار، وساروا فيه بجنودهم إلى الشام وفي عودتهم إلى مصر.

ولقد قطعت الطريق بين مصر وفلسطين في ذهابي إلى سوريا وعودتي منها مراراً عديدة، وكنت أقطع القنال أحياناً من السويس وأحياناً من الإسماعيلية مخترقاً سينا، وكنت كلما لاح لي نخل القرين وأنا على مفترق الطريق قبل بلدة التل الكبير، أذكر الدرب السلطاني القديم، الذي كان يتجه من العباسة إلى بلدة القرين ثم إلى الصالحية، وأحدّث نفسي بالآمال فأقول (متى يعبّد للسيارات فتسير عليه)، ومتى تهتم السلطات المختصة بالنواحي التاريخية؟ أليس في كل مرحلة منه ذكريات، وفي كل محطة بريد أثر أو بقايا أثر، يحدثنا عن ماضينا المجيد الذي يحاول البعض أن تنساه مصر، وما كان لمصر أن تنساه.

وهذا الدرب السلطاني يعرفه ابن بطوطة الرحالة المشهور فقد سار فيه وتحدث عن منازله، ووصفها بقوله (ولكل منزل منها فندق ينزل فيه المسافرون بدوابهم، وبخارجه ساقية للسبيل وحانوت للشراء) وذكر الصالحية عند نزوله بها.

أما الشيخ عبد الغني النابلسي فكان أوسع وصفاً منه حينما تناول الصالحية بكلامه، فقال (وفي داخل القرية جامع السلطان قايتباي وعمارته متينة، له إيوان عريض فيه المنبر والمحراب وله منارة عظيمة. . . وأهل الصالحية حارتان متميزتان في الألفاظ والمعاني فمنهم القيسي الأحمر واليمني الأبيض)

ولو شئت دليلاً على قيام القيسية واليمنية بقرى مصر، فأذهب اليوم إلى بلدة السماعنة من قرى فاقوس، تجد فتياتها لا يتخذن غير اللون الأبيض لخمارهن، وإذا جئت لجزيرة سعود وجدت نساءها يلبسن الحزام الأحمر، ولا تعرف واحدة منهن شيئاً عن النزاع القديم الطويل الأمد بين اللونين، والذي يمكن تتبعه من خراسان إلى ما وراء النهر في أواسط آسيا والعودة به إلى أيام الجاهلية، والتحدث عنه في الجزيرة الخضراء أي بأرض الأندلس.

ونعود إلى الصالحية فنقول إن موقعها على طرف الأراضي الزراعية وعلى حافة الصحراء، قد جعل منها مركزاً هاماً لتجمع وحشد الجيوش الإسلامية في القرون الوسطى، حتى بعد انتهاء الحروب الصليبية، فورد اسمها كثيراً في حملات ملوك مصر ضد هولاكو وأبنائه وأحفاده، وكانت لها شهرة تاريخية بتوالي هذه الحروب، وتتابع الأحداث التاريخية والمواقف الرائعة التي حدثت بها.

ففي سنة 656 هجرية دخل هولاكو بغداد مقتحماً الجزء الغربي من بلاد المسلمين فقضى على خلافتهم، وكان جدّه قد سبقه عام 618 فدّمر الأجزاء الشرقية من أرض الإسلام في بخارى وسمرقند والري، فأراد أن يتم عمله بتدمير مصر والشام، ولذا زحف على حلب واستولى عليها، وبعث برسالة إلى سلطان مصر الملك المظفر، يهدّد ويتوعد، وسار إلى دمشق ففتحها، وكان المظفر من أبطال المسلمين، فلم يرهبه التهديد ولا الوعيد، وكانت جيوش هولاكو لا تقهر ولم يسبق لقوة في العالم أن هزمتها أو صمدت أمامها، فاكتسحت بقية الشام ووصلت طلائعها إلى غزة فقام المظفر يدعو إلى الجهاد، واتخذ الصالحية مركزاً تجتمع فيه الجيوش المصرية، وكان الناس في قلق وخوف ووجل، حتى هاجر الكثيرون إلى بلاد اليمن وبرقة والنوبة، ولما تكامل حشد الجنود في معسكر الصالحية؛ طلب السلطان الأمراء وتحادث معهم بشأن الرحيل لقتال هولاكو وجنوده، وكان الرأي الغالب أن جيش التتار لا يقاوم ولا يدفع، فلم ينطق أحدهم بكلمة واحدة بل امتنعوا عن الكلام فاحتد السلطان وقال لهم (يا أمراء، لكم زمن تأكلون أموال بيت المال وأنتم للجهاد كارهون، وأنا متوجه فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع لبيته، فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين) ولما جاء الليل ركب المظفر وقال (أنا ألقي التتار بنفسي).

فقويت العزائم وسار الأمراء معه وتحرك الجيش إلى الشام، والتقى الجمعان في يوم الجمعة 15 رمضان سنة 658 هجرية بأرض فلسطين، في بلدة عين جالوت وهي المعركة التي صرخ فيها السلطان ثلاثاً (وا إسلاماه) فمن الله بالنصر المبين عليه، فخلصت الشام ونجحت مصر.

كان هذا الجمع في النصف الأخير من شعبان سنة 658 بالصالحية، وكنت كلما قرأت عنه في المراجع؛ أحدّث نفسي؛ متى أرى نصباً تذكارياً على ربوة عالية، في ميدان متسع، يذكر الناس ويوحي إلى الأجيال القادمة، بهذه الوقفة الرائعة به وهذه كلمة واحدة قد غيرت تاريخ المشرق ولو صدر مثلها من ملك من ملوك أمة من بعض الأمم لنقشوها على الأحجار وللقّنوها للأحداث والنشئ عندهم، وليس هناك أحق من الصالحية في نظري بمثل هذا الأثر، الذي يعلم الناس ما يجهلون من آيات تاريخهم، لأن على أرضها قيلت هذه الكلمة الفاصلة.

ويطول بنا الكلام إذا تحدثنا عن كل ملك نزل بها وأقام فيها، ولكني أكتفي بمناسبة سارة. ففي يوم الاثنين 20 المحرم سنة 701 عاد الناصر محمد بن قلاوون من الصيد بالبّرية إلى معسكره بالصالحية، وكان هناك بعثة من قازان ملك التتار من سلالة هولاكو، فخلع السلطان على الأمراء واستعرض الجيوش، فدهش السفراء من زي عساكر مضر واستعدادهم، وقال المقريزي (إن الرسل أدخلوا إلى الدهليز السلطاني بالصالحية بين يدي السلطان، وقد أوقدت الشموع والفوانيس والمشاعل وغيرها، حتى أن البرّية أصبحت حمراء تلتهب نوراً وناراً، فخلع عليهم وأعطى كل واحد منهم عشرة آلاف درهم) وانصرفوا بكتاب من الملك الناصر.

ومثل هذا كثير لو تناولناه بالجمع في تاريخ الصالحية لأخرجنا كتاباً عنها، ولكنها نظرات عابرة في حياة بلدة أعزها ولها مكانة في نفسي، أكتبها لعلمي بأن البلدان والرسوم والأطلال مثلها كمثل الرجال تتكلم أحياناً، وتوحي عن ماضيها ولا سيما إذا حفل هذا الماضي بعظائم الأمور.

ونزلها آخر ملوك مصر المستقلة، السلطان الغوري في يوم الثلاثاء 25 ربيع الآخر سنة 922 هجرية، ولما أراد الرحيل أذن لخليفة الإسلام وللقضاة الأربعة أن يتقدموه إلى غزة. وكانت رحلة بعيدة عن السعد، اختتمت بها مصر حياتها الحرة، فانتهى عهد وبدأ بها عهد، وجاء ذكر الصالحية في تاريخها كنغمة غير مسموعة، وسط قطعة موسيقية مملوءة بنغمات أقوى، ولكنها كانت للأسف نغمات الحزن والأسى والدموع. . .

هذه صالحية مصر، أشير إليها كي يذكرها الناس في وقت نسى الناس فيه كل شيء، وتقرر الحكومة المصرية فيه إنشاء مركز جديد، يقتطع من أراضي مركز فاقوس، فتقلب جميع الأوضاع، وتدرس مختلف الأسماء، وشتى القرى والبلاد، وتنسى الصالحية، كما نسيها الأستاذ الطنطاوي سامحه الله - وأجتهد أن أذكر الناس بها، وأحاول ذلك المرة بعد المرة، فلا يسمع لي أحد، ولكن الصالحية هي من بناء ملك عظيم، وكانت من منازل عظماء الملوك، ومنها خرجت جيوش الإسلام وعادت إليها منصورة. فكم منا من يعرف ذلك ويذكره! وكم من أهلها يعرف أن هذا الثرى الذي يمشون عليه، حمل أعلام العز والمجد والقوة والعمل في سبيل الله؟ لن يضيرها أن تتجاهلها وزارة الداخلية ولكن يضيرها أن ينساها الناس ولاسيما أهلوها.

أحمد رمزي

القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان